الإثنين 20/مايو/2024

نساء فلسطينيات في الانتفاضة (1)

نساء فلسطينيات في الانتفاضة (1)
هذه دراسة ترصد مواقف الامهات اللواتي فقدن ابناءهن في عمليات استشهادية ومواقفهن وتحلل عبر درس مسحي مواقف النساء المدفوعة بالحماس والحس بالفقد والشعور الوطني واجواء الانتفاضة، وتستند على مواقف ووصايا الشهداء الذين قرروا القيام بعمليات استشهادية ضد الاحتلال الاسرائيلي. واهمية الدراسة تكمن في بعدها التوثيقي، اذ انها تقدم عددا من تمظهرات وردود الافعال بين الحزن والفجيعة والفخر، ولانها ترصد فصلا من تاريخ الانتفاضة الثانية، ومواقف النساء الفلسطينيات منها، حيث يطلق الشعب الفلسطيني على المرأة التي تفقد ابنا استشهاديا اسم الخنساء تيمنا بالشاعرة العربية المعروفة.

مدرسة الحياة

في أجواء الاحتلال والخوف والقهر، تُختصر حياة الأمهات في صور أبنائهن، وتغدو المسيرة كلها محطات متلاحقة لأطفال يولدون، ثم يكبرون يوماً إثر يوم، والعين والقلب والروح تحرسهم من رحيل إلي رحيل، ومن مدرسة إلي أخري، ومن طرف إلي آخر.

ولئن أحدثت انتفاضة الأقصي المبارك نقلة نوعية هائلة في الفكر والنفسية فقد شقت الأم الفلسطينية طريقها لتتبوأ مكانتها الرائدة كمكون أساسي من مكونات الجهاد والانتفاضة والمقاومة.

ولإدراك حقيقة الدور التربوي والأخلاقي للأم الفلسطينية، يمكن الإشارة إلي الأعداد الكبيرة من الشباب المتدين الطامح للجهاد والشهادة، المبادر للتضحية والفداء عن الأرض والعرض والمقدسات، المرتفع دوماً إلي مستوي التحدي، والجاهز للمقاومة والتصدي، وبقي علي عهده مع الله ووعده مع شعبه وأمته حتي فاز بالشهادة. وتظهر الكلمات الأخيرة لهؤلاء الشباب ووصاياهم التي خطوها أنهم يصنعون الحياة عبر بوابة الاستشهاد.

وفي هذا السياق، يأتي الاستشهادي إسماعيل المعصوابي ليعكس في وصيته التي تفيض صدقاً وإيماناً توجهات جيل انتصر علي نفسه، وهانت عليه الدنيا، فجعل من جسده ودمائه جسراً للحرية والخلاص، فيتحدث بلهجة حازمة وواثقة قائلاً: إن حب الجهاد والاستشهاد قد ملك علي حياتي ونفسي ومشاعري وقلبي وأحاسيسي… وإنه من الصعب بمكان علي النفس التي تذوقت حلاوة الجهاد، واستعذبت المعاناة علي طريقه، وسعدت بتجرع الغصص علي جادته، أن تستريح إلا في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر .

أما الاستشهادي نبيل فرج العرعير، الذي نفذ أول عملية استشهادية في انتفاضة الأقصي، فقد خط في وصيته قبيل انطلاقه: اسألك بالله يا أمي بأن تزغردي، نعم زغردي يا أمي، فان هذا اليوم يوم عرسي الذي كنت أتمناه منذ أن عرفت الشهادة في سبيل الله… أبي الحبيب: أوصيك بأن تكون أسعد الناس في عرسي هذا، وأن تقوم بالترحيب باخواني الذين يأتون إليك ليهنئوك بعرس ابنك نبيل الذي لم يمت، بل غادر إلي حياة جديدة مع الصديقين والنبيين والشهداء… عماتي الحبيبات: أسألكن بالله أن تكن بجوار أمي الحبيبة، أسألكن بالله أن تفرحن، وأن تزغردن وتوزعن الحلوي علي كل إنسان .

هذه النماذج الرائعة وغيرها مما حفل به التاريخ الفلسطيني الحديث، وراءهم أمهات عظيمات أرضعن أولادهن لبن الجهاد والمقاومة والوفاء للدين والوطن والمقدسات، وغرسن في نفوسهم المباديء والأخلاق السامية، وزرعن في كيانهم قيم الثبات والإخلاص والتضحية.

وكانت رعاية الأبناء، وتربيتهم التربية الجهادية الحقة، وإرسالهم إلي ساحات الوغي وميادين القتال مع العدو الصهيوني، أحد الأدوار البارزة التي لعبتها الأم الفلسطينية إبان انتفاضة الأقصي المبارك.

وظن الكل أن هذا أقصي ما يمكن أن تقدمه الأم الفلسطينية، أن ترسل ابنها لكي يقوم بعملية فدائية ويستشهد، ولكن العالم وقف مبهوراً أمام ظاهرة أم نضال فرحات وأم محمود العابد وأم محمد حلس وغيرهن ممن احتضنت ابنها، ورعت جهاده، وباركت سعيه، ووقفت تودعه بكل عظمة وجرأة وشموخ علي أعتاب تنفيذه العملية، دون أن يبدر عنها أي تردد أو يخالجها تراجع أو نكوص، بل قالت لابنها وهي تودعه: ها هو الموعد أزف، وأنا أنتظر أن تعود إليّ شهيداً . وبعد أن قبلته بحرارة ودعت له بالتوفيق، قالت أم نبيل لابنها الاستشهادي محمد أحمد حلس، وهي تحتضنه وتقبله: كن صامداً وصبوراً وصابراً، وجه سلاحك بدقة في وجه الأعداء… خذ أمتعتك ولا تترك للأعداء الفرصة لقتلك قبل أن تثأر منهم لأبناء شعبك وأهلك . وكذلك كان حال نعيمة العابد، والدة الشهيد محمود حسن العابد، التي ودعت ابنها، وتابعت الأخبار حتي تتأكد من نجاحه في اقتحام المستوطنة، وحين علمت باستشهاده وزعت الحلوي ودعت النسوة إلي عدم البكاء علي الشهيد.

خنساوات هذا الزمان

خنساوات بلا عدد يقدمهن هذا التاريخ الفلسطيني الجديد، ومع كل واحدة منهن تنبت حكاية من رحم الجرح؛ لكنها تتمدد علي نحو أروع في فضاء من البطولة لا ينتهي، فيما لا تعدم الخاتمة الكثير من الحزن والقهر الذي لا يفضي إلي اليأس، في وعي أمة تدرك أن الدنيا محطة للآخرة، وأن الآخرة خير وأبقي للذين يتقون وعلي ربهم يتوكلون.
ولذلك، وقفت أم نضال فرحات تصرخ ببيان الفصحاء ودماء الشهداء وعزم المجاهدين، لتؤكد للعالم كله أن فلسطين، من البحر إلي النهر، حق لن يتنازل عنه شرفاء الأمة، حين قالت: لا توجد أم في الدنيا يهون عليها ابنها، ولكن في سبيل الله ثم تحرير الوطن ترخص كل الدنيا. إذا أنا منعت أبنائي من الجهاد، وهذه منعت، وتلك منعت، فمن الذي سيدافع عن الإسلام وفلسطين، ويحرر الأقصي .

ولعل الحياة التي تحياها الأم الفلسطينية تصعب الأمر علي الذي يحاول الكتابة في هذا الموضوع، فأي الكلمات ستعبر؟ ومن أين سنبدأ في الكتابة؟ فكلها محطات من الصعب المرور عليها مرور الكرام.

ولربما الحزن في عيني أم صبحي، والدة الشهيدين والأسير لا يمكن وصفه، فكلمة الحمد لله التي خرجت منها ثم تبعتها دموعها، كانت كافية. فقد استشهد ابنها الأول صبحي أثناء تصديه لأحد الاجتياحات الصهيونية لمدينة رفح، وبعد فترة هدمت قوات الاحتلال منزلها في حي السلام علي الحدود الفلسطينية ـ المصرية، واعتقل في اليوم ذاته ابنها الأصغر سامي، ووجهت سلطات الاحتلال له تهمة الانتماء للمقاومة. ولم يتوقف سيل التضحية عند هذا الحد، فبعد فترة فقدت أم صبحي ابنها الثاني محمداً، وهو يؤدي واجبه الوطني بإسعاف المصابين. ولم يستطع جسم والد الشهيدين والأسير تحمل هذا كله، فوافته المنية بعد استشهاد محمد بأقل من شهر، لتبقي أم صبحي وحيدة في المنزل الذي استأجرته.

جيني تونغ

حين قالت النائبة البريطانية عن حزب الأحرار جيني تونغ في اجتماع عقد بمجلس العموم: إنها لو كانت فلسطينية لسعت للانضمام إلي الفدائيات، فإنها لم تكن وحيدة في تفهمها لحقيقة التحدي الوجودي الذي يهدد الفلسطينيين. فقد كان هناك وعي بتلك الحقيقة بين بعض الإسرائيليين أنفسهم، ففي حديث أدلت به الكاتبة اليهودية إيلانا هوفمان للإذاعة الإسرائيلية، قالت: إنه من النفاق أن يدعي عدد من قادة الدولة استهجان أن تقوم أم فلسطينية بتنفيذ عملية ضد قواتنا. رغم أنه من الطبيعي أن يهب أي إنسان لقتل أولئك الذين يقتلونه، ويسلبونه الحق في العيش بكرامة، ولا يتغير الأمر كثيراً إذا كان الفاعل شاباً أو رجلاً أو طفلاً أو عجوزا، أو أماً ترعي أولادها .

لم تكن إيلانا هوفمان وحيدة في شعورها بالخطر من اتساع ظاهرة قيام الأمهات الفلسطينيات بإرسال ابنائهن لتنفيذ عمليات استشهادية، إذ ان قيادات سياسية وعسكرية إسرائيلية رفيعة المستوي شاركتها القلق من تنامي هذه الظاهرة.

وواصلت وسائل الإعلام العبرية الكتابة حول ذلك، معتبرة أن ظاهرة الأمهات أوصلت رسالة كبيرة من الخوف والهلع إلي نفوس المجتمع الإسرائيلي ، علي حد تعبير الكاتب الاسرائيلي إيغال سيرنا الذي كان يعلق علي مشهد أم نضال فرحات، وأضاف سيرينا: إن ما قامت به أم فرحات ينذر بمستقبل سيء لإسرائيل. لأن من يشاهد هذه المرأة وهي تودع ابنها بكل هذا الحماس، يصل إلي قناعة مفادها أنه لا يمكن إخضاع الشعب الفلسطيني بالقوة مطلقاً . وأما الكاتب الصهيوني شاؤل بريمان، فقد كتب: إن ما تمثله هذه المرأة ينبغي أن يشعل الضوء الأحمر في دوائر صنع القرار الإسرائيلية. فهذا الحادث يدل علي أن معنويات الشعب الفلسطيني غير قابلة للتآكل . وأضافت امرأة إسرائيلية وقد تملكتها الدهشة والإعجاب في أم نضال فرحات: ما هذا الدين، وتلك العقيدة التي تدفع هذه المرأة لكي تسلك هذا السلوك؟! أحد ابنائي جندي يخدم في منطقة الخليل، لكني تمنيت لو أني لا أعيش في هم حتي آخر يوم في حياتي .

وتمضي صحيفة يديعوت أحرونوت ، فتقول: 120 استشهادياً واستشهادية لا يشكلون ظاهرة هامشية، بل يعكسون نموذجاً اجتماعياً يجسد الثقافة الفلسطينية الجديدة، إنها ظاهرة تحظي بتأييد الشارع الفلسطيني وقياسه ليس في استطلاعات الرأي فحسب، وإنما عبر مظاهر الفرح التي تلي كل عملية، وفي جنازات الاستشهاديين، وفي صورهم المعلقة في كل زاوية بالشوارع، وفي الأغاني التي تمجدهم. وتنعكس تعابير هذه الثقافة أيضاً، في المؤتمرات، وفي المسيرات التي يشارك فيها عشرات لابسي الأكفان الذين يعلنون: نحن اللاحقون. وكذلك في المدارس، وفي المخيمات الصيفية التي تقام في مناطق السلطة الفلسطينية. وخلال الشهرين الأخيرين، انضمت إلي مجموعة المشجعين أمهات الشهداء أيضاً، إذ يزداد عدد الأمهات اللواتي يتصورن مع أولادهن قبل خروجهم لتنفيذ العمليات، فيشجعنهم ويباركن طريقهم. فيوم السبت الماضي، وقبل خروج محمود العابد من بيته في حي الشيخ رضوان في غزة لتنفيذ العملية في مستوطنة دوغيت، التقط صوراً مع أمه وسلاح الكلاشينكوف، وبعد مقتله لم تحزن، بل علي العكس لقد احتفلت، ووزعت الحلوي علي أبناء عائلتها. كما فاخرت والدة حمزة السمودي من قرية اليامون بابنها الذي نفذ عملية مجدو في الخامس من حزيران (يونيو)، وقالت: لقد أراد حمزة إدخالي إلي الجنة، إنه يحظي بالنساء بحسان الجنة… لقد عاش ومات كالبطل.

الشارع الفلسطيني يسمي والدة الشهيد الخنساء، تيمناً بالشاعرة العربية المعروفة الخنساء التي عاشت زمن النبي محمد، وشكلت مثالاً يحتذي، إنها بالنسبة للفلسطينيين مثل حانا وأولادها السبعة عند اليهود. وهذه الثقافة البطولية أحدثت انقلاباً في المجتمع الفلسطيني، ذلك أن العمليات الاستشهادية لم تعد تعتبر عمليات تنم عن اليأس أو الخيبة والانتقام، وإنما أصبحت عمليات تزرع الأمل. وحسب مفهومهم، فإن الهدف من الاستشهاد ليس هو القتل من أجل القتل، وإنما وسيلة من أجل تحطيم قوة الصمود الإسرائيلية، وتقويض المجتمع، وتدمير الاقتصاد، وإسقاط حكومة شارون، وإجبار إسرائيل علي تقبل شروط الفلسطينيين المتعلقة بالحل الدائم. ويشعر الفلسطينيون أنهم نجحوا في إحداث هزة أرضية خفيفة شقت الجدارين الاجتماعي والاقتصادي في إسرائيل، إنهم يؤمنون أنه مع بذل المزيد من الجهود سيحققون انهيار إسرائيل. لقد قال احد قادة حماس: إن الاستشهاديين هم السلاح الاستراتيجي من أجل تحقيق الردع والتوازن، الفلسطينيون يخلقون حياة جديدة عبر بوابة الاستشهاد .

نودع الشهداء بالزغاريد

البطولة في الشعب الفلسطيني أنه كله صاحب بطولات، فليس الشباب أو منفذو العمليات هم أصحاب البطولات فحسب، بل ثمة تاريخ خاص تكتبه الأمهات في فلسطين، تاريخ لا يدركه مرددو مقولة المرأة نصف المجتمع أو الذين لا يعرفون المعني الحقيقي للأمومة والبطولة.

فمع صعود البطل نحو معارج الشهادة، تبدأ بطولة الأمهات والزوجات ولا تنتهي إلا بتسليم الأمانة والالتحاق بالرفيق الأعلي، وشوق لقاء الأحبة يطير بالروح إلي عليائها.
والجلد والصبر الذي تبديه الأمهات تجاه استشهاد أبنائهن لا يقتصر علي الصبر والسكوت والرضا بقدر الله، بل إن ثمة فرحاً وغبطة يكتنفان بعض النساء، وهذه درجة أعلي من الصبر، وهي تعبير أكبر عن أصالة الهدف لديهن.
وبهذه الروح ردت ام ع

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات