الثلاثاء 30/أبريل/2024

ورقة علمية: الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه سدّ النهضة الإثيوبي

ورقة علمية: الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه سدّ النهضة الإثيوبي

مقدمة:
تكشف الأدبيات السياسية الصهيونية في توجهها العام مع الوطن العربي بشكل خاص عن رؤية تقوم على تقسيم البيئة العربية إلى ثلاثة أبعاد هي؛ النظم السياسية العربية، والمجتمع العربي، والدولة العربية. ولما كانت النظم السياسية العربية هي الأقصر عمراً بين الأبعاد الثلاثة، فإن التركيز في المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي على المجتمع العربي والدولة العربية. فقد عرفت المنطقة العربية في فترة ما بعد قيام “إسرائيل” ما مجموعه 54 انقلاباً ومحاولة انقلابية، ناهيك عن التغير في شخص الحاكم نتيجة الموت أو المرض. ولما كان القرار السياسي الاستراتيجي في الأنظمة السياسية العربية أسير إرادة وتوجهات فرد واحد أو نخبة محدودة العدد، فإن من الأفضل لـ”إسرائيل” أن لا تبني استراتيجيتها على أساس توجهات وسياسات “الحاكم الفرد”، حتى لو كان ذا توجهات مواتية للسياسة الإسرائيلية، وإنما الخيار الأنسب هو إبقاء الدولة العربية ضعيفة مما يجعل قدرة الحاكم المعادي للتوجهات الإسرائيلية غير ذات أثر نظراً لضعف دولته.

وعليه، فإن “إسرائيل” لا تغفل أهمية وجود حاكم غير معادٍ لها، لكنها تدرك أن المستوى العالي لعدم الاستقرار في المنطقة قد يقود إلى تغيرات مفاجئة، فإذا كانت الدولة والمجتمع يتمتعان بقدر كافٍ من القوة والإمكانيات، فإن مستوى الخطر يبقى عالٍ في حالة وصول حاكم معادٍ لها. لكن في حالة وجود دولة ومجتمعين ضعيفين، فإن التغير في شخص الحاكم لن يقود لتحولات استراتيجية ضد “إسرائيل”، حتى لو أتى التغير بحاكم معادٍ لها.

في ضوء هذا التصور السابق، فإن أحد أهداف “إسرائيل” في سياستها مع مصر (وبقية الدول العربية خصوصاً المركزية منها) هو إبقاء الدولة والمجتمع ضعيفين، لأن قوتهما ستقود لتغير استراتيجي في حالة وصول حاكم معادٍ لها أو توجه سياسي معادٍ، بينما إذا كان كل من الدولة والمجتمع قويين، فإن وصول اتجاه سياسي معادٍ لـ”إسرائيل” سيترك تداعيات سلبية على الاستراتيجية الإسرائيلية.

وسنحاول في هذه الورقة البحثية أن ندلل على تطبيق “إسرائيل” لهذه السياسة في تعاطيها مع أزمة سدّ النهضة بين مصر وإثيوبيا.

أولاً: الإسهام الإسرائيلي في مشروع سدّ النهضة الإثيوبي:

لم يكن نهر النيل بعيداً عن الفكر الاستراتيجي الصهيوني منذ البداية، إذ إن فكرة إنشاء مشروعات صهيونية بهدف إيصال مياه النيل إلى “إسرائيل” بدأت سنة 1903 من خلال دعوات طرحها بشكل واضح ثيودور هرتزل Theodor Herzl، وعادت الفكرة للظهور بشكل واضح خلال الفترة 1964-1974، وتجددت مرة أخرى في فترة التسعينيات من القرن العشرين.

ومعلوم أن موضوع إيصال مياه النيل إلى النقب في فلسطين المحتلة كان ضمن بنود المناقشات المصرية الإسرائيلية في مفاوضات كامب ديفيد Camp David Accords سنتي 1978-1979، وبدأت هذه المناقشات بشكل واضح مع دراسة اليشع كالي Elisha Kali سنة 1974، ومشروع شاؤول أرلوزوروف Shaul Arlozorov الذي عرف بمشروع (يؤر) سنة 1977، وكلاهما من خبراء هيئة المياه الإسرائيلية. وترتب على هذه الأفكار طرح مشروع قناة جونجلي Jonglei Canal في جنوب السودان كوسيلة لتعويض مصر عن المياه التي ستذهب للنقب طبقاً لذلك، وهو ما أفرز مشكلات عديدة في جنوب السودان، أسهمت في نهاية المطاف مع عوامل أخرى في تأجيج النزاع في السودان لينتهي بانفصال الجنوب وتحوله إلى إحدى الدول الإفريقية الأكثر تقارباً مع “إسرائيل”.

من جانب آخر، فقد أشرنا في دراسة سابقة إلى الاهتمام الواضح في الجامعات الإسرائيلية بالمياه في إفريقيا خصوصاً تلك التي لها صلة بأقطار عربية، وفي مقدمتها دول حوض النيل، وهو ما يعني أن “إسرائيل”ترى في النيل مصدراً إما للضغط على مصر من خلال مساندة مشروعات دول الحوض بشكل يؤثر على حصة مصر من النهر، أو لفتح مجال تطبيع مع مصر من خلال مشاريع مشتركة تسهم خطوة للأمام في تحويل الصراع العربي الصهيوني إلى صراع “غير صفري non-zero sum game”.

وتقف إثيوبيا على رأس الدول الإفريقية التي تحظى باهتمام الدوائر السياسية الإسرائيلية، سواء لما تروجه الدعاية الإسرائيلية لجذور تاريخية وأخرى حديثة ومعاصرة، سواء زمن الامبراطور هيلا سيلاسي Haile Selassie (أسد يهوذا) أم الإبعاد التي ركز عليها بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu في خطابه سنة 2016 أمام البرلمان الإثيوبي (مشيراً إلى الملك سليمان)، أم من خلال الإشارة للروابط السكانية (يبلغ عدد اليهود الإثيوبيين في “إسرائيل” نحو 140-150 ألف نسمة)، ناهيك عن تطور العلاقة الإثيوبية الإسرائيلية، خصوصاً الدعم العسكري والتقني الإسرائيلي في فترة الصراع الإثيوبي الأرتيري، وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وهو ما يؤكد الاهتمام الإسرائيلي الكبير بتطوير العلاقة بين “تل أبيب” وأديس أبابا.

وعند متابعة الدور الإسرائيلي في تأجيج موضوع سد النهضة بين مصر وإثيوبيا خلال الفترة 2011-2020، سنتوقف عند الملاحظات التالية التي تستحق التأمل وفهم دوافعها:

1. تؤكد مصادر مختلفة وجود طابق كامل في مبنى وزارة المياه والكهرباء الإثيوبية يقيم فيه خبراء المياه الإسرائيليون، وهم يقدمون الخبرة التفاوضية والفنية للفرق الإثيوبية، وأكد ذلك وزير الري والمياه المصري السابق محمد نصر علام، وكرره مسؤولون سودانيون من ذوي العلاقة بالمؤسسات الخاصة بالري والمياه. كما أعاد ذكره نائب رئيس الأركان المصري محمد علي بلال في أيار/ مايو 2013 متحدثاً عن وجود أعداد كبيرة من الإسرائيليين يعملون في السد الذي يتم بناؤه بتمويل غربي وأمريكي (البنك الدولي، وإيطاليا، وبنك الاستثمار الأوروبي)، وبنك التنمية الإفريقي، والصين، و”إسرائيل”.

2. نشاط الشركات الإسرائيلية، لا سيّما تلك التي لها علاقة باحتياجات بناء سدّ النهضة الإثيوبي، حيث تتواجد بشكل فاعل الشركات الإسرائيلية مثل: شركة سوليل بونيه Solel Boneh للإنشاءات في كل من كينيا، وإثيوبيا، وأوغندا، إلى جانب شركة أغروتوبAgrotop للزراعة، وشركة كور CORE للإلكترونيات، وشركة موتورولا الإسرائيلية Motorola Israel للكهرباء والماء، وشركة كارمل Carmel للكيماويات. ورفعت “إسرائيل” من حجم استثماراتها في قطاع الطاقة سنة 2018 بقيمة 500 مليون دولار من خلال شركة جيجاوات جلوبال Gigawatt Global، وهي شركة لها علاقات مع عشر جامعات إثيوبية، وهناك عشر مؤسسات أخرى إسرائيلية تعمل في إثيوبيا، كما أكد النائب المصري أحمد العضوي أن النشاط الإسرائيلي في إفريقيا، وخصوصاً في إثيوبيا، يستهدف التأثير على المصالح المصرية وأبرزها حصة مصر من النيل من خلال الدعم الإسرائيلي لمشروع سد النهضة.

3. يلاحظ أن المشروع الإثيوبي بدأ فعليا في سدّ النهضة في سنة 2011، وهي السنة التي شهدت بداية ما سمي بـ”الربيع العربي”، وكانت مصر في قلب هذا الحدث ومنشغلة بهمومها الداخلية وباضطرابات الإقليم الشرق أوسطي كله. وفي سنة 2013 صادق البرلمان الإثيوبي على إعادة النظر في الاتفاقيات الخاصة بتوزيع مياه النيل بين دول المنبع ودول المصب، وأعلن رئيس وزراء إثيوبيا هيلا مريام ديسالغين Hailemariam Desalegn في السنة نفسها أن لا شيء سيوقف إثيوبيا عن استكمال المشروع، وأن “مصر لن تذهب للحرب إلا إذا أصيب قادتها بالجنون”. ومن الضروري التنويه إلى أن كاتب هذه السطور راجع الخطة الخمسية الإثيوبية المعلنة 2010-2015 (أي قبل الشروع بمشروع سد النهضة مباشرة، وقبل انفجار الربيع العربي) فلم يجد فيها أي إشارة إلى هذا السد الذي سيكون في حالة تنفيذه أكبر مشاريع الخطة الخمسية. فقد أشارت الخطة تحت عنوان فرعي هو “تنفيذ الاستراتيجيات التنموية” إلى موضوعات عامة مثل الري وبناء السدود، وجاء في البند 3 ذكر تسهيل الظروف لتطوير الري الواسع والمتوسط، مثل بناء السدود والبنية التحتية ذات الصلة، وهناك إشارات عامة لتطوير الكهرباء. ذلك يعني أن مشروعاً كسد النهضة بتكلفته العالية (قرابة 5 مليار دولار) في بلد عدد سكانه يساوي عدد سكان مصر تقريباً لكن إجمالي ناتجه القومي أقل من 20% من إنتاج مصر، لا يمكن أن يغيب عن خطة خمسية، وهو ما يعني أن عدم الاستقرار السياسي في مصر في سنة 2011 (التي تقع ضمن سنوات الخطة الخمسية الإثيوبية) دفعت إثيوبيا لاستغلال الظرف المصري، لا سيّما أن الشركات الإسرائيلية غذت الرغبة الإثيوبية لاستغلال الانشغال المصري بالهموم الداخلية، مع تأكيد هذه الشركات على دورها في عمليات توزيع الكهرباء التي سينتجها السد. ذلك يعني أن التغير العميق الذي أصاب الخطة الخمسية الإثيوبية بدفعها نحو مشروع استراتيجي كبير لم يكن إلا اقتناصاً لفرصة الاضطراب المصري في سنة 2011 ما تبعها.

4. خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي (2020) بنيامين نتنياهو إلى إثيوبيا في تموز/ يوليو 2016 ضمن جولة في دول الشرق الإفريقي، أعلن عن سعادته لأنه أول رئيس وزراء إسرائيلي يزور إثيوبيا، وأكد استعداد “إسرائيل” لتقديم العون التكنولوجي لإثيوبيا لاستكمال مشاريعها مركزاً في خطابه أمام البرلمان الإثيوبي على قطاع الزراعة، وقد ورد في خطابه العبارة التالية ذات الدلالة الواضحة، قال نتنياهو حرفياً: “هذه هي رؤيتي لتعاوننا: أن يتمتع المزارعون الإثيوبيون بفوائد المعرفة know-how الإسرائيلية، ويعملون معنا لتوجيه المياه إلى كل اتجاه يريدونه”.

5. بعد تصاعد الخلاف بين إثيوبيا ومصر حول آثار السد الإثيوبي، تواترت تقارير إسرائيلية، وغربية، وعربية، في 2019، عن نصب “إسرائيل” نظام دفاع جوي من نوع سبايدر إم آر Spyder-MR حول سدّ النهضة الإثيوبي يمكنه من إسقاط الطائرات الحربية من على بعد 5-50 كم، وقد أنجزت ثلاث شركات إسرائيلية هي شركة رفائيل Rafael المتخصصة في الصواريخ، وفرع إم.بي.تي MBT للصواريخ التابع للصناعات الجوية الإسرائيلية، وشركة أنظمة إلتا Elta المتخصصة في الرادارات، هذا النظام الدفاعي لإثيوبيا.

6. هناك ترابط بين المساندة الإسرائيلية لإثيوبيا في موضوع سدّ النهضة وتنامي العلاقات المختلفة بين الطرفين؛ ففي الجانب الاقتصادي يصل حجم التبادل التجاري بين إثيوبيا و”إسرائيل” حتى سنة 2019 نحو 300 مليون دولار، ويصل عدد المشاريع الإسرائيلية العاملة في إثيوبيا إلى 187 مشروعاً أغلبها في الزراعة حتى سنة 2017. من جانب آخر، تزايد التنسيق الأمني بين الطرفين بعد حادثين هما تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام سنة 1998 من ناحية، والهجوم على أحد المتاجر اليهودية الكبرى في كينيا من قبل مجموعة “الشباب” الصومالية سنة 2013.

وتدرك “إسرائيل” أهمية إثيوبيا لتطل منها على المحيط الهندي والبحر الأحمر الذي تمر منه 20% من تجارة “إسرائيل” الخارجية، ناهيك عن الأطلال على منابع النيل، وتتعزز كل هذه الجوانب بالتعاون في التصنيع والتدريب العسكري. وتعد هذه العلاقات جزءاً من نشاط إسرائيلي متسارع في منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، ففي زيارة نتنياهو سنة 2016 التي أشرنا لها، رافقه فيها ممثلون عن نحو 50 شركة إسرائيلية، وأدت لتوقيع اتفاقيات مع إثيوبيا (الزراعة، والسياحة، والاستثمار)، ومع كينيا (الصحة، والري، والزراعة، والهجرة)، وتمّ الاتفاق على فتح “إسرائيل” مكتبا للتعاون التنموي مع دول المنطقة، ولـ”إسرائيل” مشاريع أيضاً للري في راوندا مع شركة إبوني Ebony الإسرائيلية منذ 2007، ناهيك عن توقيع ألمانيا وكينيا و”إسرائيل” في سنة 2012 اتفاقية تعاون لتنقية مياه بحيرة فكتوريا (مساحتها 69 ألف كم2)، والتي تعد مصدراً أساسياً لمياه النيل، إلى جانب أدوارها الأخرى في المنطقة، مثل دورها في النزاع الأرتيري اليمني على جزيرة حنيش، ودورها في دعم انفصال جنوب السودان، ومساندة سيلفا كير Salva Kiir في جنوب السودان ضدّ زعيم المعارضة رياك مشار Riek Machar…إلخ.

ذلك يعني أنه إلى جانب العلاقات الثنائية الإثيوبية الإسرائيلية، فإن تنامي المصالح الإسرائيلية في

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

إصابة مجندة إسرائيلية بعملية دهس في جنين

إصابة مجندة إسرائيلية بعملية دهس في جنين

جنين - المركز الفلسطيني للإعلامأصيبت مجندة إسرائيلية، اليوم الثلاثاء، في عملية دهس قرب بلدة برطعة قضاء جنين شمال الضفة الغربية. وأطلقت قوات الاحتلال...