الخميس 09/مايو/2024

الشرعنة الأمريكية للمستوطنات الإسرائيلية.. الدوافع والجذور وردود الفعل

الشرعنة الأمريكية للمستوطنات الإسرائيلية.. الدوافع والجذور وردود الفعل

تبنّت الإدارة الأمريكية مؤخرًا، وعلى لسان وزير خارجيتها مايكل بومبيو، موقفًا مفاده أنّ إنشاء مستوطنات إسرائيلية في الضفّة الغربية، لا يتعارض في حدّ ذاته مع القانون الدولي[1]. وهو ما يعني أنّ المستوطنات الإسرائيلية في الضفّة الغربية هي قانونية من وجهة نظر هذه الإدارة. ولم يكن ما أعلنه بومبيو مرتجلًا، أو في سياق الردّ على سؤال، بل كان مُعدًّا سلفًا على جدول الإيجاز الصحفي، الذي تضمّن جملة من البيانات، تعلّقت بإيران والعراق والمستوطنات الإسرائيلية، وغيرها من البلدان والقضايا.

طغت قضية المستوطنات الإسرائيلية على مجمل الأسئلة التي وجّهها الصحفيون للوزير الأمريكي عقب إيجازه الصحفي، الأمر الذي يعني أنّ هذه القضية كانت الأهم من بين جملة القضايا والموضوعات الأخرى. وفي حين لم يكن الإعلان الأمريكي مفاجِئًا، بالنظر إلى سلسلة مواقف وقرارات أخرى شبيهة سابقة تتعلق بالقضية الفلسطينية، أو بالصراع العربي الإسرائيلي عمومًا، فإنّ الإعلان الأمريكي استدعى ردود فعل واسعة، جميعها مخالفة للقرار الأمريكي، باستثناء الترحيب الإسرائيلي بطبيعة الحال.

تقرأ هذه الورقة طبيعة الإعلان الأمريكي، وموقعه بين سلسلة المواقف السابقة المشابهة، وأهداف هذه الإدارة من هذا الإعلان، وغيره من الإعلانات الأخرى ذات الصّلة، وردود الفعل عليه.

الإعلان شكلاً ومضمونًا

تجدر الإشارة إلى الصيغة التي قُدِّم فيها الإعلان، بصفته مُعبِّرًا عن موقف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومحاولًا القول إنّ إعلان إدارة ترامب لم يكن تحوّلًا كاملًا في مواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة، على اعتبار أنّ مواقف هذه الإدارات من قضية الاستيطان الإسرائيلي، ومخالفته للقانون الدولي، لم تكن منسجمة. فبينما رأت إدارة الرئيس كارتر في عام 1978، وبشكل قاطع، أنّ إنشاء “إسرائيل” للمستوطنات المدنية يتعارض مع القانون الدولي، فإنّ إدارة الرئيس ريغان، وفي عام 1981، لم توافق على ذلك الموقف، وأعلنت أنّها لا ترى عدم قانونية المستوطنات الإسرائيلية. وقد كانت هذه المقدّمة من بومبيو، لتبرير الموقف، والادعاء بأنّ التحوّل الحقيقي خلقته إدارة أوباما، حينما أعلن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري، في كانون أول/ ديسمبر 2016، وفي نهاية ولاية الإدارة السابقة، عدم مشروعية المستوطنات الإسرائيلية، مخالفًا، حسب بومبيو، تقاليد الإدارات التي سبقته، التي، وإن رأت في الاستيطان عقبة أمام السلام، إلا أنّها رأت في الوقت نفسه أن النقاش القانوني حولها لا يُفيد عملية السلام.[2]

أرادت إدارة ترامب القول إنّها لم تخترع موقفًا جديدًا، بقدر ما أنّها عادت لتبنّي موقف إدارة ريغان، وأنّ معاكستها لقرار إدارة أوباما إنّما هو تصحيح للسياسة الأمريكية، واستعادة لنهج الإدارات السابقة على إدارة أوباما، والتي لم تكن ترى فائدة في مناقشة الوضع القانوني للمستوطنات الإسرائيلية.

تبرز الأبعاد الانتخابية في هذه المبرّرات، وذلك بمغازلة التيّارات التقليدية في الحزب الجمهوري عبر محاولة استعادة إرث ريغان المركزي في تاريخ السياسة الأمريكية عمومًا. لا تبدو هذه المغازلة في تبنّي موقفه من المستوطنات الإسرائيلية فقط، وإنّما أيضًا باستدعاء فكرة التشابه في الانقلاب على الإدارة السابقة، بما يُعبّر عنه ذلك من تصوّرات البناء والقوّة والعظمة الأمريكية. فكما استعادت إدارة ريغان مكانة الولايات المتحدة وقوّتها بعد إدارة كارتر، فإنّ إدارة ترامب تفعل الشيء نفسه بعد إدارة أوباما، علما أن مخالفة إدارة أوباما، هي لازمة ثابتة في خطاب الإدارة الحالية.

بيد أنّه، وإضافة إلى أجواء الانتخابات الأمريكية، والإجراءات المتّخذة من قبل الديمقراطيين لمحاكمة ترامب وعزله، وبالتالي احتياج الأخير إلى دعم اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، فإنّ الأجواء السياسية الإسرائيلية ليست بعيدة عن هذا الإعلان، الذي يمنح بنيامين نتنياهو دعمًا لتشكيل الحكومة في مواجهة منافسه بني غانتس، زعيم حزب “أزرق أبيض”، أو يمنحه أفضلية دعائية في حال ذهبت “إسرائيل” إلى انتخابات ثالثة مبكّرة[3]، لا سيما وأن نتنياهو سبق له في السياق الانتخابي الإسرائيلي أن وعد بضمّ غور الأردن وشمال البحر الميت حال فوزه في الانتخابات[4]، وذلك في الوقت الذي كان ينوي فيه إعلان ضمّ الضفّة الغربية، لولا معارضة رئيس الشاباك ورئيس أركان الجيش، اللذين ألمحا إلى أنّ قرارًا كهذا ينطوي على عدم مسؤولية، ومن شأنه أن يقود إلى مخاطر كبيرة[5]. إضافة إلى أن نتنياهو كان قد تعهّد، وفي السياق نفسه، بضمّ مستوطنات مدينة الخليل.[6]

وفي الوقت الذي يواجه فيه نتنياهو اتهامات بالفساد وملاحقات قضائية[7]، ويستعصي عليه تشكيل حكومة إسرائيلية، يأتيه الدعم من حليفه الأمريكي، وتحديدًا الرئيس دونالد ترامب، الذي يواجه خطر العزل. وبينما لا يُستبعد أن ينطوي الإعلان الأمريكي على خطوة استراتيجية، فإنّ هذه الإدارة، وعلى مستوى نصّ الإعلان ومضمونه، قد تبنّت الدعاية الإسرائيلية بشكل كامل.

لقد أحال الإعلان الأمريكي الأمر القانونيّ برمّته إلى المحاكم الإسرائيلية، باعتبار أنّ النظام القضائي الإسرائيلي يتيح فرصة للطعن بالنشاط الاستيطاني، وتقييم الاعتبارات الإنسانية المرتبطة به. وعليه، فإنّ الطرف الوحيد الذي يمكنه أن يحكم على قانونية أيّ منشأة استيطانية، من وجهة النظر الأمريكية، هو القضاء الإسرائيلي، أي قضاء الدولة الاستعمارية التي أنشأت هذه المستوطنات، فهي مسألة إسرائيلية صرفة، تتعلق بالوقائع والظروف على الأرض. وهذا الخطاب هو عينه خطاب بنيامين نتنياهو، الذي رحب بالخطوة الأمريكية، وتطابق خطابه مع خطاب الإدارة الأمريكية، أولًا من جهة اعتبار الوقائع القائمة هي الحاكمة على الأمر برمّته. وثانيا من جهة حديث نتنياهو عن “الحق التاريخي في يهودا والسامرة”، وحديث الإدارة الأمريكية عن مركّب “التاريخ والوقائع والظروف الفريدة من نوعها، التي نشأت بعد إقامة المستوطنات المدنية في الضفة الغربية”. وثالثا من جهة التوافق على أن المحاكم الإسرائيلية هي الوحيدة التي يمكنها تحديد شرعية الاستيطان الإسرائيلي. وأخيرًا تطابق الخطابان في أن الحلّ بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا يمكن إنجازه عبر أحكام قانونية دولية، وإنما من خلال عملية تفاوضية.[8]

وفي حين أظهر إعلان بومبيو وتعقيب مكتب نتنياهو تطابقًا تامًّا في المبررات والصياغات، وكشف عن تنسيق كامل، وربما صياغة إسرائيلية للإعلان الأمريكي، فقد ذهبت كيلي كرافت، سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، إلى مستويات أبعد في الدعاية لـ “إسرائيل”، ومن منطلقات غير ذات صلة، وذلك حينما قَرَنَتْ جدّية الولايات المتحدة في اعترافها بشرعية المستوطنات الإسرائيلية، بكون “إسرائيل”، حسب قولها، منارة للديمقراطية في منطقة لا يُقرّ فيها قادة آخرون، من حماس إلى إيران، بحقها في الوجود. وبينما أشارت كيلي كرافت إلى سعي جيران “إسرائيل” لتدميرها، فقد هاجمت جرأة المجتمع الدولي في جعلها، أي “إسرائيل”، موضوعًا لانتقاداته “القاسية”، مؤكّدة على دعم الولايات المتحدة لـ “إسرائيل”، الآن وفي المستقبل.[9]

الإعلان الأمريكي.. الجذور والدوافع

ما سبق يوضح الأسباب الآنية للبيان الأمريكي الجديد بخصوص المستوطنات الإسرائيلية في الضفّة الغربية، وتعمّده دعم بنيامين نتنياهو في أزماته السياسية والقضائية، ومعركته الانتخابية، وتطابق مضمونه وصياغته مع تعقيب نتنياهو عليه، ومع وعود نتنياهو الانتخابية. هذا فضلًا عن الأسباب الخاصّة بترامب، من حيث اقتراب الانتخابات الأمريكية، وجهود عزله برلمانيا. بيد أنّ مسار الخطوة الأمريكية أوسع من هذا الدافع الآني، فهي تهدف أولًا إلى فرض صفقة على الفلسطينيين، تستند إلى الوقائع لا إلى الحقوق والتسويات العادلة، وهو ما كان واضحًا في المبررات التي ساقها بومبيو لشرعنة المستوطنات. ثم إن الخطوة الأمريكية تهدف إلى تعزيز مكانة اليمين الإسرائيلي، حليف إدارة ترامب.

ففي قرار هو الأخطر من بين سلسلة تلك القرارات، وفي كانون أول/ ديسمبر 2017، اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة لـ “إسرائيل”، ووقّع الرئيس الأمريكي ترامب قرارًا بنقل سفارة بلاده من “تل أبيب” إلى القدس، وهو ما شرعت به بالفعل في العام التالي في ذكرى النكبة الفلسطينية، الأمر الذي ترك دلالة معنويّة واضحة. ودون أي مواربة، أعلنت أن قرارها يهدف إلى إخراج القدس من المفاوضات[10]، أيْ أنّها تمنح الوقائع الاستيطانية والسياسية الإسرائيلية قوّة سياسية دولية، وتفرض موقفًا دوليًّا جديدًا يتطابق مع السياسات الإسرائيلية.

ثمّ في آب/ أغسطس 2018، أوقفت الولايات المتحدة تمويلها الكامل لـ “وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى/ الأونروا”[11]. وأغلقت في أيلول/ سبتمبر 2018 مكتب منظمة التحرير في واشنطن نهائيًّا، بحجة سعي السلطة الفلسطينية إلى فتح تحقيق جنائيّ ضد “إسرائيل” أمام المحكمة الجنائية الدولية.[12]

وفي آذار/ مارس 2019، وفي بيان رسمي من البيت الأبيض موقّعٍ باسم ترامب، اعترفت الولايات المتحدة بمرتفعات الجولان جزءًا من “إسرائيل”، معلّلة ذلك بحاجة “إسرائيل” لحماية أمنها من سوريا، ومن التهديدات الإقليمية الأخرى[13]. وهو الأمر الذي دفع نتنياهو لإعلان توقعاته بصدور قرار أميركي قريبًا، يعترف بسيادة الاحتلال الإسرائيلي على الضفة الغربية[14]، ممّا أثار مخاوف فلسطينية وعربية ودولية[15]، وهو ما يمكن القول إنّه قد حصل بالفعل الآن، على اعتبار أن المستوطنات تشكّل حيّزًا واسعًا من جغرافيا الضفّة الغربية.

وبالنظر إلى حديث بومبيو عن “الوقائع والظروف الفريدة من نوعها، التي نشأت بعد إقامة المستوطنات المدنية في الضفة الغربية”، فإنّه يمكن القول إنّ القرار الأمريكي يشمل كلّ الوقائع ذات الصلة بالمستوطنات، كمجالها الأمني، والطرق المؤدّية إليها. وتأسيسًا على هذه العبارة اللافتة، وما دامت هذه الإدارة موجودة بتحالفاتها الراهنة في المنطقة، فإنه من المتوقع أن تتسع قراراتها لتشمل الضفّة كلّها، أو أجزاء واسعة منها، وهو ما يمكن فهمه من تصريح سابق لبومبيو، قال فيه إنّ الإعلان عن الخطّة الأمريكية للسلام في الشرق الأوسط قد يستغرق عشرين عامًا[16]، وهو ما يعني أنّ السياسات الأمريكية المنتهجة من هذه الإدارة، هي مواكبة السياسات الإسرائيلية في الواقع، أي الاعتراف بالإجراءات الإسرائيلية، والدفاع عنها في المحافل الدولية، وتغطيتها بقوّة الولايات المتحدة، وجعلها أساسًا لأيّ تسوية مع الفلسطينيين، في حال كان ثمّة إرادة بالفعل لفرض تسوية من هذا النوع.

وعلى أيّ حال، فإنّ القرارات الأمريكية التي أشير إليها فيما سبق، والتي تخصّ القدس، واللاجئين الفلسطينيين، ومكتب منظمة التحرير، والجولان السوري المحتلّ، وأخيرًا المستوطنات في الضفّة الغربية، لم تكن القرارات الوحيدة من الإدارة الأمريكية الحالية. فقد حرصت الولايات المتحدة على حماية “إسرائيل” داخل المؤسسات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، سواء عبر استصدار قرارات لصالح “إسرائيل”، كتقديم مشروع قرار لإدانة حركة حماس[17]، أو في الهجوم على المؤسسة الدولية التي لم تزل تُصدر قرارات منحازة للفلسطينيين من وجهة نظر “إسرائيل” والإدارة الأمريكية. كما سعت الولايات المتحدة لفرض وقائع فيما يتجاوز جغرافيا الصراع إلى قضية اللاجئين، كسعيها لإعادة تعريف مفهوم اللاجئ الفلسطيني، وبالتالي تقليص أعداد اللاجئين[18]، وغير ذلك من إجراءات وقرارات داعمة لـ “إسرائيل”، وتهدف بالدرجة الأولى إل

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات