السبت 04/مايو/2024

لا لصكوك الغفران

د.إبراهيم حمّامي

أربعون يوماً هو عمر اتفاق مكة، وأربعة أيام هو عمر الحكومة الجديدة، حكومة الوحدة الوطنية، حاولت خلالها إقناع نفسي بالايجابيات التي تم التوصل إليها، متجاهلاً ما سبق وطرحته من ملاحظات وتحفظات، وفضلت الترقب والانتظار عل الغموض الذي صاحب الاتفاق يجليه برنامج الحكومة، فتحول الغموض لطلاسم سياسية، واستجدت أمور جعلت مما يجري أبعد ما يكون عن وفاق وطني، وبدأت ذات الفئة التي تآمرت على شعبنا تكشر عن أنيابها من جديد، لتحدد ما الذي يجوز أو لا يجوز، شاهرة سيف الوفاق والوحدة الوطنية في وجه كل من يحاول توضيح وكشف ما تقوم به من تجاوز للاتفاق قبل غيره.

ربما كان من الأسهل والأسلم هذه الأيام مدح الاتفاق والحكومة والوزراء والزعماء، والتهنئة والإشادة بلا حدود بالانجاز التاريخي العظيم كما يحلو للبعض تسميته، وربما كان من الأفضل الابتعاد عن أي نقد أو تعرض لهذا الانجاز والذي بالتأكيد لن يعجب طرفي المعادلة في فلسطين، لكن في زمن الاتفاق والوفاق – إن كان كذلك- لا مكان للنفاق.

بكل صراحة أقول أنه لا اتفاق ولا مائة اتفاق يمكن أن يغير من الواقع والحقيقة شيء، ولا يوجد برنامج على وجه الأرض يمكن أن يحوّل مجرماً عميلاً لبطل وطني، ولا يحق لكائن من كان أن يمنح صكوك البراءة والغفران لمن تآمر على شعبنا وقضيته، ولا وفاق ولا وحدة وطنية بدون أسس وأصول تستند إليها وتدعمها من خلال أدوات واضحة، ومن خلال آليات تطبيق وتنفيذ معتمدة، أما سياسة “عفا الله عما سلف” فلن تحقق سوى ترحيل وتأجيل كل القضايا الهامة والحساسة حتى لحظة انفجار أخرى تكون أكبر وأشمل.

لقد بالغ المتفائلون في تفاؤلهم، وظنوا لوهلة أن ثلاثة أيام -هي مدة حوار مكة- كافية لتغيير النفوس المريضة، وكافية لإعادة من أمعنوا في غيّهم لرشدهم، لكن شهر العسل المفترض لم يَطل كثيراً حتى بدأت “ضربات المعلم” كما وصفها من نافح عن بذاءات وكلمات ساقطة يريد تدريسها لأبنائنا من خلال بياناته ومقالاته بحجة التراث، وذرف الدمع على تماثيل بوذا ولم نسمع له كلمة واحدة عن الأقصى، فجاء تعيين رأس الفتنة والفساد في أعلى منصب أمني في خرق فاضح للقانون من قبل رأس الهرم السياسي ليقول للمتفائلين “خاب فألكم”، ويزيد على ذلك بأن اصمتوا ولا تنطقوا فهذا اختبار التزامكم، ومقياس احترامكم، واختاروا ما بين الالتزام والاحترام إن أحببتم!

نعم لقد حقن اتفاق مكة الدماء الفلسطينية الغالية، لكنه في المقابل حقق لتيار الفساد وزمرة التآمر ما لم تكن لتحلم به عبر سياسات الخمسة بلدي المعلنة، وسياسات الوحدة ونص غير المعلنة، ليتحول المجرم إلى مصلح، والعميل إلى مناضل، والبوق إلى صوت للحق، وكل ذلك بغطاء شرعي رسمي اسمه الوفاق والوحدة، وبمظلة حماية اسمها حكومة وحدة وطنية، وبمباركة مجلس تشريعي منقوص، واسمحوا لي أن استعرض انجازات تيار الفساد الذي تحول بقدرة قادر إلى شريك وولي حميم:

·السيطرة على مفاصل الحكومة الأساسية من داخلية وخارجية وأمن ومالية وصحة، وهي الوزارات التي طالب بها قبل أشهر من اتفاق مكة، وحصل عليها اليوم (بشكل مباشر أو من خلال من رشحهم من مستقلين)

·القبول بمجلس تشريعي مبتور فيه الأغلبية لأقلية اكتسبتها عبر دبابات وممارسات الاحتلال من خلال اعتقال واختطاف ثلث أعضاء المجلس من تيار واحد، إضافة لوزراء من الحكومة السابقة لم يحظوا حتى بكلمة شكر!

·القبول ببرنامج حكومي هو خلطة غريبة مزجت بين برنامج حماس وفتح على طريقة “ضربة عالحافر وضربة عالنافر”، فمن بند يتحدث عن المقاومة إلى آخر عن التفاوض، وبند يذكر الحقوق ثم آخر يلتزم (أو يحترم) قرارات القمم العربية والشرعية الدولية، وآخر يتحدث عن الإصلاح ثم آخر يقر لمنظمة التحرير المحتاجة للإصلاح بالمرجعية

·تبني البرنامج الذي يخاطب في الأساس المجتمع الدولي ويسترضيه لرفع الحصار من خلال غموض وإبهام في الطرح والتعبير وبشكل حمّال للتفاسير

·الرضوخ للضغوط ليشمل برنامج الحكومة بنداً لا معنى له عن مساعي إطلاق شاليط كأولوية للحكومة

·توزير من اتهموا بالفساد وتدمير الاقتصاد الفلسطيني أو التآمر وقيادة التيار الانقلابي

·في المقابل استبعاد كل الوزراء الذين سبق وان اعترض عليهم قادة الفساد من الحكومة الجديدة

·القبول بمبدأ طي صفحة الماضي، ليعود تيار الفساد وبقوة ومن خلال تولي مناصب هامة كان آخرها منصب مستشار الأمن القومي

·إفساح المجال لتيار الفساد للتباهي والتماهي والقول بأنه الأصلح لقيادة الشعب الفلسطيني وأنه بدون خبراته المزعومة لا أمل للشعب الفلسطيني

لكن ما وجه الاعتراض؟ أليس الاتفاق والوفاق يعني المسامحة والمصالحة؟ نعم لكن هذا لا يتم إلا من خلال ما سبق وذكرت: أسس واضحة وأدوات داعمة، فكيف يمكن طرح برنامج انتخابي قائم على التغيير والإصلاح، ثم تشمل حكومة التغيير والإصلاح رؤوس الفساد والإفساد، وكيف يمكن التغاضي عن الماضي تحت حجة المصلحة الوطنية؟ وهل يمكن أن يتحقق الوئام الوطني من خلال مصافحات وضحكات متبادلة بين من يرتاب في الآخر ولا يأمن جانبه وبالتالي يعترض على تعيينه؟

القضية ليست خلافاً بين شخصين ليسقط أحدهم حقه على الآخر، ولا صراعاً على أرض زراعية ليتنازل أحد الأطراف عنها، ولا حادثاً عابر تقبل فيه الدية، ولا سوء تفاهم تحله جلسة “حق عرب”، هناك حق عام، بل هو حق شعب خسر خيرة أبنائه في “فوضى خلاقة” قادتها مجموعة من المجرمين، ودُمِّرت فيها مبانٍ ومنشآت رسمية وتعليمية، ومورست فيها البلطجة والزعرنة في أبشع صورها، ووثقت فيها تهديدات ومفاخرات على رؤوس الأشهاد بشرف لا يدعيه أحدهم من إطلاق نار على رأس الحكومة.

إن من نتائج التغاضي عن الماضي وطي صفحته، وتبعات سياسة “عفا الله عما سلف”، تكريس الباطل ليس كأمر واقع فقط، بل كحق لا جدال فيه، واتهام وإدانة الطرف الآخر بوقاحة قل نظيرها ولنقرأ سوياً ما تفوه به الناطق باسم الفساد صباح اليوم وهو نفسه من لم يعجبه أن يعترض أحد على خرق القانون وتعيين مجرم في منصب مستشار للأمن القومي، ليقول: ” :”وكلنا يتذكر كيف حاصر 200 من أفراد هذه القوة منزل العقيد في الأمن الوقائي محمد غريب وقتلوه على الهواء مباشرة وعددا من أفراد عائلته وضيوفه … وإذا كان عند سعيد صيام رغبة في القول إن القوة التنفيذية لم تطع أوامره في ذلك اليوم وأشباهه من الأيام السوداء فلماذا لم يتحمل المسؤولية السياسية ويقدم استقالته؟ ولماذا لم يقدم السيد صيام المسؤولين عن قتل أطفال بعلوشة والعميد جاد تايه ومرافقيه ومحمد الموسه وعطل استجواب الكثيرين من المشبوهين بناء على استدعاء النيابة العامة لهم إلى المحكمة؟”، لقد قرر هذا الناطق وحاكم وأصدر الإدانة رغم أن القاصي والداني يعرف ملابسات ما جرى، لكن هذا هو الوفاق الذي ينادي به البعض ويتحاكمون إليه دون أساس واضح.

ما الحل؟ هل هو في إراقة المزيد من الدماء والاقتتال؟ بالتأكيد لا، هل هو بإلغاء الاتفاق؟ طبعاً لا، لكنه بإقرار مبدأ سيادة القانون والتحاكم إليه، ورفع الغطاء العائلي والتنظيمي عن كل من يثبت تورطه مهما كان منصبه أو رتبته، لا ترقيته وترفيعه، فلم أسمع يوماً بدولة أو حكومة أو حتى عصابة ترقي من تلطخت يداه بدماء شعبه وثبت عليه بالصوت والصورة قيادته لتيار الفتنة ليصبح مستشاراً للأمن القومي!، هل أصبح بالشرع الفلسطيني وبحجة المصالحة الوطنية، حاميها حراميها أو حراميها حاميها؟ وهل علينا باسم المصالحة إغلاق كافة ملفات الفساد حتى التي أعلن عنها النائب العام قبل أكثر من عام ليغط بعدها في سبات عميق متناسياً مئات الملايين التي تحدث عن نهبها؟ أم علينا باسم الوفاق نسيان آلاف الوظائف الوهمية التي اختلقها البعض ليتكسب منها؟ أو غيرها من الملفات والقضايا؟

من الضرورة بمكان تفعيل القضاء على أساس من العدل والحيادية وبعيداً عن الفصائلية والمحاصصة، فإن وجود قضاء مستقل يهيئ للجميع فرصة تحكيم قوة شرعية الملجأ والحَكم المحايد من أجل تعطيل الباطل وإحقاق الحق، ولذلك كان من واجبات القيادات الفلسطينية الشريفة المطالبة بتشكيل لجان تحقيق ومتابعتها والإعلان عن نتائجها، فمثل هذه اللجان تخيف فقط من أجرموا بحق شعبنا، وهي أفضل الحلول لإسقاط الأقنعة عن كل الأدعياء ممن يتسترون اليوم بستار الوحدة الوطنية والوفاق.

بعد تفعيل القانون والقضاء يأتي دور الأجهزة الأمنية التي شَكَلت خلال المرحلة الماضية مشكلة مزمنة وعبئاً أثقل كاهل الاقتصاد الفلسطيني، وتحولت لميليشيات تتبع مراكز القوى، وعنصراً أساسياً في فلتان أمني منظم بقيادة رؤوس الفتنة، وعليه يجب إعادة النظر جذرياً في هذه المؤسسة وتركيبتها وقيادتها وعقيدتها لتتحول إلى مدافع حقيقي عن الشعب الفلسطيني ومصالحه.

المصلحة الوطنية الحقيقية تكون بالابتعاد عن الغموض والمشتبهات والتعابير المطاطة الفضفاضة، وإثبات الوقائع، وتحديد المسؤولية عن كل فعل أضر بشعبنا وقضيته، وحسم كل قضايا الخلاف بدل تأجيلها وترحيلها، وتسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية، دون مجاملة أو خوف من بطش من يملك القوة والنفوذ المالي، والوفاق يتم بإغلاق ملفات الفساد بعد استكمال التحقيقات ومعاقبة الجناة، لا بطي صفحة الماضي وتعيين وتوزير قادة الفساد، بعد معانقتهم وتبادل الضحكات معهم.

إن الطريقة والأسلوب الذي عولجت به الأمور بعد اتفاق مكة يعني أمراً واحداً هو القبول بكل شيء دون اعتراض وإلا كان المعترض ضد المصلحة الوطنية، والإقرار بكل الإجراءات لإثبات حسن النوايا، حتى وإن كانت خرقاً للقانون من نوعية “ضربة معلم”، وباختصار تطبيق المثل المصري الذي يحدد العلاقة بين زوج يقبل كل شيء لكنه يحاول الاعتراض وزوجة متسلطة تفرض ما تريد حيث يقول المثل: “اللي ما يقولش لأ في الأول يقول آه على طول”، وباختصار فإن من قبل بشروط اللعبة التي تتناسى الماضي وتتغاضى عنه، لا يحق له اليوم أن يعترض بحجة فساد هذا الماضي، وعدم وطنية من كان الفساد ماضيه.

ليس من حق أحد أن يمنح صكوك الغفران، ولا من حق أحد أن يطوي صفحات الماضي، ولا أن يعفو عن مجرم أو مذنب، ولا يمكن أن نقبل بسياسة “عفا الله عما سلف”، ولا بأن نكون شياطين خرساء ساكتة عن الحق، والمصلحة الوطنية، والوفاق الوطني، والوحدة الوطنية، وغيرها من المسميات لا ولن تتم إلا بإعادة الحق إلى أصحابه، وإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي العادل المنصف، ولن تفلح كل اتفاقيات الأرض في منعنا من المطالبة بإ

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات