الجمعة 31/مايو/2024

قراءة في كتاب ذاكرة للكاتب سلمان ناطور

قراءة في كتاب ذاكرة للكاتب سلمان ناطور

“ذاكرة”، كتاب جديد للكاتب الفلسطيني سلمان ناطور، الصادر عن مركز بديل لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، والواقع في 174 صفحة من الحجم الصغير، والذي اعتبره مركز بديل خطوة أخرى في مجال تعزيز ثقافة العودة.

الكتاب يعالج بشكل قصصي وحكائي، وعلى لسان الشيخ مشقق الوجه الذي يرمز إلى الأرض الفلسطينية المنكوبة، يعالج قلق الذاكرة الفلسطينية سؤال الهوية في خضم هذا الصراع الجاري؛ حيث صار مفهوم المواطنة الفلسطينية مهدداً بعد أن ضاق المكان وصودر وشوّه على يد الاحتلال الإسرائيلي وممارساته العنصرية.

تأتي حكايات “ذاكرة” استكمالاً لحكايات “وما نسينا”، كأن الكاتب يواجه سكون الزمن وإملاءات الأمر الواقع، بمخزون جديد من ذاكرةٍ لم تمت بل ما زال لسانها يحكي الماضي ليرسم المستقبل، رافضةً هذه الذاكرة أن تلبس ثوب الطاعة، وتستسلم للصمت والقدرية.

“ذاكرة” سلمان ناطور تنفض ما تراكم من صدىً وغبار وسيطرة وألم، تتحرّك لتشق طريقها وتفرش ظلالها في كل حارةٍ وقرية، تقف في هذا الشارع وتلك المدينة، تجلس أمام هذا البئر أو تلك المقبرة…تتفيأ تحت ظلّ شجرة بلوط أو شتلة صبّار…تروي حكاية شعبٍ كان هنا، تعرّض للذبح والنهب والطرد والاستلاب…لسانها يروي مأساةً لا تزال صخور وأتربة الأرض تحمل أوجاعها وصراخها…تنتظر من يسمعها أو يشفيها من آلامها.

إنها “ذاكرة” حياة تواجه ذاكرة موتٍ عند الإسرائيليين، فإذا كان الإسرائيليون قد استعمروا هذه البلاد قادمين على أسطورة المحرقة، فإن الفلسطينيين يواجهون الإبادة والنفي بما زرعوه وتركوه من حياة على هذه الأرض المثمرة بالحضارة والتاريخ والثقافة والإنسانية، فلا يحتاج الفلسطينيون إلى خرافةٍ لتأويل أسطورتهم وتبرير وجودهم.

الكاتب سلمان الناطور أحسبه يواجه المدفع بذاكرته الإنسانية والأخلاقية، ويناطح “سيف جلعاد” بما يملك من براهين ويقين مندفعٌ في حالة اشتباكٍ معقّدة مع المخططات الصهيونية التي ابتلعت أرض فلسطين وصادرت حقوق سكانها.

لقد راهن الإسرائيليون على توقّف دقّات الذاكرة الفلسطينية، وبأن الزمن كفيلٌ أن يهمد صوتها وتنسى الأجيال بيوت ومفاتيح أرض أجدادها، واعتقد أمراء الحرب الإسرائيليين كذلك أن يتراجع حلم العودة مع الوقت ويصبح خيالاً بعيداً وسراباً يائساً أمام حقائق القوّة وطغيان المحتلين.

لكن الشيخ مشقق الوجه لم يمت، ولم يصمت، وساعة “ذاكرة” سلمان ناطور لا زالت تدقّ وتزداد دقّاتها غضباً وثورة، تلاحق من اغتصبوا الأرض تؤرقهم وتطلّ بشبحها على حاضرهم ومصيرهم…لم تغرق في الماضي إلى مستوى الضياع، ولم تنشغل في تفاصيل الحاضر المؤلم إلى مستوى خضوع العبيد.

إن ذاكرة تقول بوضوح: لا يمكن لأي شعبٍ أن ينال حريته واستقلاله إذا تخلّى عن هويته وذاكرته:

(ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة…ستأكلنا الضباع)

الإسرائيليون يريدوننا جيلاً بلا ذاكرة، أي بلا حقوق وتاريخ لتبرير كل أعمالهم العدوانية ولإضفاء الشرعية على ادعاءاتهم بحقهم في أرض فلسطين.

“ذاكرة” سلمان ناطور هي خطاب الفلسطيني في مواجهة خطاب الآخر النقيض موجهّاً لأجيال ما بعد نكبة 1948، كأن الكاتب يخشى على هذه الأجيال أن تنسى وتخضع للأمر الواقع ولا تقرأ وصية الشيخ مشقق الوجه، وربما تستهدف “ذاكرة” أيضاً الأجيال اليهودية التي ولدت بعد نكبة 1948، المضللة والمخدوعة والمعبأة بنزعات العدوان والعنصرية والعسكريتارية وكره الآخرين، لتضعها “ذاكرة” أمام الحقائق المفجعة والمخيفة التي قام بها آباؤهم وأجدادهم بحق الفلسطينيين، تسألهم ذاكرة الفلسطيني: ما هي المسافة التي يمكن أن يلتقي بها القاتل مع القتيل؟ سؤال سياسي مؤرق تجده في كلّ سطرٍ وكلمة من الكتاب:

(ربما بنسمع وزير عندهم بحذرنا من اللي صار سنة ال48، أولادهم ما بتأثروا…أما أولادنا بوقف شعر راسهم)

لا أريد أن أكرر ما كتبته حول كتاب “وما نسينا” لأني وجدت في كتاب ذاكرة دلائل سياسية أكثر من كونها ذكريات عاطفية وسرديات لمسيرة رحلة آلام الفلسطينيين بعد نكبة 1948 وأهم هذه الدلائل:

أولاً: التمرّد على الأمر الواقع

“ذاكرة” هي إعداد لجيل جديد، لصحوة مختلفة، توظيف الألم في سبيل سلام حقيقي وحل عادل، وذلك بالدعوة إلى التمرّد على الأمر الواقع وسياسة إلغاء الآخرين وشطب حقوقهم. إنها ذلك الصوت الذي يرفض أن يقول:

(الحمدلله على هذه النعمة..ألف ألوف الحمدلله)

فالاحتلال ليس بنعمة، ولسنا سعداء، ولا يمكن لحالة القمع أن تمتص المقموعين إلى درجة الرضى والقناعة واليأس من النضال والمطالبة بالحقوق:

(تجتاحنا رغبة الانتقام من هذا الشيخ الذي أراد أن يكون سعيداً رغماً عنه)

ثانياً: إعادة كتابة تاريخ النكبة

يلاحظ القارئ لكتاب “ذاكرة” أنه في كل قرية فلسطينية تم تهجير سكانها ونسفها، وفي كل حارة وشارع وجامع وساحة وبيدر؛ قد جرت أعمال قتلٍ فردية وجماعية وبشكلٍ بشع، وهي إبادة إنسانية شملت الأطفال والنساء والشيوخ، دمّرت البيوت واقتلعت الأشجار ومسحت القرى عن الوجود، آلاف المفقودين لم يعرف مصيرهم، مقابر جماعية وأسماء ضاعت في الحرب، في حين أن كل ما تعلّمناه في تاريخنا الفلسطيني عن المذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في حرب ال48 لا تتعدّى أصابع اليد.

وقد سجّلت “ذاكرة” سلمان ناطور أسماء كثيرة من الشهداء الذين سقطوا أبان النكبة مما يدفعنا إلى إعادة كتابة تاريخ النكبة وتوثيق أسماء الشهداء والوقائع التي جرت بشكلٍ جديد ومختلف:

(أهالي عيلوط هربوا إلى الناصرة، وسكنوا في الأديرة…بقوا في البلد 13 زلمة، دخل الجيش جمعوهم واحداً واحد وقتلوهم عالبيدر)

  وفي هذا الصدد أقترح إقامة نصب تذكاري وطني وقومي لشهداء نكبة 1948.

 ثالثاً: لجنة تحقيق دولية

“ذاكرة” بكل حكاياتها المفجعة تسلّط الضوء على جرائم حرب وأعمال قتل جرت خارج نطاق القانون، تنتهك كل الأعراف الدولية المتعارف عليها في حالة الحرب والصراع من إعدامات بدمٍ بارد، اغتصاب النساء، نسف البيوت، سرقة أموال الفلسطينيين، قتل الأطفال، إعدام الأسرى، وغيرها من الأعمال الإجرامية التي ترد في سطور ال”ذاكرة” الحزينة.

لم أسمع أن لجنة دولية تشكّلت للتحقيق في هذه الجرائم التي حاولت إسرائيل أن تطمسها وأن تمنع أي ذاكرة حية من كشفها…ربما هناك لا يزال شهداء في قبور جماعية أو في أماكن لم يستطع أحد الوصول إليها مما يستوجب المطالبة بإعادة التحقيق في جرائم الصهيونية التي ارتكبتها في فلسطيني خلال النكبة:

(الحرمة كان عمرها يا دوب 25…دخل عليها 5 جنود مزّقوا ثيابها…اغتصبوها واحداً وراء واحد)

رابعاً: الإرهاب

“ذاكرة” سلمان ناطور تتهم إسرائيل وعصاباتها بأنها صاحبة ومُؤسسة ثقافة الإرهاب وقتل المدنيين من خلال ما روته ال”ذاكرة” من قيام تلك العصابات بزرع القنابل في الأسواق والأماكن العامة وحتى في مجاري المياه، وفي هذا ردٌ واضح على ادعاءات إسرائيل باتهام الفلسطينيين ونضالهم بالإرهاب، فثقافة الإرهاب هي ثقافة أصيلة وجزء من الفكر الصهيوني:

(بعد دقائق انفجر “الغرض”، السوق كان يغص بالناس…انقتل حوالي 25 إنسان…القنبلة حفرت في الأرض متر مربع، لحم الناس كان ملزّق على الحيطان)

خامساً: الوحدة الوطنية

“ذاكرة” توضح مدى أهمية التلاحم الفلسطيني في مواجهة العدوان الإسرائيلي، فلم يكن هناك فرقاً بين مسيحي ومسلم أو بين سني ودرزي؛ لأن العصابات الصهيونية استهدفت الإنسان الفلسطيني بغض النظر عن مذهبه وملّته، وأظهرت “ذاكرة” صمود وبطولات المسيحيين وتعرّضهم للقتل والذبح، حتى أن بعض الأديرة التي كانت ملجأً للمدنيين الفلسطينيين جرت فيها العديد من المجازر، وربطاً بالواقع الحالي تبرز أهمية الوحدة الوطنية وتفويت الفرصة على المحتلين بزرع بذور الانقسام بين أبناء الشعب الواحد:

(حياة عازر، الله يرحمه…كان إنسان فقير…قوّسوه لمّا كان طالع من باب الكنيسة…وبعد ما ارتمى قدّام الناس يفرفر زي العصفور، تقدّم منه ضابط وحط الفرد في رأسه وفرّغ باغه…خمس…ست رصاصات دفعة وحدة)

سادساً: الأسرى

تلقي “ذاكرة” سلمان ناطور الضوء على حملات الاعتقال الجماعية التي كان يقوم بها الجنود الإنجليز والعصابات الصهيونية خلال وقبل حرب 1948. وتتعرّض ال”ذاكرة” إلى السجون التي كان يحتجز فيها الشبّان والأعمال المذلّة والمهينة التي تعرّضوا لها، وهذا يدفعني إلى الدعوة إلى كتابة وتوثيق تجربة الحركة الفلسطينية الأسيرة ما قبل عام 1948، إذا ما علمنا أن الكثير من السجون التي اعتقل فيها الفلسطينيون في تلك المرحلة لا زالت قائمة بعد أن ورثها الاحتلال الإسرائيلي، مثل سجون الجلمة وعتليت وكفاريونا وصرفند:

(عندما تذكر اسم الجلمة…تعيدك الذاكرة إلى تلك الزنزانة التي تحمل الرقم 3، وإلى ذلك السجّان الذي يجعلك تحترق قبل أن تشعل السيجارة)

سابعاً: السماسرة

“ذاكرة” سلمان ناطور لم تنس سماسرة الأراضي الذين تعاونوا مع الإنجليز والمنظمات الصهيونية ومع “الكيرين كييمت” في بيع أراضي الفلسطينيين وتهجيرهم من قراهم، ولعلّ التاريخ الفلسطيني لا يقف كثيراً أمام هذه الظاهرة الخطيرة التي تستوجب بحثاً وتحقيقاً شاملاً وتعرية هؤلاء الذين تعاونوا مع الأعداء في اغتصاب وسلب أرض فلسطين:

(في أوائل حكم الإنجليز بدأ بعض الانذال يسمسروا على الأرض، ويومها الأمير سعيد باع حصته لليهود في أربع قرى)

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات