عاجل

الأحد 12/مايو/2024

مريم معالي.. عين العياش في جبال سلفيت

مريم معالي.. عين العياش في جبال سلفيت

بسلاسة ورتابه، وبحذر شديد تتابع خطواتها وهي حافية القدمين تخطو وتمشي وسط الحرص  الشديد على أن لا تصدر أي صوت وأن لا ينتبه لها أحد؛ فخطوة واحدة خطأ قد تكلفها حياة ابنها ومعه المهندس يحيى عياش.

  تفاصيل الحكاية تعود لعام 1996  فالشهيدة مريم عمران معالي (55 عامًا)  من مدينة سلفيت؛ هي محور قصتنا لنفكّ غموض أدق وأصعب خلية على الاحتلال منذ العام 67 وحتى الآن، وفي  معرفة الظروف الصعبة التي كان يعيشها المطاردون ومن يساعدونهم ويكونون عيونًا لهم في رصد تحركات جنود الجيش وقواته الخاصة والعملاء.

البدايات

ففي تاريخ 3-3-1996 نبدأ الحكاية، فمريم امرأة فلسطينية عاشت فصول حياتها المتتالية البالغة في القسوة والألم تقاوم آخر احتلال عرفه العالم، رحلت شهيدةً مجهولة، وقلة من يعرف أسرارها، تاركةً خلفها الدروس والعبر  الغزيرة؛ كحال نساء فلسطين في يوم المرأة، وما قبل اليوم وبعده.

 تقول عائلة معالي إنها عملت قي صمت مطبق ورحلت للعلا في صمت مشابه، في قلة نادرة تعلم خفايا وأسرار تلك المجاهدة التي قدمت ما عجز عنه الكثير من الرجال لتقديمه في ظروف بالغة التعقيد والقسوة والألم، كيف لا والحديث هنا عن خلية استنفر جيش الاحتلال ومخابراته للقبض عليها دون جدوى.

بداية حكاية شهيدتنا كانت مع الانتفاضة الأولى “انتفاضة الحجارة”، حيث كانت تحذر شبان الحجارة من تحركات جنود الاحتلال الذي يلاحقهم ويطاردهم، وما ميزها أنها كانت تحرّض نساء الحي على المشاركة بمساعدة الشبان، وتحفزهن لمقارعة الجنود وتخليص الشباب من مختلف الفصائل من أيدي الجنود دون تفرقة؛ ففلسطين للجميع وكل أبناء الوطن هم أبناؤها، وكانت لا تفرق بين لون وآخر؛ فالدم واحد، والهدف واحد، والمصير يجمع الجميع في بوتقة طرد المحتل، وهي بذاتها حررت عدة شبان من أيدي الجنود الصهاينة، وكانت توفر مخابئ وملاذًا للشبان والفتيان عند محاصرتهم من الجنود داخل أزقة البلدة القديمة بسلفيت.

ومع تصاعد انتفاضة الحجارة؛ يبدأ فصل جديد من المقاومة غير المألوفة؛ حيث يتم سجن عشرات آلاف من الشبان في  انتفاضة الحجارة ويكون من نصيبها أولادها الأربعة إلى أن يفرج عنهم، وينضم أحدهم إلى صفوف أحد الأجنحة العسكرية التابعة لأحد الفصائل الفلسطينية، ويبدأ العمل في أول خلية عسكرية في الضفة الغربية مع مؤسس الكتائب في الضفة زاهر جبارين والمهندس الشهيد يحيى عياش.

افتح باب 

قبل 19-11-1992 لم يكن أحد يعلم بخلية العياش؛ إلى أن دق جرس البيت الساعة الثانية بعد منتصف الليل؛ حيث البرد القارس والأمطار الغزيرة، ويُسمع صراخ الجنود التابعين للاحتلال خلف الأبواب …افتخ باب ..جيش “الدفاع”.

 لم تكن هذه المرة الأولى التي يأتي فيها جيش الاحتلال، ولكن هذه المرة تبدو مختلفة عن سابقاتها؛ يُفتح الباب وإذ بعشرات الجنود يقتحمون المنزل ويفتشونه، ويسأل ضابط المخابرات: أين عبد…. ويكون الجواب: ليس هنا… يعاد السؤال: بخكي وين عبد، ويعاد الجواب: لا نعرف،  ويعاود القول: طيب اسمعوا إن ابنكم إرهابي خطير ويعمل مشاكل، وإذا لم يسلم نفسه لجيش “الدفاع” خلال أسبوع سيتم قتله بعد ذلك؛ فكروا في الموضوع معاكم أسبوع ليسلم نفسه.

 ويسلم الجيش والد المطارد ورقة بوجوب تسليم نجله خلال أسبوع وإلا يهدر دمه، ويسرق الجيش مع المخابرات كل الصور التي فيها صورته. ويتضح في الصباح أن ابنها كان قد أفلت من حصار الجيش له في تل الربيع، والذي غيّر الاحتلال اسمها وحوّلها إلى (تل أبيب) وفي منطقة يطلق عليها الاحتلال (رمات افعال) حيث كان يحاول تفجير سيارة مفخخة،  وتتكشف وتتضح الصورة أكثر فأكثر، وإذ بمعدّ السيارة ومفخخها هو اشهيد القائد المهندس يحيى عياش ومؤسس الخلية زاهر جبارين.

بعد ذلك يبدأ الجيش بمداهمة المنزل يوميًّا، وأكثر من مرة في اليوم الواحد، ويهدد ضابط الإدارة المدنية في حينه؛ أنه سيتم إحضار ابنهم في كيس إن لم يسلم نفسه لقوات الجيش، وترد الشهيدة عليه: الله أعلم من سيجمع في الكيس، ويشن حربا نفسية عليهم بقوله: ما هو الأفضل لكم؛ أن تزوروه على المقبرة أم تزورنه في السجن؟!؛ في حرب نفسية فاشلة مكررة بحكم التجربة الواسعة مع الاحتلال؛ ولا  تخفى على أي فرد في  فلسطين المحتلة.

مراقبة شديدة

 وتبدأ الشهيدة معالي بمساعدة ابنها وخليته زاهر ويحيى في مقاومة الاحتلال، وكانت عينًا لهم في سلفيت؛ تزودهم بالطعام وتراقب لهم الجواسيس، وتمدهم بأخبار وتحركات جنود الاحتلال، وتنقل لهم النقود وحاجياتهم عند انقطاعها بسبب المراقبة الصارمة من قوات الاحتلال، وكانت أحيانا تذهب مسافة عشرة كيلومترات وعدة تلال وجبال لتلتقي ابنها والخلية، وتزوّدهم بالطعام والأخبار وتنقل الرسائل لهم من المقاومين الآخرين، وقد شوهدت مرة وهي تسير حافية القدمين وبحذر بين البيوت لئلا يسمع أحد صوت قدميها وهي ذاهبة إلى الخلية التي يكون مرتبًا مسبقًا ذهابها إليهم.

وتتعدد فصول الحكاية؛ فهنا يبدأ فصل جديد في المعاناة والعمل الدقيق والسريّ، فتتم أول عملية استشهادية للبطل ساهر تمام من نابلس في مطعم في غور الأردن عند منطقة محولا، حيث تشاهد الطائرات المروحية وهي تنقل عشرات القتلى والجرحى من الصهاينة، ويقتحم الجيش منزلها، وعندها يجنّ الاحتلال ويزيد من الضغط على العائلة فالوضع لا يحتمل المزيد من العمليات المميتة والقاتلة، ويبث جواسيسه لمراقبة المنزل، والساحة المقابلة للمنزل؛ فالخلية خطيرة، وتبث الرعب داخل دولتهم المزعومة، وقد تنفذ في كل لحظة عملية يقتل فيها العشرات  من الصهاينة.

 وتستمر معالي بمساعدة المطاردين من القسام، وتشاهد أكثر فأكثر في الجبال تارة بحجة جمع الحطب وتارة بحجة قطف الزيتون للتمويه على الجواسيس، وأحيانا كانت تنقل السلاح،  وكم أسعدتها عملية بروقين التي قتل فيها جنديان، وتألمت حين استشهد عدنان مرعي من قراوة بني حسان على حاجز (رافات دير بلوط) وقد جندل اثنين من جنود العدو قبل استشهاده، ويقتحم الاحتلال المنزل ويخرّبه ويقلبه رأسا على عقب.

 وصار عملا روتينيا عقب كل عملية أن تأتي قوات الجيش وتقتحم المنزل وتدمر ما تجده أمامها، وأحيانا كانوا يضربون من في البيت جميعا، ويأتي خبر اعتقال القائد زاهر جبارين كالصاعقة، حيث اعتقل في مدينة نابلس هو وسلامة مرعي من قرية قراوة بني حسان  في منزل قرب جامعة النجاح، ويفرج عنهما لاحقا في صفقة وفاء الأحرار”صفقة شاليط”.

 وفي منتصف إحدى ليالي الشتاء القارس والمقاومة الفلسطينية في أوجها وقوتها والجو ماطر والبرد شديد، يقتحم جيش الاحتلال البيت بطريقة مرعبة، بالصراخ وإطلاق الصوتيات وخلع الأبواب لاعتقال محمد بلاسمة (استشهد في الانتفاضة الثانية بتاريخ 6-8-2004 عبر كمين اشتركت فيه طائرتان والمئات من الجنود المشاة الصهاينة)، ويعدّه الاحتلال التلميذ السادس ليحيى عياش، وتمنع الجيش من إرهاب وتخويف الأطفال، وتدفع الجندي خارجا وتقول له: (حرام عليكم اللي بتعملوه)، فما كان من الجندي إلا أن ضربها بعقب البندقية بعنف شديد على صدرها، وتشعر أن الدنيا تدور بها، والنفس مقفل، ولا تشعر بمن حولها، وتشعر بغثيان شديد إلى أن تبين أن الضربة قد أثرت على الرئتين وتسببت في وجود ماء بالرئة يتراكم مع الزمن ومرور الوقت، وبدأ يتجمع ببطء شديد وبمراحل، وبدأت تمر بحالات إغماء لا ينفع معها العلاج، ولا العمليات الجراحية التي أجريت لها في مستشفى المقاصد في القدس.

كعب البندقية

ولكن الألم يزيد؛ والدنيا تطبق على صدرها بسبب تداعيات اليوم المشؤوم الذي جاء فيه الجيش لاعتقال الشهيد محمد، فصارت الحياة قاسية، وأيام المبيت بالمستشفى أكثر من المبيت بالبيت، وكادت في إحدى المرات أن تفقد حياتها عندما أطلق الجنود المسيل داخل المنزل لولا لطف الله، وخروجها من البيت بصعوبة بالغة.

  ويأتي خبر استشهاد يحيى عياش بتاريخ 5-1-1996 كالزلزال، والذي فاقم آلامها إلى حد لا يوصف، وتدعو له بالفوز بالجنة واللحاق به شهيدةً، وكان لها ما أرادت؛ حيث ظلت تبكي لرحيله ساعاتٍ طوالًا، وتصر على رؤية جنازته وعرس شهادته الرمزية من إحدى شرفات المستشفى الوطني المشرف على دوار وسط مدينة نابلس، وهي لا تقدر على الحراك. كيف لا وهو الذي كانت تنقل له الطعام، عندما كان يبيت في الجبال التي حولها إلى مخبأ له، وهي التي كانت تزوده بأخبار تحركات جنود الاحتلال، وتحركات الجواسيس، وهي التي كانت تنقل له السلاح عندما كانوا لا يجدون وسيلة أخرى، فهو كابنها في كل شيء ولا فرق بينهما، وهو الذي كان يعدّها كأمه ويناديها بأمه.

وظلت تبكي لرحيل الشهيد القائد عياش كثيرا، بعد رحيل القائد الذي أرعب الاحتلال، وهز أسطورة الجيش الذي لا يقهر.

 وبعد كل هذا يأتي دور الموت في سبيل الله وتحرير فلسطين أسمى أمنية، لترحل روحها الطاهرة بهدوء، وصمت وسكون؛ بعد صراع مع مضاعفات الضربة التي كانت من الاحتلال والتي في المحصلة أدت إلى استشهادها، ولكن…

 في اليوم نفسه الذي تم فيه الثأر للشهيد يحيى عياش بتاريخ 3-3-1996 يوم الأحد الدامي على الاحتلال، حيث كان يوم الثأر المقدس والرد العظيم يقتل فيه أكثر من 46 صهيوني في عمليتين استشهاديتين بقيادة الأسير القائد حسن سلامة.

وترحل روحها الطاهرة إلى عليين ولتشيّع بعد ذلك كالشهداء، ولتدفن بين الشهداء، ولتبكيها الجبال، والوديان، التي كانت تمر عليها، وليدعو لها كل مجاهد ومرابط ومسلم؛ إذ عملت بصمت، وحرص، وتوكّل، وسرية، ونالت الشهادة بصمت وهدوء؛ لتطوى صفحة امرأة فلسطينية مجاهدة مرابطة رحلت شهيدة مجهولة لتفسح الطريق لمن بعدها، ولتأتي بعدها انتفاضة الأقصى التي برزت فيها المرأة الفلسطينية بروزًا خلّده التاريخ.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات