الخميس 09/مايو/2024

نحو استراتيجية إسلامية شاملة لمواجهة العدوان

أ.د. محمد اسحق الريفي

 

ما تتعرض له أمتنا العربية والإسلامية من حرب شاملة يستوجب وضع استراتيجية إسلامية شاملة تهدف إلى الدفاع عن الأمة من خلال توعية شعوبنا وتعبئتها واستنهاضها وتوظيف طاقاتها، وتوحيد مواقف قوى الأمة الفاعلة والتنسيق الكامل بين جهودها، ووضع الخطط والبرامج لإنهاء حالة اليأس والتخبط الشعبي.

فمنذ أن مزقت اتفاقية سايكوس بيكو أمتنا العربية والإسلامية إلى كيانات صغيرة تحكمها أنظمة مستبدة موالية للأعداء، خاضت شعوبنا تجارب عديدة في صراعها مع الأعداء، وعلى رأسهم تلك الأنظمة الخائنة، من أجل نيل حريتها وكرامتها وتحرير أوطانها، إلا أن معظم هذه التجارب باءت بالفشل، واستطاع الأعداء، بمكرهم وتآمرهم، تحويل ما حققته شعوبنا من انتصارات إلى هزائم وما صنعته من إنجازات إلى نقمة على شعوبنا، وكل ذلك بسبب غياب وحدة الأمة.

وأمتنا الآن في وضع مؤسف وخطير للغاية حيث أصبحت شعوبنا معتقلة في تلك الكيانات التي يعمل حكامها جاهدين على محاربة وحدة أمتنا وإعاقة نهضتها.  ولقد تمادت تلك الأنظمة في عدائها لشعوبنا وديننا إلى حد المجاهرة بتحالفاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود حرباً غربية صهيونية شرسة ضد أمتنا بلا هوادة، بل أصبحت تلك الأنظمة رأس الحربة بيد الأعداء في حربهم على الإسلام والمسلمين والأداة الأشد فتكاً بشعوبنا.

هذا بالإضافة إلى اتساع دائرة الحرب على الإسلام والمسلمين لتشمل، بالإضافة إلى الجانب العسكري، الجوانب الفكرية والثقافية والإعلامية والاقتصادية، فطالت هذه الحرب المسعورة عقيدتنا ومقدساتنا ورموزنا الإسلامية.  كما أن تلك الحرب لم تقتصر على العرب والمسلمين في الشرق فحسب، بل تجاوزت ذلك لتشمل الجاليات الإسلامية ومسلمي الغرب، لتهدد هويتهم الإسلامية وتمنعهم من الالتزام بشعائر دينهم الحنيف.

إن شعوبنا اليوم في حيرة من أمرها ..!! فهي لا تجد من يقودها ويرشدها ويعينها على تفعيل طاقاتها الكامنة وتوظيفها في الدفاع عن نفسها ومقاومة العدوان على أمتنا، ويرجع ذلك إلى غياب الوحدة الإسلامية التي تقتضي علينا التكامل والتنسيق والتضامن والتكافل فيما بين مكونات الأمة وإنشاء جبهة موحدة تتصدى للأعداء بوعي وبصيرة.

وتتجلى معالم الحيرة بوضوح عندما يتعرض قطر عربي أو إسلامي إلى اعتداء، فعندئذ تتناقض المواقف والآراء، وتدب الخلافات والانقسامات، وتصاب شعوبنا بالجمود وتعدم الحيلة والوسيلة، فيتمكن الأعداء من تحقيق مآربهم والوصول إلى غاياتهم الشريرة قبل أن نصل إلى إدراك كامل لحقيقة العدوان وأسبابه وأهدافه، وعندها يكون قد فات الأوان ..!!

ورغم أن الوحدة الإسلامية، بمفهومها الكامل والشامل، هي ضرورة ذاتية وفريضة شرعية، فإن تحقيقها، في ظل ما نشهده من تشرذم وانقسام طائفي ومذهبي وسياسي وعرقي .. أصبح حلماً بعيد المنال، إلا أنه يجب ألا نيأس من تحقيق هذه الوحدة حتى ولو في أبسط مستوياتها وأضيق نطاقاتها، كخطوة أولى نحو الوحدة التي افترضها الله عز وجل على المسلمين.

وإذا كانت الأحداث التي تعيشها فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان والسودان .. قد أوضحت للجميع معالم المشروع الأمريكي البريطاني الصهيوني الرامي إلى تغيير منطقتنا ثقافياً وجغرافياً واقتصادياً بما يخدم المشروع الصهيوني ويحقق للولايات المتحدة، وحلفائها العرب الرسميين والغربيين، ما تطمع به من كسر شوكة المسلمين ومنع أي نهضة عربية إسلامية، فإن السؤال الأكثر إلحاحاً في هذه الأيام هو: لماذا لا يضع المفكرون والعلماء والدعاة والقادة المسلمون استراتيجية إسلامية شعبية شاملة واضحة المعالم لمقاومة المشروع الأمريكي البريطاني الصهيوني في المنطقة ؟!!

ما من شك أن شعوبنا العربية والإسلامية لديها جاهزية عالية واستعداد كبير لتقديم التضحيات الجسيمة، ولديها القدرة على الصبر وتحمل المعاناة، وأنها تتمتع بإرادة صلبة وعزيمة متينة تعصمها من اليأس والإحباط وتيسر لها التصدي بقوة وعنفوان للمعتدين .. إلا أن هذه الجهود لا تزال تأتي في نطاق ردود الأفعال والهبات الشعبية العشوائية التي لا تلبث أن تزول. فشعوبنا المنقسمة على نفسها، والتي لا تملك استراتيجية شاملة للدفاع عن نفسها ومواجهة العدوان، غير مؤهلة للانتصار ولا تستطيع توظيف إنجازاتها وتضحياتها في خدمة القضايا المصيرية للأمة، وهذا ما يحذرنا منه الله عز وجل وينهانا عنه إذ يقول سبحانه: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}الأنفال46.

وأول ما يجب القيام به في هذا السياق هو أن تسعى المكونات الفاعلة للأمة العربية والإسلامية، وقادة الحركات الإسلامية، والدعاة والعلماء المسلمون، إلى تعزيز عناصر الالتقاء والاتفاق وتحقيق التضامن والولاء استجابة لقول الله تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }الأنفال73.

وهنا يأتي دور قادة الحركات الإسلامية والعلماء المسلمين، فشعوبنا تتوقع من قادة الحركات الإسلامية أن يبذلوا جهوداً كبيرة ومتواصلة من أجل توحيد المواقف والجهود وتحقيق التضامن والولاء، فلا يُعقل أن يكون حرص الحركات الإسلامية على خصوصية مناهجها التربوية والدعوية والحركية سبباً لتقويض الوحدة الإسلامية التي يؤمن بها الجميع ويسعى إلى تحقيقها ..!! 

أما العلماء المسلمون فهم المرشحون لقيادة شعوبنا نحو نهضة الأمة بما أنعم الله عليهم بالعلم والمكانة العظيمة لدى شعوبنا التي تبني عليهم آمالاً عريضة في خلاصها من براثن الطغاة وتحرير أوطانها وتحقيق وحدة الأمة، فعلى علمائنا الأفاضل أن يتقوا الله في شعوبهم وأمتهم وألا يجعلوا من الاجتهاد سبباً للاختلاف الذي يؤدي إلى إرباك الشعوب وتخبطها وانقسام الأمة، فالأجدر بعلمائنا الأفاضل أن ينأوا بأنفسهم عن النزعة الفردية عند الخوض في القضايا المصيرية للأمة، بل عليهم أن يوحدوا كلمتهم ومواقفهم في تلك القضايا المصيرية.

وفي هذا السياق يجب تعزيز دور الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والارتقاء به ليصبح مرجعية إسلامية عليا ونواة لمشروع توحيد جهود العلماء المسلمين ومواقفهم وكلمتهم فيما يتعلق بالقضايا المصيرية للشعوب العربية والإسلامية، وذلك بانضمام علماء المسلمين من كل البلاد إليه ودعمهم له، والعمل على زيادة تواصله مع الشعوب والتصاقه بالجماهير. ومما يؤسف له أن عدد أعضاء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لم يتجاوز بعد تسعة وعشرين عضواً، ولا يوجد له، بالإضافة إلى المقر الرئيس في دبلن بإيرلندا، سوى فرعين في القاهرة وبيروت.

وأرى أنه من الضروري أن يعمل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على إقامة مراكز بحثية خاصة به يقوم عليها متخصصون عرب وملسمين، ليستخدم الدراسات والأبحاث والتقارير الصادرة عن تلك المراكز في صنع القرار وتحديد حكم الله في القضايا والأحداث الساخنة التي تمس مستقبل أمتنا العربية والإسلامية.

وتقع على علمائنا الأفاضل مسؤولية وضع استراتيجية إسلامية شاملة تُبنى على أساس إعلاء شأن المقاومة ودعمها مادياً ومعنوياً واعتمادها طريقاً وحيداً للدفاع عن الأمة وصد المعتدين، دون الالتفات إلى مشاريع التسوية وإملاءات المجتمع الدولي وثقافة الاستسلام، ودون التعويل على ما يسمى بحوار الأديان وتحالف الحضارات الذي يستحوذ على جهود العديد من العلماء والدعاة والمفكرين، بينما لا تجد لهم جهوداً مماثلة، على أقل تقدير، من أجل جمع كلمة الأمة.

كما أنها يجب أن تبنى على أساس توحيد مواقف الحركات الإسلامية والعلماء المسلمين بشأن قضايا أساسية كالاعتداء على البلاد العربية والإسلامية ومحاولة تقسيمها، والتواجد العسكري الأجنبي في البلاد العربية والإسلامية بذريعة حماية المصالح الأمريكية أو حفظ الأمن أو حماية الأقليات، وممارسات أنظمة الحكم في محاربة التدين والحجاب والصلاة والجهاد ومحاصرة الشعوب العربية والإسلامية والصد عن سبيل الله، والاعتراف بالكيان الصهيوني والتطبيع معه وإقامة علاقات دبلوماسية مع حكومة الاحتلال، ومؤامرات تقسيم البلاد العربية إلى دويلات طائفية وعرقية، ومحاولات إفشال الحكومة الفلسطينية وإسقاطها …

وهذا يحتاج إلى إعلان مبادئ راسخة يجب على كل المسلمين أن يلتزموا بها، فقد استغل الأعداء الثغرات في مواقف العلماء والدعاة وقادة الحركات الإسلامية فيما يتعلق بالعراق، على سبيل المثال، لذبح الشعب العراقي واحتلال أرضه وتقسيمه ..!!

ويجب أن تعطي هذه الاستراتيجية أولوية عالية وخاصة للقضية الفلسطينية على اعتبار أن فلسطين هي بؤرة الصراع الأشد التهاباً بين أمتنا وأعدائها الصهاينة والغربيين، وأنها الجبهة الأشد خطراً في الصراع على الهوية والثقافة والعقيدة، بل إن مشروع تحرير فلسطين يصلح أن يكون نواة لمشروع إسلامي عالمي يقابل المشروع الأمريكي البريطاني الصهيوني الذي يستهدف منطقتنا وشعوبنا وأمتنا.

ولا شك أن هناك محاولات جيدة وحثيثة يقوم بها علماؤنا الأفاضل من أجل تحقيق وحدة الموقف تجاه الأحداث التي تمر بها أمتنا، وهناك العديد من الهيئات الإسلامية، عالمية الانتشار، والتي تضم بين أعضائها علماء مسلمين مخلصين غيورين وتسعى إلى توعية الشعوب وتعبئتها وتوحيد صفوفها وكلمتها ومواقفها، لكن لا يزال عمل معظم هذه الهيئات ينحصر في المجال الإعلامي الذي لا يرقى إلى مستوى التحديات في ظل هيمنة الأعداء على ماكينات الإعلام الضخمة والعديد من الفضائيات العربية الموجهة ضد العرب والمسلمين.

كما أن معظم تلك الهيئات الإسلامية تفتقر إلى التواصل الشعبي ولا ترقى برامجها وأنشطتها إلى طموحات شعوبنا وتطلعاتها وآمالها، ولهذا على العلماء المسلمين أن يبنوا قراراتهم وأحكامهم، بالإضافة إلى الشرع الإسلامي الحنيف، على الأبحاث والتقارير والدراسات التي تقوم بها مراكز عربية وإسلامية وعالمية للأبحاث والدراسات السياسية والاستراتيجية، لمواكبة تطورات الأحداث ومعرفة خطط ومؤامرات الأعداء وشدة الأخطار وحجم التحديات.

إن خروج مائتين وخمسين عالماً مسلماً بموقف موحد من الحصار الظالم المضروب على الشعب الفلسطيني والمؤامرات التي تحاك ضد الحكومة الفلسطينية المجاهدة لهو عمل عظيم يبشر بخير كثير ويبعث الأمل في اقتراب تحقيق جبهة إسلامية شعبية موحدة في مواجهة القوى التي تتوحد على حرب أمتنا وتتكالب عليها، وإن كان هذا الموقف قد أتى بعد أكثر من ثمانية أشهر من الحصار والتجويع والتآمر على الشعب الفلسطيني وحكومته الشرعية المجاهدة.

 نتمنى على علمائنا الأفاضل أن يتقدموا إلى الأمام بخطوات واثقة وحثيثة في مساعيهم الحميدة ليقودوا شعوبنا نحو النصر والعزة والتمكين، فعلماؤنا هم من يجب أن تدين لهم شعوبنا بالطاعة والولاء وليس تلك الأ

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات