السبت 04/مايو/2024

في ذكرى استشهاد الرنتيسي والوزير.. وقفة مع الذات

د. محمد إبراهيم المدهون

حياة الأمم والشعوب والمجتمعات والأفراد إذا تقاس بقدر عطائها لا بقدر المدة الزمنية لحياتها.. لذلك كان من يعيش لغيره (وإن قصر عمره) يعيش طويلاً لأنه يسبق الزمان في ميلاده وفي قوته. ومن عاش لنفسه عاش حياة قصيرة (وإن طال عمره) لأنه ينفصل عن أمته ومجتمعه ووطنه.. وجل أولئك العظام كانت حياتهم (معظم الأحيان) قصيرة لكن الخلود لازمهم وحُفظ أسمهم محفوراً في تاريخ أمتهم وشعبهم.. أولئك الرجال الذين ينبغي أن نلتزم ذكرهم ونحيا مع أطياف نسمات تضحياتهم وعطائه.

ومن أولئك الرجال كان القائد أبو محمد حيث مضت ثلاثة أعوام بعد أن تسرب دم (القائد الشهيد عبد العزيز الرنتيسي) في هدوء الأمسية، صعد صوته من غموض الأشياء القاتمة في فلسطين مثل برج حجري لصوته الشهيد، أنا (القائد الرنتيسي) المولود في حقل فلسطين على أزهاره دم لم أستطع تفسيره طفلاً، ولم أستطع احتماله رجلاً، تعلمت كيف أمسح الدم عن الأقصى بالحرائق والتفجيرات فكانت حماس والقسام وكيف أمسح الدمع من عيون المحروميين والمكلومين فكانت المؤسسات الخيرية وكيف أربي الجيل الجديد فكانت المساجد و المدارس والجامعات. ليس في فلسطين حجر أو زاوية أو جدار لا يستطيع أن يتهجأ اسمه ليس هناك جدولاً ولا سنبلة أو شجرة لا تتشابه به مع ملامحه، تتشابه مع الرجل الذي أخفى ملامحه لتتضح معالم البلاد.

ومن أولئك الرجال أيضاً كان أبو جهاد (خليل الوزير) أمير الشهداء ومعلم من معالم الثورة وقطب من أقطاب العمل التحرري الفلسطيني فبعد تاريخ من العطاء المتواصل لقي الرجل حتفه في منزله الآمن بطريقة إرهابية لا يزال الكثير من حلقاتها مفقودا أو مُغيبا عن الجماهير حيث كان الرجل رمزاً من رموز المقاومة الصلبة والعقلية العسكرية الفلسطينية التي لا تقبل الانحناء أو التبديل.. لذلك لمّا نُشر خبر اغتياله تدافعت مواكب الشهادة الفلسطينية تلحق بركب أبو جهاد حيث سقط على ثرى فلسطين أثر نبأ استشهاد أبو جهاد ما يقرب من سبعة عشر شهيداً.

وفي السادس عشر من أبريل من كل عام (بعد استشهاد أبو جهاد) يقف شعبنا الفلسطينية وقفة إجلال وإكبار لهذا الشهيد ليقام له حفل تأبين ونصب الذكرى.. نشيد بالرجل ونذكر مناقبه وعطاءه وجهاده وتضحياته منذ أن كان فتىً يافعاً في مخيمات وشوارع غزة ومنذ التحق بركب العمل العسكري لجماعة الإخوان المسلمين في ذلك الحين وحياة الغربة والرحيل عن الوطن بعد ذلك حيث أسس مع رفاقه (حركة فتح) ومن ثم منظمة التحرير الفلسطينية وكان الرجل العسكري الأول في هذه الحركة وقائد وحدات الانطلاق نحو فلسطين لذلك كان الرجل هدفاً ثميناً وصيداً غالياً لأولئك الذين سرقوا الوطن والإنسان وسرقوا البسمة من الثغر الفلسطيني، وللأسف.. تمكن السارقون من اصطياد الرجل العظيم وفي منزله حيث قُتل بطريقة وحشية حاقدة وأمام زوجته أم جهاد..

ولسنا الآن بصدد استرجاع الماضي الأليم فما زلنا نتجرع مرارة الحاضر الممتد من ذاك الماضي، ولكنا بصدد لفت النظر إلى المنهجية المعتمدة لدى شعبنا وقيادتنا ومنظماتها ألا وهي منهجية التسليم بالأمر الواقع رغم مرارته وغبنه وظلمه لشعبنا وأمتنا وأثر أي حدث يضاف إلى قاموسنا الفلسطيني يوماً أسوداً إضافياً من أيام التاريخ المليئة بنكد الطالع.. المغموسة بالمرار والعلقم، حتى غصت رزنامة الفلسطيني بالأحداث المؤلمة وما يكاد يمضي يوم أو أسبوع أو شهر إلا ونحيي الذكريات الغارقة في حبر الدمع الفلسطيني ويغدو همنا الأوحد بعد الحدث وألمه كيفية إحياء ذكراه والوقوف على أطلاله، والبكاء على المجد المهدور غدراً في واقع ضعفنا وهواننا على الناس.

ولا يخطر ببالنا التحول إلى النهج العلمي الأصيل في معالجة أسباب الحدث والحرص على عدم تكرار وقوعه ومحاسبة مقترفيه والجرأة في الدفاع عن أجسادنا الغرقى في بحر دمنا المراق بأيدي السارقين.

وها نحن اليوم بعد مضي سنوات على استشهاد أبو جهاد وأبو محمد لا نقف لنهتف من المسئول عن إراقة هذا الدم الطاهر، خاصة ونحن اليوم في ظل سلطة فلسطينية.

تخرج غزة لتودع (القائدين).. تخرج كل فلسطين لترى الشهيد الذي لم يمت.. تكبر البلاد بولادة (الرنتيسي والوزير)… تزغرد أم لطفل قادم في وجهه ابتسامة، وفي يديه دفتر صغير ومركب ورقي، ويركض إلى بحر غزة يفتش عن حدوده ويتقلب على رماله ويكتب الرنتيسي..الوزير لم يمتا ولكن شبه لهم. هكذا يموت الأبطال.. أشجاراً أصلها ثابت وفرعها في السماء.. جبالاً تمر عليها ضربات السنين، لا يموتون، ينتقلون من حياة إلى حياة، ومن دار إلى دار… كما الطير يسرح في فضاء لا حدود له. هكذا خرج (القائدان) من الحياة، حياة العنف والكد، خرجا بعد أن أدارا لها الظهر، وبعد أن نظرا إليها نظرة الاستخفاف والسخرية.
 
رئيس ديوان رئيس الوزراء

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات