السبت 04/مايو/2024

يوسف الصديق الوزير

ميسون الرمحي

عندما هيأ الله سبحانه وتعالى ليوسف الرؤيا للشمس والقمر والأحد عشر كوكبا وهم له ساجدين ما كان ليوسف في حينه أن يعلم بأنه سيكون وزيراً للمالية والاقتصاد ولكن كيف وصل يوسف إلى هذا الموقع وما هي المعايير والمرتكزات التي صقلت يوسف وشذبت شخصه وأهلته لذلك

الرؤيا التي رأى كانت بمثابة الدلالة من الله ليوسف على استشراف مستقبله الذي هيأه له والذي سيجعل منه مؤهلا لتولي ذاك المنصب وما تبعه من ابتلاءات وتأديب من الله لذاتيته حتى تكون في مستوى الأمانة والعبء الذي سيحمله .

ظلم ذوي القربى والذي لم يكن بسبب رد ظلم وإنما غيرة وحسد وحقد لما أمتاز به من صفات وأخلاق نبيلة جعلته محبوبا عند أبويه ابتداء ثم ممن حوله فكان ما كان من تدبير وتخطيط شيطاني لإبعاد يوسف عن محضنه وذويه اللذين يشكلان الحصن المنيع والداعم القوي ليوسف خصوصا وأنه ما زال في سن لا تسمح له بالاستقلالية أو تحمل مسؤوليات وتبعات الحياة .

تجربة الجب وما بعدها من وصوله إلى بيت عزيز مصر ونشأته في كنفه حتى بلغ أشده فيمده الله بالأسباب الضرورية للمهمة القادمة. وتستمر الأحداث حتى يصل في نهاية المطاف إلى السجن .

ومرحلة السجن وما امتازت به من بيئة مناسبة لتواصل يوسف مع ربه لتعزيز كفاءته للوصول إلى المنصب الذي هيأه الله له ،فهو لم ينس أنه من بيت نبي وأن بوصلته دوما لا تخطئ الاتجاه فيعمل جاهداً في هذا الحيز الضيق للدعوة إلى الله وتعزيز الوحدانية ويذكر آباءه وأجداده لما لهم من دور في إعلاء كلمة التوحيد وتصحيح العقيدة ويكرمه الله بتفسير الرؤى لأنها ستكون ممهدة لخلاصه مما هو فيه وإعلاء شأنه .

يؤدب الله يوسف الصديق على كلمات يذكرها لا يجوز أن تخرج منه لأنه ليس مثل الآخرين ” وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ” فالله هو من يسأل وليس العباد لأنه ليس لهم من الأمر من شيء .

ثم يحين موعد إظهار الله ليوسف وتمكينه لموقعه وموقفه بأن لا يفتي أحد الملك في رؤياه إلا الصديق يوسف فهذا مجال علمه وتخصصه الذي من الله به عليه والذي يلزم لقيامه بمهامه الجديدة فماذا بعد ؟؟؟؟

يوسف الآن ليس يوسف الجب فقد ظهرت براءته وأيده الله بالرؤيا وتفسيرها وأيده الله بالحبل المتين وهو حب الله ونصرته وأيده بالحكمة والعلم بعد أن هيأه وأدبه وعلمته التجارب المريرة كيف يتعاطى مع الأمور بحكمة بما تشتمل عليه من موضوعية ومهنية فيسأل عن أي المواقع يحبذ ويختار من مواقع صنع القرار فماذا سيكون الجواب هل سيمتنع خوفا من القدح ويزهد كي لا يقال أن لنفسه حظ ؟؟؟؟ومن الذي هو أحق بذلك منه فسيرته الآن واضحة وجلية والله نصره وأيده وأظهر ذلك على يديه وعزز موقفه لدى أعلى مركز لصنع القرار وهو الملك “قال اجعلني على خزائن الأرض إني عليها حفيظ عليم “يطلب يوسف لأنه يعلم أنه الآن أهل للمنصب وأكفأ من سيشغله فأركانه الأربع متوفرة لديه وهي النبوة والتقوى والعلم والحكمة .

وبحراك لقصة يوسف إلى واقعنا الحالي فإن المعايير التي مكنته من تولي الوزارة كصاحب فكر وعقيدة هي :

أولا النبوة : ورديفها في زماننا هم أصحاب الرؤية من أولياء الله الصالحين الذين تمسكوا بالحق وساروا على نهج الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وتحملوا من أجل مبادئهم وثوابتهم وصمدوا في وجه الأعاصير العاتية وما حادت البوصلة وما زاغ البصر وما بدلوا ولا غيروا. كما أنهم يمتازوا بفهم متقدم لمنهجية التغيير وفلسفته القائمة على القاعدة الشرعية “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “.

ثانيا التقوى : وهذه لها محددات في الدستور الإسلامي وتتأتى من إخلاص قبل العمل ومراقبة للنفس أثناء تأديته ومحاسبة بعد الأداء فالنية خالصة لله متجردة من حظوظ النفس والكيان البشري عرضة للخطأ والزلل تساوقاً مع كيفية الخلق وباب التوبة والإنابة مفتوح بعد المحاسبة فإن كان خيراً حمد الله وإن كان غير ذلك استغفر وغير،ويقابله بالمصطلحات المعاصرة الضمير الحي والذي يمتاز بالنزاهة والموضوعية والإتقان والشفافية .ويوسف حقق هذا فجاءت الشهادة من أعلى سلطة لصنع القرار وهو الملك ” إنك اليوم لدينا مكين أمين ” ليس محابة أو نتاج علاقات عشائرية أو مناطقية وإنما كحق وامتياز قائم على أسس علمية وبالتالي فهو يمتلك الصلاحية لاختيار أي موقع من مواقع صنع القرار .

فما هو ناظم يوسف للاختيار وعلى أي أسس بنى حيث أن العاملين اللذين ذكرا قد يتحققا في الكثير من الأفراد ولكن الآن الناظم يقوم على معايير وأسس و مقومات ضرورية وهامة لنجاح يوسف في أداء مهامه الوظيفية وهما :

ثالثا العلم : وهو العلم التخصصي والذي يلزم لأداء مهامه بنجاح خصوصا في مجال التخطيط والإدارة والعلم الشرعي اللازم وليس بالضرورة عالما فقيها _ إلا إذا كان هذا شرطا ومحددا لمجال عمل وزارته _ ويوسف قد توفر لديه هذا الأساس فما الذي يتناسب مع طلب أن يكون وزيرا للمالية والاقتصاد فكانت رؤيا الملك بمثابة الإضاءة للعلم اللازم عدا عما اكتسبه من العلم في بيت يعقوب وعزيز مصر ” ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ” ومن هنا فالخطة الخمس عشرية لديه معلومة سبع سنين المدخلات وفيرة وسبع أخرى شداد قحط وهلاك، وترشيد الاستهلاك واجب لتفادي الأزمة_خطة طوارئ_ ثم يأتي الرزق الوفير والانفراج . كما التقوى ” واتقوا الله ويعلمكم الله “،

 وحيث أن العلم هو الركيزة الأساسية لمنهجية التفكير والفهم الصحيحين وهما من أسس انطلاقة أي حضارة فالفهم ضروري للحكم على الأشياء ” فالحكم على الشيء فرع من تصوره وقد أفرد الأمام البخاري في صحيحه بابا أسماه ” باب العلم قبل القول والعمل” فصواب العمل مقترن بالعلم الذي قاد إليه .

ومن هنا فيوسف يمتلك العلم اللازم للتخطيط الإستراتيجي سواء المرحلي أو بعيد المدى ، ووضوح آليات العمل وكيفية التنفيذ .وإلمام لا لبس فيه للأسس الإدارية اللازمة للنجاح . 

رابعاً الحكمة : وهذه تتأتى من عدة عوامل أولها بمنة وفضل من الله “فمن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا “.ثانيا المناخ والبيئة التي يعيش فيها والتي كانت في بيت نبي ومن ثم في بيت حاكم مصر وأخيرا في مدرسة يوسف السجن ولكل منها دور عظيم في إكسابه الحكمة والرشد .ثالثا التجارب المريرة والقاسية والتي واكبت حياته من الظلم في مراحل متعددة وهذا زوده بمعاني عظيمة للحكمة .رابعا العلم نقيض الجهل والذي يساعد على” التفكير والفهم “المعرفة وبالتالي سعة الأفق والحكمة .خامسا العمر إلى حد ما يساهم بذلك لأنه مليء بالخبرات والمعارف والمشاهدات .

بهذه الأركان الأربع وصل يوسف إلى وزارته فأبدع ونجح وسجل بعضا من أسس للسياسات المالية والاقتصادية من حيث تحديد المدخلات والمخرجات الضرورية وهي ما يعرف بالموازنة عدا عن سياسة ترشيد الاستهلاك .

ولكل وزارة احتياجاتها ومقوماتها التي تستند إلى هذه الأركان الأربعة والتي يمكن اكتسابها بالعلم والعمل الدؤوب والجهد المتواصل ومن ثم تأييد الله ويبقى الشق الآخر اللازم وهو الذاتية والكينونة الفردية فالقوامة أعطيت للرجل بناء على شقين ذاتي ومكتسب وهذه من المرتكزات الأهم لأي موقع قيادي وإبداعي .

 

 
* رئيسة جمعية الخنساء النسائية.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات