السبت 25/مايو/2024

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (1)

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (1)
تقديم : طه محمد علي
تأليف: ايلان بابه
ترجمة :أحمد خليفة
كتاب ايلان بابه «التطهير العرقي في فلسطين ، يكشف المسكوت عنه حول دور التطهير العرقي في حرب إنشاء إسرائيل التي سميت «حرب الاستقلال» فيما سماها العرب بحق «نكبة» فلسطين.

ويدحض المؤلف الأفكار الرائجة هنا وهناك عن أن نزوح الفلسطينيين من أرضهم يعود إلى اختيار طوعي أو إلى وعود الجيوش العربية بأن النازحين سيعودون ما إن تكمل تلك الجيوش عملياتها ضد ما سمي آنذاك «العصابات الصهيونية».

وما جرى عام 1948 في فلسطين معقد وبسيط في آن، ويمكن تجاوز التعقيد الذي نشرته أجهزة إعلام وإشاعات، إلى الحقيقة القائلة إن ما حدث بسيط ومرعب، إذ تم تطهير مساحات كبرى من فلسطين من سكانها الأصليين، ما يُعتبر جريمة ضد الإنسانية أرادت إسرائيل إنكارها ودفع العالم إلى نسيانها. والكتاب هو محاولة لاسترداد وقائع إسرائيلية مشينة، من النسيان.

تصدر الطبعة العربية من الكتاب في أواسط الشهر المقبل عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأنجز الترجمة  الأستاذ أحمد خليفة. والمؤلف ايلان بابه من المؤرخين الإسرائيليين الجدد وأستاذ في جامعة حيفا وناشط في مؤسسات أبحاث من اجل السلام، وله مؤلفات أخرى عن تاريخ فلسطين الحديث والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

«نحن لم نبك/ ساعة الوداع!/ فلدينا/ لم يكن وقت/ ولا دمع/ ولم يكن وداع!

نحن لم ندرك/ لحظة الوداع/ أنه الوداع/ فأنّى لنا البكاء؟!

(1988)

(لاجئ من قرية صفورية)

«أؤيد الترحيل القسري، ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي.

(ديفيد بن غوريون،

مخاطباً اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية،

في حزيران/يونيو 1938)

«البيت الأحمر» كان من أفضل نماذج البناء في تل أبيب في أعوامها الأولى. كان مصدر فخر للبنائين والحرفيين الذين عملوا في بنائه في العشرينيات من القرن الماضي، وقد جرى تصميمه ليكون المقر الرئيس لمجلس العمال المحليين. وظل هكذا إلى أن أصبح في أواخر سنة 1947 مقر قيادة الهاغاناه، أجهزة الأمن الصهيونية الرئيسة في فلسطين. كان على مسافة قريبة من البحر في شارع اليركون، في الجزء الشمالي من تل أبيب، وشكل إضافة بديعة إلى المدينة «العبرية» الأولى، المنشأة على ساحل البحر الأبيض المتوسط؛ «المدينة البيضاء»، كما كانت الطبقة المثقفة والنخبة المتعلمة من سكانها تسميانها تحبباً. ذلك بأن بياض مبانيها النقي في تلك الأيام، خلافاً لحالها اليوم، كان يكسب المدينة بأسرها ذاك الألق الساحر الذي اتسمت به مدن موانئ البحر الأبيض المتوسط في تلك الحقبة، وفي بعض الأمكنة الجغرافية. كانت متعة للنظر، وقد امتزجت بانسجام في مبانيها الأساليب المعمارية الفلسطينية المحلية بأساليب الـ bauhaus (طراز بناء ألماني – المترجم) في خليط أُطلقت عليه تسمية Levantine ، بمعنى يخلو تقريباً من الإيحاءات السلبية لهذا المصطلح. لقد كان «البيت الأحمر» على شكل مستطيل بسيط، ازدانت واجهته الأمامية بأقواس شكلت إطاراً للمدخل، وسندت شرفات الطبقتين العلويين. أمّا صفة «الأحمر» فقد كانت مستوحاة إمّا من ارتباطه بالحركة العمالية، وإمّا من الصبغة الحمراء الوردية التي كانت تلونه وقت غروب الشمس. والتفسير الأول أكثر ملاءمة. وقد تواصل اقتران المبنى بالنسخة الصهيونية من الاشتراكية عندما أصبح، في السبعينات من القرن الماضي، المقر الرئيس للحركة الكيبوتسية. إن بيوتاً مثله، هي بقايا تاريخية مهمة من مخلفات فترة الانتداب، جعلت اليونسكو في سنة 2003 تصنف تل أبيب موقعاً تراثياً عالمياً.

هذا المبنى لم يعد موجوداً الآن، إذ راح ضحية التطوير، الذي هدم هذا الأثر المعماري ليحول المكان إلى موقف للسيارات مجاور لفندق شيراتون الجديد. كما لم يبق في الشارع الذي كان قائماً فيه أي أثر لـ «المدينة البيضاء» التي تحولت بالتدريج إلى الحاضرة المترامية الأطراف، الملوثة الهواء، النابضة بالحياة؛ أي تل أبيب الحديثة.

في هذا المبنى، عصر يوم أربعاء بارد، في 10 آذار (مارس) 1948، وضعت مجموعة من أحد عشر رجلاً، مكونة من قادة صهيونيين قدامى وضابطين عسكريين شابين، اللمسات الأخيرة على خطة لتطهير فلسطين عرقياً. وفي مساء اليوم نفسه، أُرسلت الأوامر إلى الوحدات على الأرض بالاستعداد للقيام بطرد منهجي للفلسطينيين من مناطق واسعة في البلد. وأُرفقت الأوامر بوصف مفصل للأساليب الممكن استخدامها لإخلاء الناس بالقوة: إثارة رعب واسع النطاق؛ محاصرة وقصف قرى ومراكز سكانية؛ حرق منازل وأملاك وبضائع؛ طرد؛ هدم (بيوت ومنشآت)؛ وأخيراً، زرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى منازلهم. وتم تزويد كل وحدة بقائمة تتضمن أسماء القرى والأحياء المحدَّدة كأهداف لها في الخطة الكبرى المرسومة. وكانت هذه الخطة، التي كان اسمها الرمزي الخطة دالِتْ [الحرف «د» بالعبرية]، هي النسخة الرابعة والنهائية عن خطط أقل جذرية وتفصيلاً عكست المصير الذي كان الصهيونيون يعدونه لفلسطين، وبالتالي لسكانها الأصليين. وقد كانت الخطط الثلاث السابقة تعكس في شكل مبهم تفكير القيادة الصهيونية بالنسبة إلى كيفية التعامل مع تلك الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين القاطنة في الأرض التي كانت الحركة القومية اليهودية تشتهيها لنفسها. أمّا هذه النسخة الرابعة والأخيرة، فقد بينت ذلك بوضوح، وعلى نحو غير قابل للتأويل: الفلسطينيون يجب أن يَرْحلوا. وبحسب تعبير سمحا فلابان ( Simcha Flapan )، من أوائل المؤرخين الذين أشاروا إلى أهمية هذه الخطة ومغزاها، فإن «الحملة العسكرية ضد العرب، بما في ذلك غزو المناطق الريفية وتدميرها، رُسمت معالمها في خطة دالِتْ التي أعدتها الهاغاناه» وكان هدف الخطة، في الواقع، تدمير المناطق الفلسطينية الريفية والحضرية على السواء.

هذه الخطة، كما سنحاول أن نوضح في الكتاب، كانت النتيجة الحتمية للنزعة الأيديولوجية الصهيونية التي تطلعت إلى أن تكون فلسطين لليهود حصراً، كما أنها كانت استجابة للتطورات على الأرض في إثر قرار الحكومة البريطانية بإنهاء الانتداب. وأتت الاشتباكات المسلحة مع الميليشيات الفلسطينية المحلية لتوفر السياق والذريعة المثالية من أجل تجسيد الرؤيا الأيديولوجية التي تطلعت إلى فلسطين نقية عرقياً. وكانت السياسة الصهيونية في البداية قائمة على ردات فعل انتقامية على الهجمات الفلسطينية في شباط (فبراير) 1948، لكنها ما لبثت أن تحولت في آذار (مارس) 1948 إلى مبادرة لتطهير عرقي للبلد بأكمله.

بعد أن اتخذ القرار، استغرق تنفيذ المهمة ستة أشهر. ومع اكتمال التنفيذ، كان أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين، أي ما يقارب 800.000 نسمة، قد اقتُلعوا من أماكن عيشهم، و531 قرية دُمرت، و11 حياً مدينياً أُخلي من سكانه. إن هذه الخطة التي تقرر تطبيقها في 10 آذار 1948، والأهم من ذلك تنفيذها بطريقة منهجية في الأشهر التالية، تشكل مثالاً واضحاً جداً لعملية تطهير عرقي، وتعتبر اليوم في نظر القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية.

أصبح من المستحيل تقريباً، بعد الهولوكوست، إخفاء جرائم شنيعة ضد الإنسانية. والآن، في عالمنا المعاصر، الذي يشهد ثورة في مجال الاتصالات، وخصوصاً مع تكاثر وسائط الإعلام الإلكترونية وانتشارها، لم يعد في الإمكان إنكار كوارث من صنع البشر، أو إخفاؤها عن أعين الرأي العام. ومع ذلك، فإن هناك جريمة كهذه جرى محوها كلياً تقريباً من الذاكرة العامة العالمية، وهي جريمة طرد الفلسطينيين من وطنهم في سنة 1948. إن هذا الحدث المصيري، الأكثر أهمية في تاريخ فلسطين الحديث جرى إنكاره بصورة منهجية منذ وقوعه، ولا يزال حتى الآن غير معترف به كحقيقة تاريخية، ناهيك عن الاعتراف به كجريمة يجب مواجهتها سياسياً وأخلاقياً.

التطهير العرقي جريمة ضد الإنسانية، والذين يقدمون عليه اليوم يُعتبرون مجرمين يجب محاكمتهم أمام هيئات قضائية خاصة. وقد يكون من الصعب التقرير بشأن المرجعية أو كيفية التعامل، في النطاق القانوني، مع الذين خططوا والذين نفذوا التطهير العرقي فلسطين في سنة 1948، لكن من الممكن استحضار جرائمهم والتوصل إلى رواية تاريخية أكثر دقة من أية رواية وضعت حتى الآن، وإلى موقف أخلاقي أكثر نزاهة.

نعرف أسماء الأشخاص الذين جلسوا في تلك الغرفة في الطبقة العلوية في «البيت الأحمر»، تحت ملصقات ماركسية الإيحاء كتبت عليها شعارات مثل «إخوة في السلاح» و «القبضة الفولاذية»، ورسوم تمثل اليهود «الجدد» – أصحاء، مفتولي العضلات، وقد لوّحتهم الشمس- يصوّبون بنادقهم من وراء سواتر واقية في «الحرب الشجاعة» ضد «الغزاة العرب المعتدين». كما أننا نعرف أسماء الضباط الكبار الذين نفذوا الأوامر على الأرض، وجميعهم شخصيات معروفة في هيكل عظماء البطولة الإسرائيلية. وكثيرون منهم كانوا إلى فترة غير بعيدة أحياء يرزقون، ويؤدون أدواراً رئيسة في السياسة والمجتمع الإسرائيليين؛ أمّا الآن، فإن قلة منهم لا تزال على قيد الحياة.

أمّا بالنسبة إلى الفلسطينيين، وكل من رفض أن يبتلع الرواية الصهيونية، فقد كان واضحاً لديهم منذ زمن بعيد، سابق لتأليف هذا الكتاب، أن هؤلاء الأشخاص ارتكبوا جرائم، وأنهم نجحوا في التهرب من العدالة، وان من الأرجح ألاّ تجري محاكمتهم على ما اقترفت أيديهم. وبالإضافة إلى هول الاقتلاع، فإن أشد ما يبعث الإحباط في نفوس الفلسطينيين هو أن الجريمة التي ارتكبها أولئك المسؤولون يستمر إنكارها تماماً، كما يستمر تجاهل معاناة الفلسطينيين منذ سنة 1948.

منذ ثلاثين عاماً تقريباً، بدأ ضحايا التطهير العرقي إعادة تجميع مكونات الصورة التاريخية التي بذلت الرواية الإسرائيلية الرسمية لأحداث سنة 1948 كل ما في وسعها لإخفائها وتشويهها. لقد تحدثت القصة الإسرائيلية التاريخية التي جرى تلفيقها عن «انتقال طوعي» جماعي أقدم عليه مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين قرروا أن يهجروا بيوتهم وقراهم موقتاً من أجل أن يفسحوا الطريق أمام الجيوش العربية الآتية لتدمير الدولة اليهودية الوليدة. غير أن المؤرخين الفلسطينيين، وفي طليعتهم وليد الخالدي، استطاعوا في السبعينات من القرن الماضي، من خلال جمع مذكرات ووثائق أصلية تتعلق بما جرى لشعبهم، أن يستعيدوا جزءاً كبيراً من الصورة التي حاولت إسرائيل محوها. لكن سرعان ما عتّم على الحقائق المستعادة مؤلفات مثل كتاب «نشوء 1948» (

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

المقاومة الإسلامية بالعراق تقصف إيلات

المقاومة الإسلامية بالعراق تقصف إيلات

بغداد - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت المقاومة الإسلامية في العراق أنها قصفت مساء الجمعة بالطائرات المسيرة هدفا حيويا في إيلات جنوب فلسطين المحتلة....

مقررة أممية تطالب بفرض عقوبات على إسرائيل

مقررة أممية تطالب بفرض عقوبات على إسرائيل

نيويورك - المركز الفلسطيني للإعلام قالت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بفلسطين فرانشيسكا ألبانيز إن إسرائيل لن توقف الجنون الذي تقوم به في رفح...