الجمعة 26/يوليو/2024

أكثر من نكبة

عوني صادق

واحد وسبعون عاماً مرت من عمر النكبة الأولى في أيار (مايو) 1948، كانت الأولى، ولم تكن الوحيدة ولا الأخيرة. بعضنا يرى أننا ما زلنا في المربع الأول. وبعضنا يرى أننا صرنا في المربع الأخير. مصطلح «المربعات» مصطلح نسبي، قد يكون «واقعياً» وقد يكون «انهزامياً»، لكنه في كل الأحوال يعتمد على زاوية النظر!

في الخامس عشر من أيار (مايو) 1948، نجح الحلف الإمبريالي- الصهيوني في تتويج مؤامرته التي وضعت أساساتها في اتفاقية سايكس- بيكو (1916) ووعد بلفور (1917)، بالإعلان عن قيام «دولة إسرائيل». لكن الهزيمة التي لحقت بالشعب الفلسطيني كانت قد تحققت قبل ذلك بحلول هزيمة «الثورة الفلسطينية الكبرى» (1936- 1939) بفضل أنظمة سايكس- بيكو العربية! كانت هزيمة الثورة «درساً» لم تستفد منه القوى الوطنية الفلسطينية، وكان مفاده أنه «لا يحرث الأرض إلا عجولها». بعد الإعلان عن قيام «دولة إسرائيل» تاه الفلسطينيون فترة الخمسينات وبعضاً من الستينيات، ليأتي الإعلان عن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية (1964) بداية لطريق جديدة. وبصرف النظر عن ظروف التأسيس، كان «الميثاق القومي الفلسطيني» صحيحاً من الناحية النظرية والأيديولوجية، لكنه لم يستفد من «الدرس» الذي أعطته «الثورة الكبرى»، وظل الاعتماد على «عجول الأمة»، وكان ذلك تمهيداً للنكبة الثانية في حزيران (يونيو) 1967!

جاءت هزيمة 1967 لتؤكد، بعد كل الانقلابات العسكرية التي وقعت، وقيل إنها كانت «ردًّا» على النكبة الأولى، أن الأنظمة العربية قديمها وحديثها لا تزال تسير في ركب سايكس- بيكو، وأنها إما تابعة وإما ضائعة في بحر الاستعمار القديم، الذي غير بعضاً من لباسه! وبالتالي فإن مهمة «تحرير فلسطين» أكبر منها، أو أنها ليست على جدول أعمالها من الناحية العملية. لكن الهزيمة منحت «المقاومة الفلسطينية» التي كانت قد أعلنت عن نفسها في مطلع 1965، «فرصة تاريخية» لتتصدر المشهد، ولتمارس ما كانت ممنوعة من ممارسته قبل الهزيمة. لكن الجهل وقصر النظر جعل الاتساع والانتشار الذي تحقق لها ينقلب ضدها فيقودها إلى هزيمة جديدة أخرجتها من قاعدتها الطبيعية في الأردن وتهجيرها إلى لبنان ودول أخرى. وبدلاً من الاستفادة من تجربتها في الأردن وتلافي أخطائها، زادت أخطاء وخطايا. وعندما وقعت «حرب التحريك» الساداتية في العام 1973، عادت لتستظل تحت شجرة الأنظمة التي أصبحت في حاجة لمن ينجدها، وفي هذه الظروف ولد «برنامج النقاط العشر» الذي سجل تراجعاً عن ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية! وفي لبنان، وحتى يتم إغلاق الدائرة الجهنمية، تحركت القوى الطائفية المناهضة لوجودها بدفع من «إسرائيل» والولايات المتحدة لإشعال الحرب الأهلية اللبنانية، ولينتهي بطرد «المقاومة» منه بالاجتياح «الإسرائيلي» العام 1982 إلى أربع جهات الأرض، وتشتيتها وإبعادها عن حدود فلسطين، لتجد نفسها في وضع أشبه بسنوات الخمسينات قبل الانطلاق.

كانت التنازلات التي أقدمت عليها م.ت.ف. بعد 1974، قد أوصلتها إلى إجراء اتصالات مع الجهات «الإسرائيلية»، وجاء الخروج من لبنان ليسرع ويزيد من الاستعداد للتنازل عن «الثوابت الوطنية»، فكانت النكبة الثالثة مع إعلان «اتفاق أوسلو» (أيلول/سبتمبر 1993) الذي جاء استسلاماً غير مشروط للعدو مقابل «وعد» لم ينص عليه الاتفاق وهو قيام «دولة فلسطينية» بعد خمس سنوات من سريانه، وما زلنا نتجرع سمومه ونتائجه!

وعودة لما بدأنا به، هل ما زلنا في المربع الأول من النكبة، أم نحن اليوم في المربع الأخير منه؟ قطعاً لسنا في المربع الأول، لأن التضحيات التي قدمها الشعب ودماء الشهداء لن تذهب هدراً. ولسنا في المربع الأخير، لأنه واهم من يعتقد أن قرارات ترمب، وما يسمى «الصفقة»، تنهيان المسألة وتطويان القضية. لقد مضى على الشعب الفلسطيني قرن من الصراع، وهو صراع مستمر ومتجدد، وقابل دائماً لأن يتجدد، وكل المطلوب من الوطنيين الفلسطينيين في هذه المرحلة هو «إدامة الصراع»، ومن خلاله ومع الإصرار والإرادة، يمكن أن يتطور ويتغير كل شيء.

صحيفة الخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات