الجمعة 03/مايو/2024

في يوم الأسير: الأسرى.. قفز فوق جدار الصمت

د. محمد إبراهيم المدهون

لم يكن السجن والسجان ظاهرة حديثة في واقع البشر.. بل هي ظاهرة قديمة متجددة ولم تكن يوماً محصورة بقطر أو إقليم.. وإنما ظاهرة قائمة في كل المواقع والأزمنة.. وأسباب السجن على مدار التاريخ متعددة متنوعة.. والاعتقال السياسي هو الأبرز في عالمنا المعاصر الحديث مما يرسخ شعور الكثيرين بسيطرة الديكتاتورية رغم كل زخارف الديمقراطية وهتافها المرتفع.. فواقع الحال يغني عن المقال، فالسجون مشرعة أبوابها لاستقبال كل من يتنفس أو يهمس دون إذن مسبق حتى هتف شاعرنا..

غصَّ ما تحت السماوات وفوق الأرضين

بعيون المخبرين

كلُ إنسانٍ لدينا تهمة تمشي

ويمشي معها ألف كمين!!

نصفها في داخل السجن

ونصفٌ خارج السجن سجين!!

 

* السجين الفلسطيني:

لمَّا كان واقعنا الفلسطيني على طول المدى يتنقل من استبداد إلى سواه ومن احتلال لغيره فكان لأبناء هذا الشعب نصيب الأسد في خوض غمار تجربة الأسر بكل مرارتها وقسوتها وبكل متعتها كذلك لما تحمل من معاني التحدي والصمود والجلد، وفي السنوات القليلة الخوالي حيث الانتفاضتين، حيث لم ينجُ فلسطيني تقريباً من تجربة القيد حتى غدت أرقام المعتقلين بالآلاف في شتى قلاع الأسر المتناثرة على طول الأرض الفلسطينية والتي تزايدت أعدادها وتوسعت مساحاتها بازدياد المنتسبين لهذه المرحلة الرحيبة التي اتسعت لكل فلسطيني مقدام..

* تجربة الأسر:

تحفل تجربة الأسر بصور شتى متناقضة أحياناً في ذهن السجين وتحمل انطباعات خاصة ليس سهلاً على من خاض هذه التجربة الحافلة نسيان هذا الجزء الهام من تاريخ حياته حيث صور المعاناة المختلفة والضيق المسيطر وحرمان الحرية خاصة تلك اللحظات التي يُسام فيها السجين ألوان العذاب النفسي والجسدي.. مع لحظات الصمود والتضرع إلى الله تعالى بحفظ العقل والنفس في هذه اللحظات المخيفة.. وجزءٌ لا يُنسى كذلك لأنه لون جديد من الحياة تمتزج أرواح السجناء وتتلاصق قلباً واحداً.. فروح الجماعة السيد الآمر الناهي.. حيث لا مكان للذات والأنا في هذا القارب.. ويشعر الأسير خلال ذلك براحة نفسية واستقرار داخلي لأداء جزء من الواجب تجاه الدين والوطن والشعب..

السجن، والمعتقل، والزنزانة، وكل ظروف العزل، ومحاولات التدمير الممنهج التي استهدفت إرادة وإيمان الأسير الفلسطيني باءت بالفشل، فالفلسطينيون حوّلوا المعتقلات والسجون إلي مدارس، وجامعات، ومعاهد تعليم لغات، ومحو أميّة، وهكذا تشكّل مجتمع فلسطيني حيوي متحد وراء الجدران المعتمة الرطبة، وتحت شمس الصحراء، وفي العراء، وتحت الخيام التي لا تقي من حرّ ولا ترد البرد، وهذا (المجتمع) بكل قوّته هو الذي زوّد شعبنا بالخبرات، والطاقات، وضخّ في شرايينه العافية، وفي روحه المزيد من الصلابة.

 المواجهة بين السجون، والمعتقلات، ومعسكرات الأسر، وبين الفلسطينيين تنتهي في كل الأحوال بخروج الفلسطينيين رجالاً ونساءً وأطفالاً مرفوعي الرؤوس، أمّا الخسائر الطفيفة فإنها ضريبة لا بدّ من دفعها.

في سجون العدو نساء فلسطينيات ولدن في الزنازين بعد اعتقالهن وهنّ حوامل، ومن أنجبنهم يعيشون معهن في الزنازين!. هناك أطفال لم يبلغ واحدهم الخامسة عشرة (محمد موسي) و(آسيل عبد الواحد)، وأمهات حرمن من رؤية أطفالهن وأفراد أسرهن.
في سجون ومعتقلات الصهاينة يحرم السجناء من لمس أيدي زوّارهم لأن سجّانيهم يضعون زجاجاً يفصل بينهم ويفرضون عليهم تبادل الكلام عبر (الإنترفون). في معتقلات (أوشفتز) الديمقراطية تتم تعرية الأسري والأسيرات بحجّة تفتيشهم لإذلالهم وتحطيم كبريائهم تماماً كما حدث في سجن (أبو غريب)!. أذكّركم بأن الجنرال الأمريكية (كاربنسكي) التي كانت مديرة لسجن (أبو غريب) صرّحت بأنها التقت ذات يوم بشخص غريب يتجوّل في السجن، وعرفت أنه (إسرائيلي). ذلك الشخص دخل العراق وتوجّه إلى سجن (أبو غريب) لتقديم الخبرات التي اكتسبت في التعامل مع الفلسطينيين للحلفاء الأمريكيين ليطبقوها على السجناء والأسرى العراقيين!

ودور ال أسير لا يمكن تجاوزه أو القفز عنه أو نسيانه..دوره في بناء مجتمعه وكيانه حيث يقدم روحه ونفسه هبة للبناء والصعود فعلى أكتافه يرقى المجتمع ويحقق إنجازاته وطموحاته في التحرر والحياة الحرة الكريمة.. وأي مجتمع أو فرد ينكر هذا الدور يساهم بمزيد من التزيف والتضليل لذاته أولاً.. وبذلك غدا السجن والقيد سواراً حول معصمه رمزاً ثابتاً لمعاني الفداء والتفاني..

* الأسير والتغير السياسي..

قضية الأسرى والسجون خضعت دوماً للمتغيرات السياسية لأن أسباب الاعتقال والقيد سياسية.. وبالنظر إلى حال سجيننا الفلسطيني في واقع التغيرات السياسية اليوم.. وكيف يغدو الأسير بعد اتفاقات أوسلو وواشنطن والقاهرة؟! وبعد مؤتمرات شرم الشيخ والعقبة؟! وبعد حوارات القاهرة وصيغ التفاهم؟! وبعد قرار الانسحاب من غزة والتهدئة المعلنة؟!

أُدرجت قضية أسرى فلسطين على جدول التفاوض الإسرائيلي – الفلسطيني، ولم يملّ المفاوض الفلسطيني طرحها كمطلب ملّح يحفظ له على الأقل ماء الوجه، وتعهدت إسرائيل قبل التوقيع في القاهرة على الإفراج عن خمسة آلاف سجين فلسطيني فور التوقيع ولم تفِ إسرائيل وأبقت قضية الأسرى على جدول الابتزاز السياسي، تربطها بتوقيع تعهدات تارة وبشروط بقائهم في مناطق الحكم الذاتي تارة وبربط قضيتهم بقضية وجود عملاء للاحتلال وضرورة العفو عنهم أولاً تارة ثالثة وضرورة ضرب قوى المقاومة وجمع سلاحها تارة رابعة.

وإلى هذه اللحظة لم يحدث أي إنجاز لقضية الأسرى بطريق التفاوض السياسي..

* الأسرى ودور الشعب الفلسطيني..

لم تنعدم محاولات التجاوب مع قضية الأسرى من الشعب الفلسطيني بكافة توجهاته وتنوعت هذه المحاولات وتعددت حيث الاعتصامات والإضرابات.. والمسيرات إضافة إلى محاولات العمل الثوري لإطلاق سراح المعتقلين حيث أجادت حماس تجسيد هذا الدور، والاندفاع بحرارة سابقاً في أدائه ربما لوجود طليعة قيادية مثقفة من قيادات وكوادر الحركة خلف جدار النسيان في ذلك الوقت وعلى رأسهم الشيخ الشهيد أحمد ياسين مما شكل باعث قلق كبير ودفع هذه الحركة مراراً لمحاولات الإفراج عن المعتقلين عبر عمليات عسكرية منها خطف الشرطي الإسرائيلي نسيم توليدانو وطلب الإفراج عن الشيخ ياسين مقابل إطلاق سراحه، وكذلك محاولة خطف الباص رقم 25 قرب التلة الفرنسية في القدس حيث استشهد على إثرها ماهر سرور ومحمد الهندي وهما عضوين في خلايا عز الدين القسام الجناح العسكري لحماس وإصابة العضو الثالث صلاح عثمان.. ومحاولة الحركة المساومة على جثة الجندي ايلان سعدون الذي اختطف عام 88، وخطف الجندي ناخشون ناكسمان والمطالبة بالإفراج عن الشيخ ياسين وشحادة وديراني وعبيد ومجموعة من معتقلي كافة الاتجاهات الفلسطينية.. وقد تم هذا الحدث بعد أن كاد غبار النسيان يعلو قضية الأسرى الفلسطينيين ولم يعُد التفاوض السياسي محققاً للأهداف، ثم جاء الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين بعد محاولة اغتيال خالد مشعل في عمان والإفراج عن ستين معتقلاً لبنانياً نظير جثة جندي إسرائيلي ولكن بقيت قضية المعتقلين مشتعلة. ثم كانت صفقة الإفراج عن الأسرى اللبنانيين بطريق القوة لترسخ رسالة جديدة في الوجدان الفلسطيني مفادها أن الأسرى لن يخرجوا دون توفر ضغط قوي على حكومة إسرائيل. ثم كانت أخيراً عملية أسر الجندي شاليط والتي تحقق نجاحاً فائقاً بالحفاظ على الجندي لمدة تقترب من عام حتى باتت القناعة الكاملة بالاستجابة والإفراج عن النساء والأطفال والإفراج عن دفعة أولى بعدد 450 ومن ثم بعد شهرين الإفراج عن 550 أسيرا.

* الأسرى و القفز على جدار النسيان..

عمليات تبادل الأسرى بين الفلسطينيين والعدو الصهيوني ضخّت دماً معافى في شرايين شعبنا الفلسطيني في الضفّة والقطاع، فالأسرى خرجوا منظمين جداً، إيمانهم عميق بأنه بمقدور شعبنا الانتصار في معركته لأنه يواجه عدواً يمكن هزيمته لأنه على باطل، ولأنه يعاني من ضعف أخلاقي، وما يجمعه ليس أكثر من أوهام وأساطير يحاول إقناع نفسه بها. عن قرب، ووجهاً لوجه، وبالخبرة والتجربة عرف الأسرى الفلسطينيون نساءً ورجالاً عدوهم.
ألوف المحررين الفلسطينيين الذين تعلّموا في السجن، وطوّروا معرفتهم، وأتقنوا لغة عدوهم، وقرءوا خارطة تفكيره، ومسار حركته السياسية وتقلباتها، وتحالفاتها، وارتباطاتها، وأساليبها التي مارستها على مدى عقود. وهم تجادلوا في الشأن الفلسطيني، وما مرّت به الحركة السياسية الفلسطينية، ودرسوا جيداً أسباب فشل الثورات الفلسطينية الذاتية والموضوعية واستخلصوا العبر، وهكذا صاروا عند خروجهم (الخميرة والملح)، وكانت الظروف مهيّأة لتفجّر الانتفاضة الكبري التي كانوا في طليعتها.

كان أصحاب قضية الأسر الفلسطيني في كافة المعتقلات الذين يكويهم لظى القيد ويحرق أفئدتهم لهيب الحرمان ويجرح قلوبهم نار الشوق للأهل والوطن مبادرون دوماً لتصعيد قضيتهم حيث كانوا على الدوام جسراً لتحقيق الإنجازات سواء على صعيد تحسين الظرف الاعتقالي أو الضغط للإفراج عن المزيد منهم خاصة أصحاب الأمراض المزمنة والعاهات المتعددة.

وسلسلة حروب الأمعاء الخاوية التي قادها المعتقلون في كافة قلاع التحدي الفلسطيني (عسقلان – غزة – نفحة السبع – كفاريونا – الرملة – مجدو – الظاهرية – الفارعة – جنيد – النقب) تسطر بمداد الصبر لكافة المعتقلين عظيم عطائهم وتضحياتهم، وكان آخر هذه الحروب العامة إضراب 2004 التاريخي وإضراب العام 2000 والتي سبقت انتفاضة الأقصى وكان لها دور بارز في إذكاء نار المقاومة لدى الشعب الفلسطيني. واليوم يسطر رجال القيد أسطورة تاريخية جديدة تضاف إلى أسطر تاريخهم النضالي المضيء عبر سنوات القيد الطويلة باشتراكهم المباشر في التفاوض لإطلاق سراحهم ولإبقائهم لشرط إطلاق سراح الأسرى دون قيد أو شرط أو تمييز أساساً لنجاح أي اتفاق.

والمحاولات العدَّة هذه سواء خارج قلاع التحدي الفلسطيني أو داخلها إن لم يكن لها نتيجة ملموسة في حل أزمة القيد الفلسطيني جذرياً إلا أنها كانت تقفز دوماً بقضية الأسرى فوق جدار الصمت والنسيان لتحدث به شروخاً يُسمع العالم قضية أسرى فلسطين.

هذا كله عدا دور المؤسسات الإنسانية التي اهتمت بالأسير الفلسطيني وحاولت حل مشاكله سواء المادية أو المعنوية مع المحاولات المتكررة لطرح قضية الأسرى إعلامياً لتنال من الاهتمام ما يناسبها.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

عدنان البرش.. الطبيب الإنسان

عدنان البرش.. الطبيب الإنسان

غزة – المركز الفلسطيني للإعلاملم يترك الدكتور عدنان البرش (50 عامًا) مكانه ومهمته في إنقاذ جرحى حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية بغزة، حتى اعتقاله...