السبت 04/مايو/2024

الشيخ الشهيد أحمد ياسين

د. محمد إبراهيم المدهون

ينحني المجد أمام العمالقة ، وتبقى أسماؤهم رايات خير وجهاد شامخة ، تحرق وجوه الأعداء وتشيع الدفء والأنس في نفوس المستضعفين ، يتراقص النور وينبعث الضياء من هذا النجم الساطع … إنه القدر الكوني لإعادة الروح إلى الجسد ( ياسين) … أهو مجرد اسم عابر ..!! بل هو جذر متأصل في أعماق التاريخ الفلسطيني .. وشجرة كريمة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء .. إنه نموذج فريد صنع التاريخ ، وعنوان ضخم يضم آلافاً من الأبطال الذين عرفتهم ساحات الجهاد في فلسطين

 (ياسين) تلك الشمعة المضيئة[1] .. الشعلة المتقدة ، شجرة جذرها يمتد إلى النبوة المطهرة ، وهو حلقة في سلسلة كبيرة ، وهو زلزال صرخ في وجه الاحتلال الغاشم (لا) فكان البركان.. وهو دفع ثمناً دمه ودموعه وماله .. وهو قد أثبت أن الكف يمكن أن ينتصر على المخرز ، وأن الصبر الجميل والجهاد الطويل يملك التصدي لقوى الباطل الجامحة ، وهو النموذج الأروع والقدوة الأمثل التي حفرت لشعبنا مكانته اللائقة ومنزلته السامية .. يستحيل على الذاكرة أن تطمس النور الساطع من هذا النموذج الخالد ، وأنوار الشهادة والشهداء تعبق ذكره وترفع اسمه .

كانت الشهادة أسمى أمانيه ، وكانت دعاءه الذي لا يتوقف، علم يوماً أن أحد البسطاء من مخيمه (الشاطئ) قد رأى في المنام الشهيد محمود الخواجا وهو يقول له أبلغ الشيخ أحمد السلام وقل له أن مكانه محجوز عندنا ونحن في انتظاره فرح يومها الشيخ فرحاً شديداً. وقد أكرمه الله بحفظ جسده النحيل رغم استهدافه بثلاث صواريخ . في الليلة الظلماء غابت الذروة الشماء وافتقد البدر الذي رحل ، وهو يبني بيت الشموخ والكبرياء ، ولم يكتمل البناء بعد ، وها هي حلة قشيبة من الشهداء الذين نسجهم الشيخ الشهيد (أحمد ياسين) بجهاده وعلمه.

 رحل الشيخ الشهيد (أحمد ياسين) بعد أن أسس مدرسة الجهاد والمقاومة ، وأصبح معلماً بارزاً وركناً عتيداً في قلعة الجهاد والاستشهاد .

وكانت البداية الرائدة في انطلاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وكتائبها على يد مؤسسها (الشيخ أحمد ياسين) المقعد الذي يهابه الاحتلال … (ياسين) رجل القيادة والقرار الاستراتيجي الذي ولد في قرية (الجورة) ، (قضاء المجدل) الفلسطينية عام 1936م، التحق (بمدرسة الجورة) الابتدائية ، ثم أكمل المرحلة الإعدادية عام 1955م ، ثم التحق بالمدرسة الثانوية  واسترعت (جماعة الإخوان المسلمين) نظر (الشيخ أحمد ياسين) ، فقرر في عام 1955م إعطاء البيعة (لجماعة الإخوان) المسلمين ، وفي عام 1960م أصيب الشيخ (أحمد ياسين) بالشلل بعد أدائه لإحدى القفزات الرياضية الصعبة، ورغم ذلك عمل الشيخ (أحمد ياسين) مدرساً ، وكان لبقاً ، ذكياً في دعوته ، وتعرض الشيخ للاعتقال أكثر من مرة عام 1965م ، إبان الضربة القاسية التي تعرض لها الإخوان في (مصر) و(قطاع غزة) ، وفي العام 1968م اختير الشيخ (أحمد ياسين) لقيادة الحركة في فلسطين ، فبدأ ببناء جسم الحركة ، فأسس (الجمعية الإسلامية) ثم (المجمع الإسلامي) ، وبدأ التفكير للعمل العسكري وقال يومها حين تمتلك حركتنا مسدساً سوف نبدأ العمل العسكري ، فأسس تنظيماً عسكرياً وزوده بالأسلحة ، فعاجلته السلطات الإسرائيلية بالاعتقال في عام 1982م ، وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاثة عشر عاماً ، ثم ما لبث أن خرج من السجن في صفقة تبادل أسرى مع (منظمة أحمد جبريل) في العام 1984م ، وكان للشيخ اليد الطولى في تفجير الانتفاضة الأولي، وإشعال فتيلها ، فأسس مع نفر من إخوانه حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعد خمسة أيام من بدء الانتفاضة ، وذلك بتاريخ 14/12/1987 ، واعتقل المرة الرابعة ، وفي 17/5/1989 في الضربة التي وجهت لحماس في قطاع غزة في عام 1989م على يد الجيش الإسرائيلي ، وحكم عليه بالسجن المؤبد ، إضافة إلى خمسة عشر عاماً . وقد تم الإفراج عنه يوم 1/10/1997م ، وتوجه إلى الأردن للعلاج إبان صفقة مشعل ، وعاد إلى قطاع غزة شيخ الانتفاضة (الشيخ أحمد ياسين) وذلك في اليوم التاريخي المشهود 6/10/1997م قائلاً إن حركة (حماس) لن تلتزم أي وقف لإطلاق النار مع إسرائيل قبل زوال الاحتلال الإسرائيلي ، وداعياً إلى ضرورة الوحدة الوطنية ورص الصفوف واستقبله عشرات الآلاف من جماهير فلسطين. ثم قاد انتفاضة الأقصى حتى اندحار الاحتلال عن قطاع غزة وليلحق بإخوانه الشهداء من القادة العظام شهيداً في قصف صاروخي استهدفه بعد صلاة فجر الاثنين 22-3-2004 بعد أن فشلت محاولة اغتياله الأولى في سبتمبر 2003.

ليس غريباً أن يضفي الله من الهيبة على رجل مقعد ما يرفع مكانته بين الخلق ، ويدفع الشباب أن يلتفوا حوله ، ويجعل المحتلين والمتخاذلين معاً يحسبون له ألف حساب. عرف العالم (أحمد ياسين) القيادة والرأي والقرار والكلمة ، حين تلقاه لا تصدق عينيك وهو رهين المحبسين في العصر الحديث إعاقته الجسدية ، وزنزانته الموصدة عليه التي تحول بينه وبين التمتع بنسمات الحرية ، ولو على امتداد ساحة السجن الكبير ، فلسطين السلبية .. وليس غريباً أن تتابعه عدسات وكالات الأنباء ، ومسجلات الإذاعات العالمية إذا همس بكلمة أو أومأ بإشارة لأنه صاحب الرأي الحصيف والقرار النافذ والكلمة المسموعة .

(الشيخ الشهيد أحمد ياسين) الرجل المقعد الذي أرعب الظالميــن وحيّر إسرائيل . هذه الكتلة من اللحم التي لا تقوم على عظام ، وهذا الجسد الذي ماتت معظم أعضائه إلا القلب ينبض بالإيمان ، والعقل يفيض بالعمق والتفكير واللسان بحركة الوجدان ، في عينيه بريق  بشفافية المسلم الذي يرى بنور الله وفراسة المؤمن التي لا تخيب.

(أحمد ياسين) عرف بين إخوانه بالتخطيط ولم يعرف بالصخب ، وعرف ببعد النظر دون الالتفات للتهريج أو اللغط والخصومة وعرف بالتواضع في مركزه القيادي المرموق ، ولم يعرف بالاستعـلاء ، وعرفه إخوانه بصدق التوجه إلى الله وغرس البذور في حقل الله المثمر الذي تنبت السنبلة فيه سبع سنابل أكثر من التبجح ووضع البذور في حقول الخلق المعرضة للبوار ، ومن هنا ظل الرجل شامخاً لا يطأطئ رأسه ، راسخاً لا يتزعزع مثل رواسي الجبال . (الشيخ الشهيد أحمد ياسين) البداية التي انطلق من رحمها (حماس و القسام) ، فزلزلوا عرش الطواغيت وأعادوا بناء المعادلة.

(الشيخ الشهيد أحمد ياسين) … ما أجملك وأنت تدخل بوابة القبر وقد اصطفت ملائكة السماء ، صفوفاً صفوفاً تنثر عليك الرياحين وتغمرك بالطيب ، ثم ها هو (صلاح شحادة) يقف من بعيد ينتظر إلى أن يصل إليه الدور ليطوقك بكلتا يديه، لم يتغير فيه شيء . يقبلك من جبينك ووجنتيك ، ثم صف الشهداء إبراهيم المقادمة إسماعيل أبو شنب الجمالين  وآخرين وصف من الكتائب يحيى و محي الدين وسهيل وعبد الحكيم وآخرين ، يدعونك الآن حتى تستريح من عناء الرحلة ، يدعونك تستريح من وعثاء السفر . كانت رحلتك طويلة ، آن لهذا الفارس أن يمد قدميه ويلصق ظهره بالأرض ويغمض عينيه وينام .

الشهيد الشيخ ملحمـة خالدة لا تنتهي … والياسين مدرسة عز نظيرها والمدرسة مشرعـة الأبواب .. تؤذن أن في الطريق سالكين قد سبقوك .. وأن الدرب الممهرة بالدم .. المسيجة بالتضحية .. المعبدة بالجهاد المتنوع اللامحدود لازال فيها متسع للسالكين .. ولازال في الوقت متسع .وإن التوثيق واجب كي تبقى مدرسة الياسين تتوارثها الأجيال كي تحدث أبناءك قصص العظام وتعلمهم أبجديات المقاومة .. وتقدم لهم القدوة شاخصة في دماء نازفة .. وأرواح توّاقة .

قدوة من ذات العصر الذي تحياه كي لا تعتذر بتغير الأيام والأزمان … القدوة في أولئك النفر العظام الذين تمنطقوا بالشهادة وتسلحوا بالعقيدة .. وقدموا لأمتنا وشعبنا النموذج الأروع ، ورفعوا أسهم قضيتنا وتقدر العظمة بمقدار ما يقدم المرء لدينه وأمته وشعبه من عطاء .

إذا كنت قرأت قصة الشيخ فعد إليه ثانية فهو سلاح في مواجهة النوائب يدفع فيك العزم والهمة … أو ادفعها إلى من أحببت كي تقذف فيه الروح. وأنبئ الجميع أن ( الشيخ الشهيد الياسين) مدرسة عظيمة خالدة ، وجدير أن يسطر تاريخها بمداد النـــــور والنار ليبقى سجلاً تتوارثه الأجيال حتى يأذن الله بالنصر والتمكيـن.

[1] كان الشيخ أحمد دوماً يردد (أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام)

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات