السبت 27/أبريل/2024

مؤتمر المحرقة : أصوات سويدية تتصدى للهولوكست

مؤتمر المحرقة : أصوات سويدية تتصدى للهولوكست

رغم مرور أكثر من شهر ونصف الشهر على انفضاض مؤتمر المحرقة الهلولوكست) الدولي الذي استضافته ستوكهولم، لم تخمد ردود الأفعال عليه بين مؤيد ومندد وبطبيعة الحال فلقد كان لبعض التطورات الدولية أثر تحريضي في إذكاء حمى النقاشات كلما مالت نحو الهدوء، وخاصة مشاركة حزب الحرية في حكومة النمسا، وما أعقبه من عواصف دولية، وتصريحات رئيس وزراء فرنسا ليونيل جوسبان بشأن المقاومة اللبنانية، وما حركه من شجون حول النفوذ اليهودي في فرنسا. وبين هذا وذاك الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وتهديدات ديفيد ليفي بحرق لبنان وتطبيق قانون السن بالسن والعقاب الجماعي .. الخ، ولكن رغم تأثير هذه الأحداث المفهومة نسبياً فإن ثمة مؤشرات لا تخفى على عين الراصد، تدل على أن ردود الأفعال في الدول الأوروبية بعامة على مسائل النفوذ اليهودي، والسطوة الإسرائيلية المجسدة حالياً بزيادة طلبات التعويض المالية من هذه الدولة أم تلك، لأسباب تتصل بمخلفات الحقبة النازية، آخذة في التبلور والتراكم، متغذية من عوامل داخلية أولاً، ولا تحتاج دائماً لشرارة من الخارج كي تلهبها. والواقع أن الذين يحذرون اليوم من أن مغالاة اليهود وإسرائيل، ومبالغاتهم في ممارسة الضغوط والسطوة على الدول الأوروبية، قد يحيي مجدداً مشاعر الكراهية والعداء العنصري اللاسامية نحوهم، لا يجافون المنطق، وسيجد هؤلاء وسواهم في الظاهرة التالية، دليلاً قوياً على وجاهة وجهة نظرهم ورجاحتها .

فبينما كانت الدولة السويدية بقضها وقضيضها منشغلة في الإعداد لمؤتمر الهولوكوست، تشاركها الصحف اليومية الأربع بتخصيص العشرات من الصفحات والزوايا عن الهولوكوست والمؤتمر، مجمعة على الإشادة برئيس الوزراء بارسون الذي اشتهر بفشله الفاضح في ميدان السياسة الخارجية طوال أربع سنوات، معتبرة أن هذا المؤتمر ليس النجاح الأول أو الوحيد وحسب، لكنه  الإنجاز الذي يغفر سائر الإخفاقات السابقة، في غمرة ذلك صدرت في ستوكهولم أواخر العالم الماضي، مجلة دورية جديدة باسم (سالت)، أو (الملح بالعربية) وقالت افتتاحية العدد الأول:  إن أصحاب المجلة ومحرريها، اضطروا لإصدارها، كي ينشروا فيها ما تمتنع عن نشره الصحف الكبرى التي يعملون فيها وتتألف هيئة تحرير المجلة من عدد من الصحافيين المعروفين محلياًن أبرزهم يوناس ديير الذي يكتب عادة في صحيفة (داغيتر نيهتر) أهم صحيفة يومية صباحية، ومثله بيار أولف بولاندر، والسيدة أوسا بونكفيست التي تكتب في صحيفة “سفنسكا داغ بلادت” وهي ثانية كبرى الصحف الصباحية ولم تكن هذه المرة الأولى التي يسمع فيها السويديون أن صحافتهم تحد من حرية كتابها، وتضع خطوطاً حمراً أمام النشر، لكنها المرة الأولى التي يبادر فيها الممنوعون من نشر آرائهم لإصدار مجلة، تتخصص في نشر ما لا يسمح لهم بنشره في اليوميات، وهو في الواقع بمعظمه، إن لم يكن جميعه يتعلق باليهود وإسرائيل، نقداً ومعارضة وفضحاً .

العدد الثالث من المجلة، والذي صدر مطلع الشهر الجاري، احتوى على افتتاحية عنيفة، لفتت الأنظار إليها، لشدة ما وجهته من اتهامات لمؤتمر الهولوكوست، فوصفته بأنه لم يكن أكثر من قداس ديني كنسي لما أصبح اليوم عملياً ديناً جديداً للدولة في الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية –ديانة الهلوكوست” وتدلل الافتتاحية على اتهامها بأن المؤتمر افتقر لأي أبحاث علمية وتاريخية جادة، وأنه اتسم بكثرة الثرثرة والهذر، وعدم وضوح موضوعه بشكل محدد، ولا الهدف منه. وترى أنه كان ينبغي إجراء مسح تاريخي، وتقييم مقارن، للمذابح التي ارتكبت ضد الشعوب كافة، توطئة لاستخلاص الحقيقة التاريخية، بشكل جاد، بدلاً من قصر الجهد وتركيزه على الهلولوكوست اليهودية وإضفاء سمات الفرادة والخصوصية عليها .

ويطور كتاب الافتتاحية هجومهم وما يسمونه محاولات غرس عقدة الذنب في نفوس الأوروبيين وصولاً إلى الهولوكستية كأيديولوجية أو عقيدة، فيقولون: إن الهلولوكستية أصبحت بمثابة ديان رسمية للدولة في الغرب، مثلها مثل المسيحية، تنشر الاعتقاد بأن الفوز بالجنة للذين يكفرون عن ذنوبهم ويتوبون توبة نصوحاً، ويتوسلون المغفرة فحسب. وبمقتضى هذا الدين لم يعد المسيح هو من يفتدي الناس ويخلص العالم، بل هم اليهود، إذ يحلون محله في العذاب وتحل معسكرات الديانة النازية محل الصليب، وتصبح معاناتهم التي يحرم مقارنتها بأي معاناة أخرى، هي ما ينقذ البشرية ويهديها إلى نظام عالمي جديد تسوده الكرامة والديمقراطية. ومن أركان هذه الديانة الجديدة القول أن انتصار الخير الذي قادنا اليهود إليه ضد قوى الشر، يظل مهدداً  إذا نسينا معاناتهم، ولذا يجب أن نتذكر ما حل بهم في غرف الغاز ومعسكرات الاعتقال دوماً، ويجب على سائر الشعوب الأوروبية الاعتراف بمسؤولياتها لما أصابهم، لأن أي ضمور في الشعور بالذنب يستبطن خطر تكرار الخطايا المذكورة ومن طقوس هذه الديانة الحج إلى معسكرات النازية، والاستماع إلى الناجين منها، لأنهم غدوا بمثابة المصادر التاريخية، ولذلك أنيط لهم مهمة نشر العقيدة الجديدة في المدارس من خلال برامج “التاريخ الحي” المطبق في السويد منذ ثلاثة أعوام. وهو برنامج يرمي بحسب الافتتاحية “سالت” دائماً إلى الاستحواذ على عقول الأطفال بروايات شفوية لا يسمح فيها بالنقد، أو الشك .

وتنفد الافتتاحية القول أن المناهج المدرسية لا تقدم ما يكفي من المعلومات عن الهولوكست، لأن هذه المناهج لا تتعرض لغير الجرائم التي أصابت اليهود، وهناك جهل تام بين التلاميذ بالجرائم المشابهة التي تعرضت لها الشعوب الأخرى على يد النظام السوفييتي مثلاً، ولا زالت صورة هذا النظام بعيدة عن حقيقته الإرهابية، بل إن الشيوعيين ما زالوا لليوم يشاركون في بعض الحكومات الاشتراكية كالسويد نفسها، الشيء الذي يفضح النفاق الذي يمارسه دعاة الهلولوكست عن رغبتهم بتصفية الحساب مع الماضي .

ويتصدى محررو المجلة الجانب الاقتصادي من الهلولوكستية، رغم أنه في رأيهم من أشد المحرمات ويلاحظون أن  المنظمات اليهودية العالمية، صنعت من ذكرى المحرقة صكوك غفران على الشعوب الأوروبية أن تشتريها جيلاً بعد جيل، وأن تكفر عن ذنوب أسلافها التي لا تغتفر، كما يتعين على الحكومات والمصارف والشركات، أن تسدد باستمرار تعويضات عما يعتبر خطايا من وجهة نظر اليهود وحدهم. وبحسب هذه فإن مرتكبي الجرائم ليسوا الذين اقترفوا أعمالاً معينة وحسب، بل إن الذين لم يقوموا بما يراه اليهود واجباً أخلاقياً وإنسانياً يدخلون قائمة المطلوب منهم تسديد التعويضات تكفيراً عن جرائمهم. وتتساءل الافتتاحية عن مصير مليارات الدولارات التي دفعت كتعويضات، من دون أن يدري أحد كيف وأين تنفق هذه الأموال الطائلة ثم نطالب بإجراء تحقيق في مالها، نظراً لقدرة المال على الفساد والإفساد. كما تتساءل عما إذا كان من حق شعوب أخرى تعرضت للاضطهاد ومحاولات  الإبادة طلب تعويضات مماثلة بعد خمسين سنة من أحفاد الذين اضطهدوهم وتضرب مثلاً بالشعب الفلسطيني .

وتختتم الافتتاحية باستنتاج أن القوى اليهودية المتنفذة لا تطالب بالإقرار بأن جرائم النازية قد حدثت فعلاً كما يرويها اليهود، كما لا يطالب باستنكار هذه الجرائم فقط، لكنها تطالب بالرضوخ للطبيعة الدينية التي أضيفت عليها، وهو ما ينبغي رفضه بكل حزم لأنه يتنافى والحقوق الديمقراطية أولاً، ويؤدي لذبح حرية التعبير، ودور القضاء، ويؤدي الحقوق والمؤسسات التي يرتكز النظام الديمقراطي عليها. وتؤكد أن الحالة المزرية الموصوفة، وما تنطوي عليه من أخطار تهدد الديمقراطية، لا تقتصر على السويد وحدها لكنها تشمل الدول الأوروبية بعامة .

لقد أثارت المجلة نقاشاً ما زال مفتوحاً وساخناً، وكذلك افتتاحيتها الأخيرة الحادة، فتلقت هجمات أكثر حدة وشدة، ووصف كتابها بالمنشقين واليمينيين المتطرفين، وتساءل الكاتب توماس غور عما إذا كان العداء للسامية شيئاً آخر ما جاء في هذه الافتتاحية بالذات، وقال ما معناه، إن التقييمات والأفكار التي تضمنتها تذكرنا بما يكتب في الصحف العربية عن الهلولوكست والنفوذ اليهودي. وكان الكاتب السويدي من أصل مغربي أحمد رامي قد علق على “سالت” واصفاً إياها بالانتفاضة الفكرية على التسلط اليهودي غير المشروع، ورأى أن الأفكار التي تضمنتها الافتتاحية تعتبر ثمرة للبذور التي غرسها هو في خطابه الإعلامي عبر إذاعته المحلية، طوال العقد الماضي، وكان رامي أول من أشعل فتيل النقاش حول فكرة “التسلط اليهودي” الخفي على السويد، منذ مطلع الثمانينات، واستطاعت المنظمات اليهودية أن تسوقه، إلى محاكمة شغلت كثيراً الرأي العام في 1989، وانتهت بإدانته، ومعاقبته بالسجن ستة شهور، لكن معلقين آخرين لم يترددوا في انتقاد مؤتمر الهلولوكست، والمجلة معاً، والتحذير من التطرف من هنا وهناك .

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات