الأحد 12/مايو/2024

دراما الرعد

د. أسامة الأشقر

هذه ليست عمليات فدائية عادية يمكن أن تجعلها في خبر صحفي أو نشرة مصورة وتملأ بها مساحتك الإعلامية، وتنتهي إلى تسجيل نتائجها بأرقام من القتلى والإصابات والخسائر، وجملة من التصريحات والمواقف المتقابلة؛ إنها أكثر من ذلك بكثير!

إنها دراما شعبيّة بلغت حدّاً عالياً في مؤشرات الصعود الرأسي لمتابعة الجماهير من الطرفين، وتخللّتها الإثارة في كل تفاصيلها منذ اشتعال الحدث في ليلة من ليالي رمضان التي كانت التحليلات تتحدث عن أحداث كبيرة قادمة فيه، إلى حبكته المعقّدة في شخصياته “أبطال الدراما” الذين لا يعرفهم أحد بأشخاصهم ولا بأعدادهم طيلة حدوثها بل تجدها تقول إنهم واحد ثم اثنان ثم ثلاثة ثم تعود إلى واحد؛ وحبكة معقدة في تعدد مواقع تصويرها أو في جغرافيتها الميدانية الطبيعية عند هذا الشارع الغنيّ الشهير الذي تتكثّف فيه رموز “الدولة الإسرائيلية” و تتجه إليه السياحة العالمية، فقد تحركت الأحداث من موقع إلى موقع في هذا الشارع، وكانت الأنباء المتلاحقة تتحدث من صدمتها عن تزامن الأحداث فتندفع خريطة المشاهدة للبحث بعيون ثلاثية ورباعية إلى مواقع متعددة في الساعة نفسها، وباختلاط أعداد المنفذين وتعدد مواقع التصوير وتضيّق الزمن الملتهب وانتصاب عشرات الكاميرات “الجوالات” التي ترسم حواشي الأحداث “الحدث”، وتحاول الاقتراب من صورة “البطل” وترصد له ظلالاً باردة مثيرة، وشبحيّة غامضة؛ وتُكتب له سيناريوهات متغيرة مرتبكة تجعله يظهر ويختفي، يكون في مكان ويظهر في آخر، يكون واحداً ويظهر بثلاثة؛ وفي كل مرّة يخادعهم بهيئته وصورته، فيظهر تارة بصورة خلفية تداريه حقيبة ظهره، وصورة باهتة بالأبيض والأسود تزيد من غموضه، وصوره الخفيّة التي تطارد الفارين المذعورين في الشارع الرئيسي وأزقته الفرعية، يكتشفون صورته ثم ينفون عنها ذلك، ثم تزداد الإثارة التهاباً بنزول كل القوة الإسرائيلية إلى مواقع التصوير المتحركة نزلت الشرطة والجيش والاستخبارات: وحدات المستعربين ووحدة يمام وسيرييت متكال وشيداغ ولوتار، وخاضوا جميعاً معركة البحث عن الشبح أو الأشباح بطائرات حوامة وسيارات وامضة ومتخفية وخيول عابسة وجنود مدججين بالدروع وأنواع الأسلحة، وتملأ أصوات سيارات الإسعاف والشرطة موسيقى الأحداث المتلاحقة.

كانت ليلة مثيرة في كل مراحلها، فقد جاءت في موسم إعلان متفاخر عن بدء عملية متعالية تحمل اسم كاسر الأمواج ترافقه طبول النصر؛ وجاءت في وقت لم ينتظره أحد لأن موعد المشاهدة لم يحدده إلا هذا “البطل” المجهول، ولم تمض دقائق حتى اصطفت الملايين على شاشات جوالاتها تبحث عن هذا البطل الغامض، كل دقيقة لابد فيها من تفصيل جديد ولو بتغيير كلمة قد تضيف معنى جديداً، ولو تأخرت الدقيقة فإن كُتّاب اللحظة الباحثين عن الإثارة الرقمية سيضيفون جوّاً افتراضيّاً يشدّ الناس إلى بوابتهم للمشاهدة من شرفة أعلى.

كان هناك نمط آخر من المشاهدات التي أصابتها حالة متأخرة من هول الدهشة وبلغت حد الحالة النفسية فخرجت إلى الشوارع فرادى وجماعات تحتفل على ظهور سياراتها، وتوزع الحلوى، وتهتف بالشعارات والتكبيرات، وعيونها غارقة بالدموع الحارة، وحناجرها قد تناهت إلى بحّة زاحفة بعد إرهاق أوتارها الصارخة.

إن هذه العملية في ديزنكوف لم تنته بـ”قتل” البطل المنبثق من المخيم، إنها الآن تشحن مشاعر مئات الآلاف من الفلسطينيين، وتزيل عنهم حجاب الإحباط، وأقنعة الكآبة، وتمدّهم بطاقة إصرار وعناد، وتبعث في شبابهم المتحمّس إرادة لا يمكن تقييدها أو فرض الحسابات عليها.

والعجيب أن كل هذه التهيئة النفسية لتجدد الثورة وانبثاق بركانها تساهم أدوات “إسرائيل” في تربيتها وتنميتها رغم أنفها، فقدْ فقَدَ نظامها السيطرة على محاصرة حدث داخل قلاعه، وفقد القدرة على الردع النفسي والإقناع بتفوقه، وأظهر ارتباكاً متجدداً في إدارته الإعلامية والأمنية، وأعلن عملياً عن فشل سياسته في الرصد والمتابعة والتحكّم والمطاردة والإدارة والسياسة والتطبيع… على يد شاب تنشّأ في ظل عملية سلام تسمى “أوسلو” واخترق القلعة الحصينة وضرب في قلبها المستنفِر.

وتزداد الإثارة في المشهد الختامي للعرض المثير الذي امتد لساعات ليلية متلاحقة بإعلان عدم انتماء الشاب لأي فصيل مقاتل، وأن سجلّه الأمنيّ نظيف، وبذلك يكتب المشهد بخطوطه العريضة: إن كل فلسطيني مهيّأ تلقائياً ليتحول في أي لحظة يمكن أن يتحوّل إلى “رعد”، وأن البيئة التي صممت لمحاربة هؤلاء الفدائيين قد تعطّل نظامها ليساهم في إنتاجهم، وأن كل محاولات إصلاح هذا النظام الدمويّ ستؤدي إلى تخريبه أكثر. 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات