الخميس 29/أغسطس/2024

هبوب الريح من يوم عوجا الحفير إلى يوم نيتسانا !

د. أسامة الأشقر

لم تكن صحراء النقب بعيدة عن نضال شعب فلسطين عبر تاريخها القديم والحديث، بل كانت في قلب الفعل الثوريّ المناهض للانتداب الإنجليزي وما تلاه من احتلال بغيض ما يزال يجثم على تلك الأرض.

وما تزال عمليات الثائر البدوي الترباني عيد سليمان الصانع الملقب بهبوب الريح حاضرة بقوة في ذاكرة البادية الفلسطينية وجنوب فلسطين، حيث نصب مئات الكمائن على مدى عشر سنوات حتى ارتقائه مضرّجاً بدمائه مع رفاقه بيد الاحتلال الإنجليزي في أكتوبر من عام 1935 بعد أن أبَى الاستسلام ونفدت كل ذخائره.

كان هبوب الريح سجيناً بعد أن قبض عليه متلبّساً بجمع بقايا أسلحة الجيش العثماني في النقب قبل أن يحرر نفسه، ويشعل ثورة النقب ويلهب مشاعر البادية بحكاياته المجيدة وقدرته على التخفي والتمويه وقوة الضرب حتى ضربوا به المثل: “الله يبليك ضربة من ضربات هبوب الريح”.

كانت عوجا الحفير أو “نيتسانا” كما تعرّفها خرائط العدو اليوم ميناء بريًّا ومفترق طرق يصل فلسطين بمصر كما يصل بين غزة والعقبة، وكانت نقطة حدودية بين فلسطين في الحقبتين العثمانية والبريطانية ومملكة مصر، ولا يفصلها عن مصر إلا جبل أم الحواويط ذي التضاريس الوعرة الساحرة، وقد حوّلها الإنجليز إلى محطة عسكرية أنشأوا فيها مطاراً وسجناً ومركز شرطة، وكان فيها سكة حديد أنشأها العثمانيون ومنها دخل الجنرال اللنبي قائد الجيش الإنجليزي من مصر إلى فلسطين وانتزع فلسطين من العثمانيين عام 1917م.

كانت عملية مطار عوجا الحفير واحدة من أشهر عمليات هبوب الريح، استاق فيها إبلاً محملة بكثير من الأسلحة والذخائر، وعبر بها المراعي التي تنتشر حول المنطقة ذات الآبار القديمة، وما تزال كلمات شاعر شباب فلسطين محمود نديم الكابلي الأفغاني عن هذه المعركة يرددها الأكابر، وهو الشاعر اليافاوي الذي ذاق مرارة السجن في هذا المكان الملتهب:

عوجا الحفير تحيةً من معشرٍ… هبطوا بوادِك ثائرين كباراً
عقدوا اليمين بأنهم لن ينثَنوا … عن حقهم أو يصبحوا آثاراً

هذه البلدة بعد احتلالها عام 1967 وتحويلها من منطقة منزوعة السلاح تحت الوصاية الأممية تجدها اليوم بين قاعدة كتسيعوت العسكرية ومستوطنة كتسيعوت المشرفة على معبر العوجا “نيتسانا”، ويوجد فيه السجن الصحراوي الأسوأ سمعة “معتقل كتسيعوت” أو سجن النقب الذي بُني على أنقاض سجن إنجليزي كانوا يسجنون فيها ثوار فلسطين وينفون إليه الناشطين، وفرض المحتلون الجدد على البلدة اسم نيتسانا تخليداً لموضع مذكور في تاريخهم المزوّر، وطوروا فيها مؤخرا المستوطنة الزراعية ذات التوجه العلماني لتكون مدينة كبيرة ذات طبيعة أمنية تهيّئ الشباب اليهود لدخول الجيش وتعرّفهم في برامج جاهزة على تاريخ أرض الميعاد المزعومة.

كانت مصر تصرّ أن تكون هذه البلدة ضمن سيادتها لأنها امتداد لسيناء كما كانت قاعدة عسكرية مصرية في حرب 1948 لكنها تنازلت عنها عقب اتفاقية كامبد ديفيد لصالح الكيان عام 1979 بضغط أمريكي.

هذه الأرض الصحراوية الثائرة ما تزال تفرض نفسها على صفحات النضال، وتجدد التاريخ العبق الكامن حول حفائر المياه التي صنعها الأجداد القدماء في وادي العوجا ذي الانحناءات الكثيرة المعوجّة، وجعلوا حولها تِلالاً تقذف النار بين الفينة والأخرى، وتكسر الفخّار الذي يجلبه الأوغاد من الطين الأجنبيّ كريه الرائحة.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات