السبت 27/يوليو/2024

عبد الناصر عيسى وعثمان بلال ربع قرن على الصفيح الساخن الملتهب؟!

وليد الهودلي

أصبح فضاء السمع الفلسطيني مع قدرته على امتصاص ما يسمع واسعا من غرائب وعجائب هذه الدنيا ، فمثلا كان الفلسطيني عندما يسمع أن معتقلا قد تجاوز في السجن حاجز العشر سنوات يعتبر ذلك رقما مهولا ، أن يقضي هذا الإنسان خلف قضبان السجن عشر سنوات، وتحت سطوة بني صهيون وقهرهم وقدراتهم العالية في التنكيل والقمع وسوم المعتقلين سوء العذاب، هذا ليس بالأمر السهل وليس من السهولة بمكان أن يعبر هذا الخبر فضاء السمع الفلسطيني ويمرّ مرور الكرام، ثم إننا صرنا نسمع عن معتقلين قد تجاوزوا حاجز الخمس عشرة سنة، وثمّ بعد ذلك العشرين سنة، واستذكر حينها حجم التأثر والمشاعر الفلسطينية التي خرجت كالبركان الصاخب عندما تناهى إلى سمعها أن هناك رجلا قد حرر بعد ثلاث وعشرين سنة في السجن وهو نيلسون منديلا بعد أن قضى في سجون الحكم العنصري هناك هذه الفترة الطويلة جدا.

ثم بعد ذلك اتسع الفضاء الفلسطيني ليسع من تجاوزوا هذا الرقم؛ بل وتجاوزا ربع القرن، وكم كان حجم التأثر والتعاطف الكبيرين عندما أطلق سراح أبو السكر رحمه الله بعد قضاء سبع وعشرين سنة، ثم بعد ذلك هناك من تجاوز حاجز الثلاثة عقود، وهناك من بلغ الأربعين سنة في السجن. هذا موجود في عالم البشر موجود في دولة الاحتلال العنصرية التي أقامتها الحركة الصهيونية على أرض فلسطين وضربت بسياطها على ظهور المعتقلين الفلسطينيين الذين أرادوا حرية وطنهم وشعبهم.

أقف اليوم بين يدي معتقلين قد تجاوزوا في سجنهم الربع قرن قبل أيام، أحاول جاهدا كبت مشاعري التي تستشعر: ماذا يعني هذا الرقم، كيف صبروا وكيف جالدوا هذا النوع من السجانين الصلفين الغارقين في عنصرية سوداء وحقد وسادية لم ولن تخطر على قلب بشر، كيف تحمّلت نفوسهم هذه السياط وهذا النوع من العذاب؟ وإذ أحاول السباحة في بحرهم اللجيّ العميق وأنا غير مؤهل لهذه السباحة، أحاول الغوص في شخصياتهم الفذّة وأنا لا أملك أدوات هذا الغوص ، ولكن من مشاعر تجربة تقترب من منتصف طريقهم وسنوات حبسهم أحاول.

هم بشر وليسوا أنبياء أو ملائكة، حتى أن نبيّ الله يوسف كانت تجربته في السجن بضع سنين أي ثلث تجربتهم عددا، وكان عند الله من المخلصين، خلّصه الله من أدران بشريته في سنوات السجن هذه، فماذا ترى أصحابنا فعلوا في ثلاثة أضعافها؟ وماذا فعل الله في نفوسهم بما صبروا صبرا جميلا وصابروا ثم ارتقوا ورضوا ولم يسخطوا، ثم رأيتهم يشكرون الله بحب وعشق على ما حباهم الله من هذه المرابطة في هذا الخندق الصعب، أن يحملوا لواء الحق والحرية في زمن صعب ويسيروا به نيابة عن الأمة كلها في مواجهة ألد أعداء الله دون أن يأبهوا بإمكانيات المواجهة وقلة الزاد والعتاد، أية قلوب وماذا تحمل هذه القلوب بداخلها كي تفعل ما فعلت حبّا وطواعية ثم تدخل السجن وهي متلفّعة بذات اللواء وصادحة به أينما حلّت أو ارتحلت. كم نحتاج من دقّة المشاعر وعلوّها ورهافة روعتها كي نسبر بها أعماق مشاعرهم علّنا نصل إلى شيء مما وصلوا إليه. لا شكّ بأنها نفوس عظيمة قد فعلت عقيدتهم وصنع إيمانهم بربهم صنعه العظيم في قلوبهم التي احتملت كل هذا وهي راضية مرضية.

لقد ساروا على صفيح ساخن ملتهب قبل أن تحتويهم السجون بجدرانها وسقفها وأرضها المشتعلة بلهيب الحقد والعنصرية الفجّة، حملوا أرواحهم على أكفّهم قاصدين الشهادة على الخلق بالحق، متأملين أن يلقوا الله على ذلك، فأراد الله أن يستمرّوا برفع لواء الشهادة والشهود وزرع الحق وراية الشهادة وعقيدة الجهاد في جوف سجونهم، ليكونوا مدرسة تعلم الناس الكتاب والحكمة، وتزرع شجرة الثورة، إنها حكمة الله فما يفعله هؤلاء لا يُفعل خارج السجون أبدا، ولا يجرؤ أحد من الاقتراب منها إلا من رحم الله، هناك معاقل الأحرار تصنع الحرية من قبل هذا النفر الذي اختاره الله، هناك تنضج النفوس على لهيب المحنة ومن قلوب صهرتها إرادة الله وأهلتها لهذه المهمّة الصعبة، إنهم على قاعدة يُخسّرون سجانهم أكثر مما يخسرون، فهم يزرعون زرعهم الحرّ، وسيرى الاحتلال إلى أي منقلب هم ومن يلتقون بهم ينقلبون، إنها صناعة الرجال في زمن عزّ فيه الرجال فلا يُصنع الأحرار إلا في مثل هذه المعتقلات. عبد الناصر وعثمان وأصحابهم من مفكرين وعلماء ومجاهدين وأحرار ينسجون فجر الحرية القادم لشعب أشدّ ما يحتاج إليه هذه الصناعة الفذّة وهذه المصانع الحرّة.

ولا يعني ذلك أن ننسى أحرارنا وأبطالنا وقادتنا وحقهم في الحرية معلق في رقابنا، لا خير في أمة لا تحرّر أسيادها، هم هناك سادة الشعب الفلسطيني، هم هناك بشهاداتهم العالية يُبطلون كل سيادة تتجاوزهم ولا تُقدّرهم حقّ قدرهم، والله إنه لعيب وعار أن يبقى سادة حريتنا هذا الأمد الطويل بل الطويل جدا في السجون، مع رفع القبعة والاحترام لكل من حرّر أو حاول أن يحرّر أو جعل بالفعل لا بالقول حرية أسرانا فوق كل الأولويات وبكل السبل الممكنة كافّة.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات