الأربعاء 22/مايو/2024

إسرائيل وتبدل معايير الدولة المنبوذة في النظام الدولي

إسرائيل وتبدل معايير الدولة المنبوذة في النظام الدولي

الدولة المنبوذة هي اصطلاح شاع منذ عقود عدة في العلاقات الدولية حتى الآن، وإن اختلف مفهوم النبذ والمعايير التي تعتمد لنبذ دولة ما على أساسها، كذلك مقدار النبذ الذي يفرض على هذه الدولة، والجهة التي تضع معايير نبذ الدول. وقد انصرف معنى النبذ إلى صفة سلبية تلحق بالدولة فتجعل التعامل معها غير مستحب وتغدو – لأسرة المجتمع الدولي – إما عدواً خارجاً على أعرافه، أو كريهة في نظره، أو ببساطة تقع فريسة ظروف لا دخل لها فيها فيلحقها النبذ ظلماً في نظر البعض وحقاً في نظر الآخرين .

ويمكن القول إن فكرة نبذ الدولة في المجتمع الدولي، التي تنصرف إلى عزلها وعزلتها فكرة عرفتها المجتمعات الداخلية على مر السنين غير أن تطبيق الفكرة في العلاقات الدولية المعاصرة بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عندما صارت ألمانيا واليابان وإيطاليا وهي دول المحور، في عداد الدول الأعداء التي استثنى ميثاق الأمم المتحدة حظر استخدام القوة في حالاتها، خصوصاً حالة تجدد العداء من جانب هذه الدول. ولم تلبث الحرب الباردة أن بدأت عام 1946 فأضيف إلى هذه الدول – في نظر الحلفاء الغربيين- دول المعسكر الشيوعي .

وقد درجت الدراسات على استخدام معيار كمي وصفي قوامه عدد الدول المتعاملة مع الدولة المنبوذة ومساحة الحركة المتاحة لها على المسرح الدولي. وأدرجت على القائمة وفق هذا المعيار إسرائيل وتايوان منذ 1971  وجنوب أفريقيا تحت الحكم العنصري قبل عام 1993، وكوبا المفروضة عليها جزاءات مجلس الأمن منذ عام 1961 وكذلك الجزاءات الأمريكية حتى الآن، ثم كوريا الشمالية، أما إسرائيل فقد عدها الباحثون من الدول المنبوذة حينذاك من دون أن يحددوا أسباب النبذ، وهي أسباب متعددة في ظل الصراع العربي – الإسرائيلي، بدءاً بالسبب الأول وهو قيام إسرائيل بالقوة التي ساندتها الشرعية الدولية السياسية غير القانونية التي أملاها الواقع الدولي على حساب أصحاب الأرض من الفلسطينيين. ولما احتلت إسرائيل بقية فلسطين وأقاليم عربية أخرى، أصبح سبب النبذ والمقاطعة العربية والصديقة على امتداد العام هو رفض إسرائيل تنفيذ قرار مجلس الأمن 242 القاضي بتسوية المشكلة في الشرق الأوسط على أساس قبول إسرائيل بحدود ما قبل 4 حزيران (يونيو) 1967 مقابل ردها للأراضي التي احتلها يوم 5 حزيران (يونيو) وتطبيع العلاقات مع جيرانها في العالم العربي. فلما رفضت إسرائيل تنفيذ شروط التسوية في القرار 242 استجدت عوامل أهمها حرب 1973 وتغير ميزان القوة بين إسرائيل والعرب، ثم ظهور الدور الأمريكي، الساعي إلى دفع التسوية السياسية والإقليمية، وظهور القوة السياسية والمحلية والبترولية العربية التي دفعت إلى تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية، فأصبح النبذ لإسرائيل وفق قرار مجلس الأمن، ولما اتجهت التطورات نحو عقد اتفاقات سلام مع إسرائيل وإنهاء حالة الحرب معها ألغي هذا السبب، وانفسخ المجال واسعاً أمام إسرائيل لتنطلق إلى الآفاق العالمية والعربية بمجرد الاتفاق في مدريد على صيغة التسوية، وبالذات بعد الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني، فرفع القيد عن إسرائيل واتسعت دائرة علاقاتها مع دول العالم التي نبذتها قبل مدريد تضامناً مع الموقف العربي، بل جنت معظم ثمار السلام بمجرد التعاقد عليه قبل أن تنفذ تبعاته .

أما نظرية النبذ التي أفلتت منها إسرائيل، فقد ركزت على سببين لنبذ الدول وفق تقدير واشنطن، السبب الأول هو عدم احترام للمعايير العالمية لحقوق الإنسان، ويلحق بذلك عدم تنفيذها للمتطلبات الديمقراطية، وقد طبق هذا المعيار – لكونه معياراً سياسياً وأخلاقياً مطاطاً- تطبيقاً انتقائياً فمن وافق عليه برئت ساحته ولو لطخت يداه كل الصفحات، ومن استعلى على التوجهات أدرج في القائمة السوداء السنوية حتى لو برأته كل الساحات الأخرى .

ثم أضيف سبب آخر للنبذ وهو ممارسة الإرهاب أو دعمه أو التستر عليه أو تشجيعه بأية صورة، وترك لواشنطن أن تحدد ما يعد وما لا يعد من قبيل الأعمال الإرهابية، وتطبيقاً لهذا المعيار تصدرت إيران والسودان وسورية وليبيا القائمة جنباً إلى جنب مع كوريا الشمالية ولكن بتهمة حيازة أسلحة غير تقليدية ورفض التفتيش الدولي عليها، وهي تهمة لحقت بالعراق وأخضعته ليس فقط لعمليات التفتيش وإنما لأعمال تدمير لهذه الأسلحة وعلى حسابه وتحت إشراف دولي .

أما إسرائيل فأصبحت – في نظر واشنطن – دولة رائدة في إعلاء القيم الديمقراطية، ومثلاً يحتذى في التسامح ونبذ العنف والتعصب ومن أهم حصون مكافحة الإرهاب .

ولا يجد المرء صعوبة في أن يسوق من الأمثلة ما يجعل إسرائيل في مقدمة الدول التي تنأى عن التسامح وتتحكم بسلوكها الدولي جماعات التعصب الديني والسياسي ويقر قضاؤها أعمال التعذيب والتنكيل بالفلسطينيين، وتقوم حكومتها بأعمال الاغتيال السياسي والإرهاب وتجاهر به وتفخر، ولا تحترم التزاماً ثنائياً أو عالمياً كما تحوز كل أنواع الأسلحة وتتعاون على حيازتها مع غيرها وترفض الانضمام إلى اتفاق الحظر الجزئي للتجارب النووية كما ترفض السماح بالتفتيش الدولي على منشأتها، وتفرض على العالم مفاهيم مخالفة للقانون الدولي، وهكذا أصبح العالم بمعاييره وسلوكه في جانب وإسرائيل في جانب آخر، وألصق الإرهاب والتعصب ورفض قرارات الأمم المتحدة وانتهاك القانون الدولي بدول عربية وإسلامية، وغيرها بينما إسرائيل التي تجسد كل الرذائل لا تزال في نظر واشنطن كما هي.

إن هذه النظرة القاصرة تهدد مكانة الولايات المتحدة نفسها وتفرغ قوتها العظمى من أهم مقوماتها وهو العامل الأخلاقي الذي يجعل للنبذ في العلاقات الدولية سبباً واحداً ينطبق على الجميع من دون تمييز وهو عدم احترام الدولة أية دولة لمعايير السلوك الدولي المتحضر، ولكن كيف يتأتى ذلك لواشنطن، وبرلمانها نفسه يضع نفسه في موضع المشرع الدولي فيشرع للآخرين، ولا يتورع عن تشويه قواعد القانون الدولي خصوصاً إذا تعلق الأمر بمصلحة إسرائيل، ولكن الأغرب أن تصر واشنطن وإسرائيل على الحديث عن الشرعية الدولية التي يلتزمها الضعفاء، ولذلك فإن نقطة البداية في تحديد معيار الدول المنبوذة أن يتم أولاً تعديل كفة النظام الدولي المقلوب، وأن تصعد قوى تجعل التوازن والتحديد أمراً ممكناً .

كاتب وديبلوماسي مصري

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات