دروس من مخيّم جنين
في واقعٍ تسوده الفوضى والظلم والطغيان، تكون القوة هي ما يحدّد اتجاهات القيم وإسقاطاتها. لكن القوة، مهما كانت غاشمة، لا يمكن لها أبداً أن تفرض صياغة جديدة لُكُنْهِ القيم أو تعيد تعريف مضامينها. وهكذا، في عالم المثال المتحرّر من سطوة الجبر، تبقى القيم هي القيم، والمعايير هي المعايير، فالعدل هو العدل، والكرامة هي الكرامة، والحقّ هو الحقّ، مهما كان هناك تلاعب وتدليس، ومهما كان هناك تشويه وافتئات.
ومن الضروري أن نسجّل هنا أن الحقّ الذي لا تحميه قوة، وإن بقي حقاً من الناحيتين القيمية والمعيارية، يكون ضعيفاً من الناحيتين الواقعية والإجرائية.
قد لا يكون جديد في ما سبق، لكن هذا لا ينفي أن صاحب الحقِّ مطالَبٌ دائماً بأن لا يتنازل عن حقّه، وأن لا يستسلم أمام محاولات العبث بمعاني القيم ومضامينها، وأن يبقى في حالةٍ من الفعالية الدائبة بغية تعديل موازين القوى، أو على الأقل الارتكاز إلى شكلٍ من أشكالها، بما في ذلك العزيمة وتعزيز القدرة على الصمود والتحدّي.
من الضروري أن نسجّل هنا أن الحقّ الذي لا تحميه قوة، وإن بقي حقاً من الناحيتين القيمية والمعيارية، يكون ضعيفاً من الناحيتين الواقعية والإجرائية.
تداعت هذه المعاني إلى خاطري في خضم العدوان الإسرائيلي أخيرا على مخيّم جنين. كما العادة، زعمت إسرائيل أنها تحارب “الإرهاب” الفلسطيني. ومباشرةً جاءها السند الغربي، الذي لا يقلّ عدوانية ونفاقاً، “لإسرائيل الحقّ في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب”.
كان هذا موقف عبّرت عنه الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، وغيرها من دول غربية. دع عنك هنا ذلك التبجّح بالدعوة إلى “ضبط النفس” و”حماية المدنيين” و”احترام مبدأ التناسب المنصوص عليه في القانون الدولي”، فهذه مجرّد مساحيق تجميلٌ لموقف دنيء بشع، وهي لن تفلح حيث أتت، ولن تُجَمِّلَ حيث وضعت أبداً.
المفارقة الصارخة أن هؤلاء هم أنفسهم من ينتقدون إسرائيل على استمرارها في الاستيطان ومصادرة أراضي الفلسطينيين وهدم بيوتهم ومنع إقامة دولةٍ تكون تبعاً لها في فلك احتلالها. 75 عاماً من الاحتلال الوحشي المباشر، وقبلها 25 أخرى ويزيد من العدوان على الفلسطينيين. ومع ذلك، لا يحقّ للفلسطينيين، في نظر هؤلاء، المقاومة، فقط لإسرائيل “الحقّ في الدفاع عن نفسها”.
ولم العجب، فهؤلاء أنفسهم هم من أوجدوا الكيان الصهيوني، وهم من يوفّرون له الحصانة الدولية، وهم من يزوّدونه بالسلاح وبكل وسائل الاستمرار بالبطش بالفلسطينيين، بل إنهم لا يقلون إجراماً عنه، وتاريخهم وواقعهم الإمبريالي العدواني شاهدٌ على ذلك، وكل ما في الأمر أن إسرائيل امتداد لهم، أو نسخة كربونية عنهم.
قارن موقفهم في فلسطين المحتلة بموقفهم من الغزو الروسي أوكرانيا. هنا تتبدّل المنظومات القيمية، ويتم تفعيل المقاربات المعيارية الصارمة، بل ويصبح للإنسانية تعريفٌ آخر.
تجد أوكرانيا منهم كل الدعم والتأييد، إعلامياً وديبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً، ويكون تصدّيها للقوات الروسية “مقاومة” و”دفاعاً عن النفس”، بل يحتفي الإعلام الغربي بـ”انتحاريين” أوكرانيين فجّروا جسوراً أو أرتالاً عسكرية روسية على أنهم “استشهاديون”. حتى تحصّن (أو تخندُق) المقاومين والجنود الأوكرانيين بين المدنيين لا يجد إلا تقريظاً، بدواعي الضرورة، وَتُحَمَّلُ روسيا مسؤوليتها.
قد يكون الحديث عن “ازدواجية المعايير” وانحياز الغرب وتواطئه من باب لزوم ما لا يلزم. لكن ما يعنينا هنا أمران: أن نكون دوماً متنبّهين إلى ذلك. وأن لا نشكّك، ولا حتى نقلّل من شأن المقاومة الفلسطينية وأهميتها، ذلك أنها تصنع، وتتيح مساحة لإقامة شكلٍ من موازين القوى.
في هذا السياق، لا ينبغي لنا أن نسقط في المستنقع الآسن الذي سقط فيه كثير من الغرب وأزكم أنوفنا، فمن حقّ الأوكرانيين أن يدافعوا عن بلادهم ضد غزو أجنبي. ومن حقّنا، كذلك، بل ومن واجبنا أن ننبّه إلى “المعايير المزدوجة”، مع التأكيد على أن الغرب لا يفعل ذلك إنسانيةً نحو الأوكرانيين بقدر ما أنه يريد استنزاف روسيا على أشلاء أوكرانيا. بمعنى أن القيم والمعايير هنا تصبح براغماتية وظيفية، لا مبدئية موضوعية.
قد يكون الحديث عن “ازدواجية المعايير” وانحياز الغرب وتواطئه من باب لزوم ما لا يلزم. لكن ما يعنينا هنا أمران: أن نكون دوماً متنبّهين إلى ذلك. وأن لا نشكّك، ولا حتى نقلّل من شأن المقاومة الفلسطينية وأهميتها، ذلك أنها تصنع، وتتيح مساحة لإقامة شكلٍ من موازين القوى.
وبالتالي، إعادة تأكيد معاني القيم وضبط بوصلة المعايير. يحترم العالم الأقوياء، وعزيمة المقاومة الفلسطينية وصمودها يفرضان واقعاً جديداً على إسرائيل والغرب المتواطئ، والمجتمع الدولي المتخاذل، شاؤوا أم أبوا.
من ثمَّ، ليس صحيحاً أن مسار التفاوض والمساومات، باسم الواقعية السياسية، وتسوّل الاعتراف بالفلسطينيين كبشر، ومحاولات إثبات الاستحقاق والجدارة بالدولة عبر “التنسيق الأمني” مع المحتلّ، هي ما يفرض الفلسطينيين على الأجندة الدولية. بل يعود الفضل في ذلك إلى المقاومة الفلسطينية وثبات الفلسطينيين على أرضهم رغم البطش الصهيوني، والتواطؤ الغربي، والخذلان العربي والإسلامي والدولي.
لا يحترم العالم الأقوياء فحسب، بل إنه يحترم أكثر من ينافحون عن حقوقهم ويرفضون الاستسلام والاضمحلال، مهما بالغ الآخرون في تناسيهم والتغاضي عن آلامهم وجراحاتهم.
إننا إزاء شعبٍ يأبى الانكسار والخنوع منذ ما يربو على قرن، وإن إرادة وعزيمة وتضحية وإبداعا كالذي يعلمه الفلسطينيون للعالم لا بد أنه منتصرٌ يوماً. ولعل في تغيّر المزاج الشعبي الدولي نحو الحقوق الفلسطينية، حتى في الغرب نفسه، دليلاً على ما نقول.
لا يحترم العالم الأقوياء فحسب، بل إنه يحترم أكثر من ينافحون عن حقوقهم ويرفضون الاستسلام والاضمحلال، مهما بالغ الآخرون في تناسيهم والتغاضي عن آلامهم وجراحاتهم.
هذه بعض دروس مخيم جنين، مساحته نصف كيلومتر مربع، يكتظّ فيه أكثر من خمسة وعشرين ألف لاجئ فلسطيني مُعْدَمين، ولكنه خَرَّجَ واحتضن أجيالاً من المقاومين، ولا يزال، كي يكون أيقونةً، لا للنضال الفلسطيني فحسب، بل ولنضال المستضعفين في العالم ضد الطغيان والجبروت والظلم والاحتلال والعدوان.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات
ربع مليون مشارك في تظاهرة بلندن للمطالبة بوقف الإبادة الجماعية بغزة
لندن - المركز الفلسطيني للإعلام شهدت العاصمة البريطانية لندن، السبت، مظاهرة حاشدة بالتزامن مع الذكرى الـ76 للنكبة الفلسطينية شارك بها أكثر من ربع...
الاحتلال يطلق النار تجاه فلسطيني بدعوى محاولة طعن
القدس المحتلة - المركز الفلسطيني للإعلام أصيب فلسطيني، الأحد، بعد إطلاق قوات الاحتلال "الإسرائيلي" النار تجاهه قرب بلدة أبو ديس شرقي القدس المحتلة،...
الإعلام الحكومي: الاحتلال يمنع إدخال 3 آلاف شاحنة مساعدات إلى غزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قال المكتب الإعلامي الحكومي، إن الاحتلال "الإسرائيلي" يمنع إدخال 3000 شاحنة مساعدات ويمنع مئات المرضى والجرحى من...
أونروا: 800 ألف أجبروا على النزوح من رفح ولا مكان آمن بغزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قالت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إن ما يقرب من نصف سكان رفح (والنازحين إليها)، أو 800 ألف شخص،...
الأورومتوسطي يطالب بتأمين عودة مئات آلاف المهجرين قسرا من غزة وشمالها
جنيف - المركز الفلسطيني للإعلام طالب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، المجتمع الدولي بالتحرك العاجل والجاد لإلزام "إسرائيل" بالتوقف عن ارتكاب...
من صور البطولة في غزة .. مقاومان يشتبكان حتى الشهادة (شاهد)
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام في مقطع فيديو لا يتجاوز 20 ثانية يظهر بطلان فلسطينيان من قطاع غزة الواحد تلو الآخر وهما يشتبكان مع قوات الاحتلال...
الغريّبة .. حلوى النازحين المفضلة وسط الحرب في غزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام يعيش الفلسطينيون في غزة حرباً ضروس منذ 8 أشهر وما استكانوا وما وهنت عزائمهم صمودًا وثباتًا ومقاومة في مواجهة أعتى...