الخميس 09/مايو/2024

الأحرار يصنعون الخبز يا عباس

بروفيسور عبد الستار قاسم

 

قال السيد محمود عباس في كلمته التي ألقاها بتاريخ 17/تشرين أول/2006 حول الأوضاع الفلسطينية بأن الخبز أهم من الديمقراطية. هذا قول خطير جدا لما ينطوي عليه من استبعاد للذات وفصل الإنسان عن نفسه ونكران قدراته الذاتية وانسحاق شخصيته. إنه قول يعود إلى القرون الوسطى عندما كانت لقمة الخبز وسيلة الأسياد الأولى في سوق العبيد كقطيع من الماشية الدهماء التي لا تعرف سوى طعم البرسيم. إنه قول مرعب يعود بالإنسان الفلسطيني مئات السنين إلى الخلف عندما كان يظن المرء أن التمرد على تحكم الأمراء بالأرزاق عبارة عن تمرد على الآلهة، وسيكون الجزاء آلاما في الدنيا وجهنّما مستعرة في الآخرة.

سأقبل هنا مزاوجة الديمقراطية بالحرية على الرغم من اختلافهما، وقبولي هذا مرتبط بالانطباع الشعبي أن الديمقراطية هي الحرية. وما يعنيه السيد عباس هنا هو خيار الشعب الذي تم التعبير عنه من خلال انتخابات أدت إلى فوز حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي. إنه يريد أن يقول إنه إذا تطلبت مسألة الحصول على الخبز من الدول التي تفرض على الشعب الفلسطيني حصارا ماليا تجاوز الديمقراطية وقرار الشعب الفلسطيني فإنه سيفعل ذلك.أي أنه مستعد للتضحية بالإرادة السياسية الحرة للشعب الفلسطيني من أجل لقمة الخبز التي يقدمها الآخرون.

ظني أن السيد محمود عباس يحمل شهادة الدكتوراة في العلوم السياسية، وبالتالي لا بد أنه يعي بأن كيان الإنسان الحر والمستقل يستحوذ على اهتمام فلاسفة السياسة على اعتبار أن لا إبداع بدون حرية، وأن الحر وحده هو الذي يستطيع التعامل مع مختلف الظروف والأحوال من أجل أن يبقى سيد نفسه وغير مستعبد بأي طريقة كانت من قبل أي شخص أو ظرف أو متاع. انهمك فلاسفة الإنسان والسياسية عبر التاريخ وحتى الآن في البحث عن حرية الإنسان لأنها هي أرضية تقدمه وعطائه وقدرته على المشاركة الحرة في أعمال المجتمع وصناعة الحضارة. وقد انهمك هؤلاء بمحاربة كل أنواع الاستغلال التي تسخّر الإنسان وتلغيه، وتجعله مجرد أداة بيد الآخرين الذين يمنون عليه في عبوديته.

إذا كان أبو مازن لا يدرك هذا فهو بالتأكيد لا يحمل شهادة الدكتوراة في العلوم السياسية، أو أنه يحملها شكلا بدون جوهر، أو ربما قام أحدهم بكتابة رسالة الدكتورة بالنيابة عنه، ولم يقم هو إلا بمراسيم الحصول على الشهادة. إذا كنت أنا مخطئا في هذا، فلا بد أنني لم أستمع إلى السيد عباس، أو خانتني قدرتي على فهم منطقه الخطابي.

يا سيد أبو مازن، يا رئيس دولة فلسطين: كلامك هذا يحفر قبرا جماعيا ليهلك فيه جمهور الفلسطينيين فيصبحون أثرا بعد عين. أنت تدعو إلى العبودية، إلى استعباد الشعب الفلسطيني، وتدعو إلى نزع الإنسان عن نفسه وتمزيق وهدر كرامته مقابل رغيف الخبز، أنت لا تعتبر الفلسطيني أكثر قيمة من رغيف الخبز، بل أنت تعتبره أقل من الرغيف لأن الرغيف، حسب فلسفتك، هو سر العيش. أنت ترى في الفلسطيني كائنا يبحث عن عيش لا عن حياة. ألا ترى أن الإنسان عبد لمن يطعمه، وأن العبد مجرد بهيمي لا حقوق له أكثر من نعمة يقدمها له سيده صاحب الفرن؟

هل تشعر بالسعادة يا سيد أبو مازن عندما تقول أنك لا تعمل خيرا مع المحتاج عندما تقدم له الخبز أو السمك، وإنما تصنع معه خيرا عندما تعلمه صيد السمك؟ نحن نتعلم يا حضرة السيد أبو مازن ونقرأ الكتب من أجل أن نرتقي لا من أجل أن نحفظ عبارات لا نطبقها على أرض الواقع. لو كنت حريصا على هذا الشعب لنزعت لقمة خبزه منذ أن استلمت منصبك من أيدي الأعداء. أبله هو ذلك الذي يعتمد في لقمة خبزه على عدوه، وإذا أمعن في ذلك فإنه متآمر على نفسه وعلى كل الذين يعيلهم. الأمم العظيمة تبحث دائما عن أسباب الاعتماد على الذات، ولا تبحث في جيب إسرائيل وأمريكا من أجل إطعام الأطفال حليب اللئام. لو كنت قائدا حقا، ولو كنت دكتورا في العلوم السياسية، ولو كنت تعلم النزر لما قبلت أصلا أن تبقي لقمة خبزنا بيد أعدائنا. أنت وغيرك تعلمون أن لقمة الخبز الآتية من الغرب لها ثمن، وثمنها الحقوق والكرامة والاستقلال؛ وأنت تعلم أن لقمة الخبز التي يعتصرها عرق الجبين هي التي تعني الكبرياء والكرامة والتحرير. الأذلاء يا حضرة الرئيس لا يقوون على التحرير، ولن تكون لهم دولة وعاصمتها القدس الشريف.

الرئيس يدعو أصحاب الخبرة والمعرفة والعلم في كل الأحوال للتداول، فما بالك عندما تحل المحن وتدلهم الخطوب؟ كان من الأجدى أن تدعو علماء فلسطين للتداول في كيفية الاعتماد على الذات، وعلى الأصدقاء وقت الضرورة الذين يقدمون بدون شروط. كان الأجدى أن نطور نظاما اقتصاديا خاصا بنا لا يربطنا بأهل الغرب ولا بالنظام المالي الأمريكي. كان الأجدى أن تقول لشعب فلسطين أن الأموال التي تأتيهم من الغرب هي ثمن حقوقهم، وأن لا حق لهم سوى طعام دنس يملأ أمعدتهم، وإذا أرادوا لهذا الدنس أن يبقى متدفقا في أمعائهم فما عليهم إلا تقديم السمع والطاعة للرباعية والثلاثية والثنائية وكل البغاة الشياطين.

لا بديل عن الحرية يا سيادة الرئيس لأن الأحرار يصنعون الخبز، ومدّ اليد للآخرين هي صناعة العبيد. لا تكن عبدا يا رئيس فلسطين، ولا تجر الناس إلى العبودية. العبيد لا ذمة لهم ولا ضمير، وهم يسرقون طعام وأرزاق إخوانهم في العبودية، أما الأحرار فلا ينامون وإخوانهم جوعى. الأحرار يزرعون ويصنعون ويأكلون نصف طعام، لكن الأهم أنهم يعرفون كيف يقتسمون الرغيف. الأحرار يبحثون عن الكرامة ويصرون على الحقوق، ويطورون قدراتهم وطاقاتهم لكي تبقى رؤوسهم مرفوعة، أما العبيد فترتعش أجسادهم كلما ظنوا أن حرية تتسلل إلى أوصالهم.

ما سمعته منك يا رئيس فلسطين عبارة عن كلام رخيص لا يطيب إلا للذين رخصت نفوسهم وقدموا أنفسهم خدما طائعين لأسياد شهواتهم. الكلام الذي صدر عنك هو عيب، وأنا كعربي فلسطيني أخجل من نفسي كلما لا مست ذهني حقيقة أنك تتحدث باسمي.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات