الجمعة 31/مايو/2024

صفقة القرن على ضوء الشرعية الدولية

د. محمد النويني*

يعتبر مبدأ تقرير المصير من أهم المبادئ التي تضمنها ميثاق الأمم المتحدة لسنة 1951 في الفقرة الثانية من المادة الأولى وفي المادة 55 منه؛ حيث نص على حق الشعوب سواء كانت كبيرة أو صغيرة في أن تقرر مصيرها بيدها دون تدخلات خارجية، وإقامة دولة مستقلة محررة من أي استعمار لأراضيها ومواردها، دون استثناء أو تمييز بسبب العرق أو الدين أو اللغة أو الموقع الجغرافي.

وقد صنف حق تقرير المصير على أنه أحد مبادئ القانون الدولي الإلزامي الذي لا يمكن إخضاعه لمنطق موازين القوى، حيث ورد هذا المبدأ في العديد من المعاهدات الدولية لاحقا، إذ أشير إليه في ميثاق المحيط الهادي الموقع في 8 شثنبر 1954 وفي بيان مؤتمر باندونج الصادر في 24 أبريل 1955، وفي إعلان بلجراد لدول عدم الانحياز الصادر في 6 شثنبر 1961، وإعلان مؤتمر القاهرة لدول عدم الانحياز الصادر في أكتوبر 1964.

ترى لماذا فشلت الأمم المتحدة ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، طيلة العشريات السبع الماضية في إيجاد حل للشعب الفلسطيني وذلك بتخويله الحق في تقرير المصير؟ ولماذا هذا التدخل الأمريكي المنحاز إلى الطرف الإسرائيلي، الذي يريد فرض تهجير قسري جديد على الشعب الفلسطيني صاحب الأرض المغتصبة؟!

حمولة الاسم تتعارض مع القيم الكونية لحقوق الإنسان

على الرغم من عدم الإعلان الكامل والرسمي عن وثيقة صفقة القرن والاكتفاء فقط بتسريب بعض بنودها، فإنه يمكن أن نبدي أول ملاحظة شكلية على اسم الوثيقة “صفقة القرن” والتي لا تتساوق مع قيم ومبادئ المنظومة الكونية لحقوق الإنسان ومع قواعد وضوابط الشرعية الدولية، بل تتضمن حمولة تجارية ودلالات لها ارتباط بمنطق الصفقات ومنطق الربح والخسارة “البزنس”، وهذا ينبغي التنبيه إليه من جهة أولى قبل الخوض في تقييم مضمون ومحتوى الوثيقة، التي يظهر لنا من جهة ثانية أنها تؤسس لصراع جديد ومختلف، وتعيد تشكيل خارطة العلاقات الدولية لا خارطة فلسطين فقط، ولا تكتفي بسرقة الأرض، لكنها تنتزع أيضا الحق في المقاومة والحق في تقرير المصير، وهي لا تعطي الضوء الأخضر الأمريكي لـ”إسرائيل” في شن حرب جديدة على غزة، لكنها تجعل من الولايات المتحدة شريكا في أية حرب قادمة عليها.

أيضا من حمولة الاسم أنها ممتدة عبر قرن من الزمن، مما يعني أنها خطة صهيوأمريكية تريد أن تكمل ما جاء به وعد بلفور المشؤوم الذي مر على صدوره قرن آخر من الزمن.

بنود الصفقة تتعارض مع القرارات الدولية:

تهدف “صفقة القرن” إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر شطب قضية اللاجئين، وضم مدينة القدس، وتثبيت الاحتلال والاستيطان، ومنع حق تقرير المصير، ومنع إقامة دولة مستقلة، وتفكيك مكونات الشعب الفلسطيني من خلال فصل الداخل عن الخارج، وفصل قطاع غزّة عن الضفة الغربية، ونزع سلاح المقاومة الفلسطينية، والاعتراف بدولة “إسرائيل” وتبييض جرائمها ضد الإنسانية في حق الشعب الفلسطيني، وتوظيف المال الخليجي لتنزيل الصفقة عبر ضخ العشرات من مليارات الدولارات في هذا المشروع الاستعماري الجديد.

وبتفحصنا لبنود “صفقة القرن” هاته، نجدها تتعارض مع قرارات الأمم المتحدة الصادرة حول القضية الفلسطينية ومن بينها قرار حديث لمجلس الأمن عدد 2334 الصادر بتاريخ 23 دجنبر 2016، والذي يحث على وضع نهاية للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، ويطالب “إسرائيل” بوقف الاستيطان بالضفة الغربية بما فيها “القدس الشرقية”، وعدم شرعية إنشائها للمستوطنات في الأرض المحتلة منذ عام 1967.

كما تتعارض مع القرار الأممي الشهير عدد 194 الصادر بتاريخ 11 دجنبر 1948.

والذي يمنح بموجبه سكان فلسطين المهجرين قسرا، في حق العودة إلى أراضيهم مع تعويضهم عن الأضرار التي لحقتهم جراء ذلك التعسف.

أيضا يناقض “القرار الأممي عدد 242” الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 22 نونبر 1967، والذي يحث الكيان الصهيوني عن الانسحاب الفوري من الأراضي المحتلة بما فيها فلسطين، وإنهاء كل حالات الحرب والمطالب المتعلقة بها، واحترام السيادة ووحدة الأراضي والاستقلال السياسي لكل دولة في المنطقة والاعتراف بها، بالإضافة إلى حقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها دون تهديدات أو استخدام للقوة.

صفقة القرن وجه آخر من وجوه التهجير القسري للفلسطينيين:

إن تضمين وثيقة صفقة القرن مسألة إبعاد الفلسطينيين من أراضيهم إلى صحراء سيناء المصرية يجعلنا أمام وجه جديد من وجوه التهجير القسري الذي يعرفه القانون الدولي في المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة بكونه إخلاء غير قانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها، وبأنه يندرج ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.

ونقل السكان القسري قد يكون بتدخل السلطة على نحو ينتج عنه تهجير السكان الأصليين، أو على شكل توطين المستعمرين المدنيين من مواطني دولة الاحتلال أو الاستعمار في أرض الإقليم الخاضع لها.

وقد يكون بشكل مباشر عبر لجوئه إلى نقل السكان أو إخلاء منطقتهم وترحيلهم بالقوة أو بحملهم على المغادرة والفرار، وقد يكون بشكل غير مباشر حيث يتم تدريجيا نتيجة اتباع الدولة الغازية سياسة ممنهجة تدفع في اتجاه تراكم ظروف صعبة تجعل الإنسان يكرَه على المغادرة والرحيل من تلقاء نفسه.

ومن جهة أخرى يشكل إبعاد الأشخاص المحميين من الأراضي المحتلة إلى أراضي أخرى عملا تنتفي عنه الصفة القانونية بموجب أحكام المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، كما يشكل خرقا جسيما وصارخا لأحكام المادة 147 من الاتفاقية نفسها، وينظر إلى هذا الإبعاد على أنها جريمة حرب وفقا لأحكام المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

وحماية لهوية وثقافة الأوطان تعتبر الحقوق الثقافية من حقوق الإنسان بموجب أحكام القانون الدولي وقواعده، حيث نجد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يقرر أنه لكل شخص الحق في تأمين حقوقه الثقافية “المادة 22″، ويعزز هذه الحقوق العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي ينص على أنه لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها بنفسها.

خاتمة:

إن إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على نقل سفارتها إلى القدس وإقرارها عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، وإغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وإعلان تنظيمها للمؤتمر الاقتصادي بالبحرين الشهر المقبل تحت عنوان “السلام من أجل الازدهار”، وتهديدها بحل منظمة الأونروا للاجئين وخفض الدعم المالي لها إلى أدنى مستوياته، وقيام مستشارها كوشنير بجولات دبلوماسية إلى دول عربية بغرض التسويق للصفقة.

كل هاته الخطوات تدخل في إطار مخطط تنفيذ بنود صفقة القرن خلال منتصف سنة 2019 والتي تعرف إلى حد الآن معارضة من قبل الطرف الفلسطيني وكذا الاتحاد الأوروبي مع عدم وضوح موقف الدول العربية الرسمي الذي يعيش تشرذما وضعفا خطيرا على الرغم من معارضة شعوبها لهذه الصفقة التي يعتبرونها محاولة صهيوأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية عبر فرض اتفاق سلام بالقوة خارج إطار الشرعية الدولية.

*محامٍ وباحث في القانون الدولي الإنساني

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات