الأحد 05/مايو/2024

منطقة الأغوار بين الاحتلال وإعلان السيادة

منطقة الأغوار بين الاحتلال وإعلان السيادة

خلفية عامة

يطلق اسم الأغوار، أو غور الأردن على المنطقة الممتدة من “عين جِدي” قرب البحر الميت جنوبًا، إلى منطقة “عين البيضاء” القريبة من بيسان شمالًا. وقد تم احتلال هذه المنطقة كجزء من الضفة الغربية عام 1967، وما زالت “إسرائيل” تسيطر فعليًا على هذه المنطقة منذ ذلك الوقت. تبلغ مساحة هذه المنطقة ما يقارب 1600 كيلومتر مربع، أي ما يقارب 29% من مساحة الضفة الغربية. 87% منها تصنف كمناطق “ج”، أي تخضع لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي أمنيًا وإداريًا، وذلك طبقا لاتفاقية أوسلو (بيتسليم، 2011).

يعيش في هذه المنطقة حوالي 80 ألف فلسطيني، 15 ألف منهم يقيمون في تجمعات بدوية متفرقة (بيتسليم، 2011). بينما يبلغ عدد المستوطنين في منطقة الأغوار حوالي 7 آلاف مستوطن، يعيشون في 28 مستوطنة (مركز الاحصاء الفلسطيني، 2017). هذا يعني أن متوسط عدد المستوطنين في المستوطنة الواحدة في منطقة الأغوار، يبلغ حوالي 285 مستوطنًا. بينما يبلغ متوسط عدد المستوطنين في مستوطنات القدس، حوالي 10 آلاف مستوطن للمستوطنة الواحدة. تعني هذه الدلائل الإحصائية، أن الاهتمام الإسرائيلي في منطقة الأغوار، هو اهتمام جيوسياسي بالدرجة الأولى، مقابل اهتمام ديمغرافي في منطقة القدس.

دوافع “إسرائيل” في السيطرة على الأغوار

تتداخل أهمية منطقة الأغوار من عدة نواحٍ، أهمها الأمنية والجيوسياسية والاقتصادية.

فمن الناحية الأمنية، تشكل منطقة الأغوار سدًا منيعًا أمام أي هجوم من جهة الأردن. ومع أن طبيعة الحروب وآلياتها تغيرت، حيث أصبح بإمكان الهجمات الصاروخية أن تصل إلى الأراضي “الإسرائيلية”، وخاصة من المنطقة الشمالية للغور، إلا أن منطقة الأغوار ما زالت تشكل منطقة عازلة جغرافيا وزمانيا، بين الأردن من جهة، و”إسرائيل” ومستوطناتها من جهة أخرى. وبما أن منطق الحروب التقليدية يفترض أهمية وجود إنذار مبكر لأي اعتداء، فإن السيطرة على مناطق الأغوار تحقق ذلك.

يرى الكاتب نحاس (2012) أن المبدأ الأمني الذي تتبناه “إسرائيل”، هو وجود “حدود قابلة للدفاع”، من أجل الحفاظ على العمق الاستراتيجي. ويرى أن هذا المبدأ تبلور بسبب وجود “خاصرة دفاعية ضيقة”، بين حدود الضفة الغربية من ناحية الخط الأخضر، وبين المنطقة الساحلية “12 كيلو متر فقط”، والتي تضم مدنًا كبرى كتل أبيب، وفيها الثقل السكاني الأكبر. وبالتالي، فإن من الضروري العمل على حماية هذه الخاصرة.

ومن الناحية الجيوسياسية، يمكن أن تمثل منطقة الأغوار ثقلًا حيويًا لأي دولة فلسطينية مستقبلية محاذية للأردن، حيث إنها تحتوي على مخزون جغرافي من الأراضي الصالحة للزراعة، والموارد المناسبة، وأهمها المياه. لذا، فإن إمكانية حصول ذلك تعني زيادة المخاوف الأمنية الإسرائيلية على مستقبل المستوطنات داخل الضفة، وكذلك على دولة الاحتلال نفسها. وبالتالي، فإن أهمية السيطرة على هذه المنطقة، تكمن في منع إقامة أي حكم ذاتي فلسطيني فيها. تتمتع منطقة الأغوار كذلك بموقع استراتيجي، كونها تشكل امتدادًا طبيعيًا لتوسع مدينة القدس المحاذية لها. هذا يعني أن السيطرة على منطقة الأغوار، ستسمح للاحتلال بتنفيذ مخططاته الاستيطانية الكبرى، وأهمها مشروع القدس الكبرى. كما أن التخلي عن هذا المنطقة، يعني بالضرورة، تقلص المشروع الاستيطاني الكلي في الضفة الغربية، وبالتالي زيادة المخاطر على دولة الاحتلال نفسها. في هذا السياق، يمكن ربط الدوافع الأيديولوجية، كالإيمان بالقدس عاصمة أبدية للدولة اليهودية، بأهمية السيطرة على أراضي الأغوار، والتي تساهم في تحقيق هدف جعل القدس الكبرى عاصمة لهم.

إضافة إلى الأهمية الجيوسياسية والأمنية، تمثل منطقة الأغوار أهمية اقتصادية استراتيجية؛ بسبب الموارد الطبيعية التي تحويها هذه المنطقة. حيث تتميز منطقة الأغوار بأراضيها الزراعية الخصبة، وبمناخها الدافئ شتاءً، والحار صيفًا، ما يجعلها بيئة مناسبة للكثير من المزروعات. كما تمثل أراضي المحميات الطبيعية حوالي 27% من منطقة الأغوار، وهي منطقة يمنع الاحتلال الفلسطينيين من استخدامها، أو البناء فيها (اوتشا، 2012). كما تتميز هذه المنطقة بوفرة المياه، حيث تحتوي على العديد من ينابيع المياه في السفوح الجبلية، وعلى ما يقارب 133 بئرا جوفيا، الأمر الذي يساهم في استخراج ما يقارب 16 مليون متر مكعب (نحاس، 2012). هذا يعني أن منطقة الأغوار تربض على بحيرة من المياه، تشكل ما يقارب ثلث احتياطي المياه الجوفية في الضفة الغربية.

في نفس الوقت، يتمتع المستوطنون في منطقة الأغوار، بمزايا كبيرة في استخدام موارد المياه، حيث إن حصة المستوطن الواحد، أكبر بـ 18 مرة مقارنة بحصة المواطن الفلسطيني في الضفة الغربية، وأكبر بمرتين ونصف مقارنة بباقي مستوطني الضفة. كما يتم سنويا تخصيص ما يقارب 10 ملايين متر مكعب للمستوطنين في منطقة الأغوار، وهو ما يساوي حوالي 30% من استخدام جميع سكان الضفة الغربية (Peace Now 2017).

المشاريع الاستيطانية وارتباطها بمنطقة الأغوار

من المؤكد أن مطالبة المستوطنين بفرض السيادة الإسرائيلية الرسمية على منطقة الأغوار، ليست جديدة، وأن نتنياهو ليس أول من نادى بذلك. تاريخيًا، يُعتبر مشروع الوزير الإسرائيلي يغال ألون عام 1967، الذي تضمّن تصورًا متكاملًا حول سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية، المشروع الأساس لما ينادي به نتنياهو اليوم. ومن أهم ما دعا إليه ألون حينها، وجود منطقة آمنة، تمتد على الحدود الشرقية مع الأردن، بشريط عرضي يتراوح بين 10 إلى 15 كم (الموسوعة الفلسطينية، 2013). سعى هذا المخطط إلى تحقيق عدة أهداف، أهمها حماية “الدولة اليهودية” من أي اعتداء عسكري خارجي، وضمان التفوق الديمغرافي لليهود فيها، حيث تساهم السيطرة على منطفة الأغوار في وقف أي زحف عربي ديمغرافي محتمل من جهة الأردن.

واليوم، أصبح مخطط ألون بتفاصيله موجِّهًا للتمدد الاستيطاني الذي يجري تطبيقه على الأرض. ينبغي على القارئ أن لا يفصل بين ما أعلنه نتنياهو مؤخرًا، وبين فهم الصورة الكبرى لمشروع الاستيطان الإسرائيلي؛ فبالنظر إلى خارطة الضفة الغربية اليوم تتضح استراتيجية الاحتلال الإسرائيلي في تعزيز فكرة جعل الضفة الغربية تقبع بين “فكي كماشة”. فمن الناحية الشرقية، يسيطر الاحتلال على منطقة الأغوار، ومن الناحية الغربية، طُوقت الضفة الغربية بجدار الفصل العنصري، وسلسلة من المستوطنات الإسرائيلية. وفي داخل الضفة الغربية، يعمل مشروع القدس الكبرى على تقطيع الضفة لشطرين، شمالي وجنوبي، وتبقى المستوطنات المتناثرة في داخل “فكي الكماشة” تُحكم الخناق على الفلسطينيين.

يعمل أحد أهداف مشروع القدس الكبرى، والذي يُعتبر من أخطر المشاريع في الضفة الغربية، على إيجاد ممر آمن بين منطقة الأغوار شرقًا مع المستوطنات القائمة في غرب الضفة الغربية، وصولًا إلى الساحل الفلسطيني. وبالتالي، فإن إعلان السيادة الإسرائيلية على منطقة الأغوار، المسيطَر عليها فعليًا، يعني تلقائيًا توسع حدود “الدولة الإسرائيلية”، وبصيغة تضمن الترابط الجغرافي بين أجزائها. الأهم من إعلان نتنياهو الأخير، هو المخططات العملية التي تُطبق، وستطبق فعلًا على أرض الواقع. فعلى سبيل المثال، يهدف جزء من مخطط 2050 إلى إنشاء مطار في غور الأردن، وبالتالي يعمل مخطط مشروع آخر، وهو “القطار الخفيف”، على إنشاء شبكة طرق تربط بين مستوطنات الضفة، وسوف تصل، حسب المخطط، إلى منطقة الأغوار (التفكجي، 2019). إذن، لا يمثل التصدي لإعلان نتنياهو حول السيادة على منطقة الأغوار أهمية كبيرة، مقارنة بأهمية التصدي العملي للمشاريع الاستيطانية، التي تستهدف منطقة الأغوار نفسها.

في ظل هذه المعطيات يبرز سؤال مهم حول توقيت إعلان نتنياهو، الذي يمكن تفسيره ضمن سياق التنافس الانتخابي، وكسب مزيد من أصوات الناخبين الإسرائيليين ليس أكثر، مع عدم التقليل من شأن الإعلان. وما ينبغي قوله هو أن إعلان السيادة له جانب قانوني سياسي، أما الضم الفعلي الاحتلالي فهو موجود منذ زمن، وما استمرار المشاريع الاستيطانية إلا تعزيز لهذه السيطرة العملية.

تطور الموقف الإسرائيلي تجاه الأغوار منذ 1967 وصولًا إلى نتنياهو

كما تمت الإشارة سابقا، بدأ التصور الإسرائيلي تجاه الأغوار يتبلور مع مشروع ألون، ثم توافق شارون مع مشروع ألون في هذه الجزئية، إذ كان يدعو لعدم السماح بإنشاء دولة بين الأردن و”إسرائيل”. وهذا ما تم تطبيقه فعلًا من قبل حكومات الاحتلال المتعاقبة، والتي قامت في سبيل تحقيق هذا التصور ببناء شارع 90، الذي ربط مستوطنات الأغوار مع بعضها البعض (شريدة، 2010). ويوضح نحاس (2010) في دراسته أن هذا الحال استمر حتى اتفاق أوسلو، الذي كان يتطلب في تطبيق مرحلته الأولى “غزة أريحا أولًا” أن تنتقل مناطق واسعة من أراضي الأغوار إلى الفلسطينيين. ولذا، فإن فكرة التفاوض على مصير أراضي الأغوار طُرحت للمرة الأولى من قبل حكومة رابين عام 1993، ولكن ذلك لم يكتمل، حيث قُتل رابين على يد متطرف من أحد أعضاء الأحزاب اليمينية المتشددة. وقد مثل وصول نتنياهو إلى السلطة (1996 – 1999) بداية مرحلة جديدة، تجسدت في عدم إلغاء ما تم الاتفاق عليه في أوسلو، ولكن في نفس الوقت، عدم تطبيقه وإنما تعزيز الوجود الاستيطاني في الأغوار. أما حكومة باراك (1999 -2001)، فقد وضعت ملف الأغوار على طاولة المفاوضات للمرة الأولى، ولكن الرأي العام الإسرائيلي الضاغط على باراك والذي تزامن مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، جعله يتراجع في التفاوض على هذا الملف. أما استراتيجية حكومة شارون (2001 -2006) بخصوص ملف الأغوار فكانت قريبة من سياسة نتنياهو، إلا أنه قدم مشاريع توسعية استيطانية أكبر من سابقاتها. وبالرغم من ذلك، واجهت الحكومة الإسرائيلية تحديًا مهمًا تمثل في انخفاض رغبة المستوطنين في العيش في منطقة الأغوار. أما أولمرت (2006 – 2009)، فقد جاء باقتراح يخص المستوطنات المنتشرة في أراضي الضفة، داعيًا إلى إزالة بعضها، والإبقاء على المراكز الكبرى. لكن رأيه بخصوص منطقة الأغوار لم يكن أفضل من سابقيه. فقد كان يؤمن بأن السيطرة على غور الأردن، يجب أن تبقى كحزام أمني مهم.

يشير هذا السياق التاريخي إلى عدة استنتاجات، أولها أن الحقب الزمنية التي سيطر فيها اليمين المتطرف على إدارة الحكومة الإسرائيلية شهدت تعنتًا أكبر في التعامل مع قضية الأغوار، حيث إنها جميعها رفضت من حيث المبدأ وضع هذا الملف على طاولة المفاوضات، أما الحكومات اليسارية، مثل حكومتي رابين وباراك، فقد كانت أكثر مرونة، من حيث قابليتها لوضع ملف الأغوار على طاولة المفاوضات. لكن في الحالة الثانية، ظهر مدى تأثير الرأي العام الإسرائيلي، ومزاجه المتشدد عمومًا، وهذا ما أدى بالحكومات اليسارية إلى أن تتراجع في التفاوض على ملف الأغوار، وتتبنى رأي الأحزاب الأخرى في كون منطقة الأغوار ذات أهمية أمنية لا يمكن التنازل عنها، والتفاوض حولها.

شكّل فوز نتنياهو في انتخابات عام 2009 ورئاسته للحكومة مرة أخرى، مرحلة أكثر تعقيدًا في التعامل مع قضية غور الأردن. فقد صادق مجلس الوزراء الإسرائيلي في 12/12/2009 على خريطة جديدة تمثل الأولويات الوطنية لـ “إسرائيل” في التعامل مع أراضي الضفة الغربية، وبموجب ذلك تم منح اعتمادات إضافية لمستوطنات الأغوار، وإقرار بناء 32 بؤرة استيطانية جديدة (نحاس، 2012). وحتى عام 2012، شهدت مناطق الأغوار بناء ما يقارب 133 موقعًا عسكريًا (إسحق، 2012). ومنذ عام 2012 حتى 2017، قامت حكومة نتنياهو بهدم 806 مبانٍ، وما يقارب 700 منزل، في منطقة الأغوار وحدها (بيتسليم، 2017).

خلاصة: مآلات إعلان السيادة على منطقة الأغوار

ليس من المبالغة القول إن إعلان يهودية الدولة، وإعلان القدس عاصمة أبدية لـ “إسرائيل”، ثم نقل السفارة الأمريكية إليها، ونية ضم المستوطنات في الضفة الغ

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات