السبت 28/سبتمبر/2024

وجهان لحادثة النفق في غزّة

 ساري عرابي

أكّدت حادثة تفجير العدوّ لنفق هجومي للمقاومة يوم الاثنين 30 تشرين أول/ أكتوبر، وارتقاء عدد من شهداء سرايا القدس في النفق، وآخرين من كتائب القسّام أثناء عمليات الإنقاذ؛ ما هو مؤكّد عن كون قطاع غزّة قاعدة للمقاومة، إعدادًا وتجهيزًا واستعدادًا للمواجهة.

وهذه إن كانت حقيقة، لا ينبغي في أصل الأمر أن يُستدعى دليل للتأكيد عليها، فإنّها كثيرًا ما تُطْمَس وتُغيَّب عمدًا في السجالات الفلسطينية، إلى درجة، لشدّة الغفلة والتضليل، بات البعضُ يعتقد ما يقابلها تمامًا.

 بمعنى أن الحقيقة بهذا الخصوص لدى البعض هي حقيقة زائفة تمامًا، لا تُقرّ بالواقع الذي تشكّل في القطاع من جهة كونه قاعدة للمقاومة، ومن جهة الأهمية المعنوية والاستراتيجية لذلك، بالرغم من أزمة المقاومة المستحكمة.

الإنجاز الذي يمكن لحماس أن تعتدّ به، وتدفع به الكثير من النقد القوي والوجيه لدخولها السلطة، وما تبعه من “حسم عسكري” في قطاع غزّة، هو ما انبثق عن ذلك من ظروف أتاحت للمقاومة حرية العمل الكامل في تعظيم قدراتها ومراكمة تجربتها.

لم تكن حماس وحدها التي استفادت من هذه الظروف، فالاستفادة التي أتاحها حكم حماس استغرقت كلّ فصائل المقاومة، ولاسيما حركة الجهاد الإسلامي، باعتبارها فصيلاً مركزيًّا وأساسيًّا من جهة فعله المقاوم، وجادًّا في هذا المضمار، وها هي هذه الحركة، التي لا تشترك في حكم القطاع؛ لها كامل الحرية في حفر الأنفاق، بما في ذلك الأنفاق الهجومية.

المؤكّد أن ثمن هذا الإنجاز، دفعه طرفان؛ أولاً الشعب في قطاع غزّة الذي فُرضت عليه الحروب، وسُلّط عليه الحصار، وكلّ من في غزّة داخل في دفع هذا الثمن باعتبار أنه من الشعب، وثانيًا حماس وحدها، بالاعتبار السياسي، وباعتبار الأعباء التي تحملها الحركة أمام الجمهور الذي تحكمه، فهي المسؤولة عن السعي لرفع الحصار، وإعادة الإعمار، وحماية الصفّ من محاولات التهشيم والتدمير.

وفي القسم الأكبر من هذا الاعتبار الثاني، وبالذّات في خصومتها مع حركة فتح، صاحبة وقائدة مشروع السلطة، كانت حماس وحدها التي تدفع الثمن، دون أن يشاركها في ذلك حتّى فصائل المقاومة التي استفادت في تجهيز بنيتها المقاومة من حكم حماس، فقد اتّخذ الجميع موقفًا تزيّا بالحياد، استفادت السلطة الفلسطينية منه كثيرًا في النتيجة، بالرغم من إدراك الجميع أن جوهر القضية متعلق بمشروع التسوية، وقيام السلطة الذي خرج من رحمه.

بيد أن هذا الإنجاز، ونتيجة افتقار المقاومة لوحدة الموقف الوطني، والانقسام البرامجي والسياسي في الأساس، لصالح مشروع السلطة التي شكّلت عقبة ثوريّة، وأمسكت بأكثر أوراق القوّة داخليًّا، وأدخلت الفلسطينيين في تناقض داخلي، ثم اضطرار حماس للتعامل مع هذا التناقض لحلّه بدخول السلطة، وبالتالي ما هو معروف، من انحصار بنى المقاومة في غزّة، واختلاطها بمتطلبات الحكم والإدارة المعقدة؛ تحوّل –أي الإنجاز- إلى عبء ثقيل من وجه ما.

فوجود سلطة محلية على الأرض، منح العدوّ الفرصة لزيادة بطشه وقوّة نيرانه، على نحو غير متكافئ، في حال تعرّض لعمل مقاوم منطلق من أرض تلك السلطة، لاسيما إن كانت هذه السلطة تتخذ موقفًا وطنيًّا متقدما منه.

 وهذا التحوّل في سلوك العدوّ الباطش، بدأ مع انتفاضة الأقصى، لا مع تجربة حماس في الحكم، ولكنه كان أشد، كما هو معلوم، بعد حكم حماس للقطاع، إذ صارت المقاومة مسؤولة بحكم هذا الواقع أمام العدوّ والعالم، بالإضافة لاختلاط ذلك بمسؤوليات رعاية الناس، وفي واقع فلسطيني متمايز ما بين الضفّة وقطاع غزّة، تدار فيه المقاومة وتدور في القطاع وحده، ويدفع الناس فيه وحدهم الثمن الباهظ، وإذن تحوّلت المقاومة عن دورها الأساس في استنزاف العدوّ وإشغاله إلى دور دفاعي صرف، ولكنها وبعد حادثة النفق الأخيرة، باتت مأزومة حتى في الدور الدفاعي.
هذا لا يلغي الإنجاز، من حيث كون محض بنية المقاومة في ذاتها وخطابها وجدّيتها سدًّا في مواجهة حالة الانحدار التي شكّلها مشروع التسوية، والذي ظلّ قائمًا، بالرغم من تجرّده من دعواه النضالية، التي حملها بداية، إلى حين انتهاء انتفاضة الأقصى، بعدما انكشف أن هذا المشروع لن يقود إلى أي قدر من الوعود التي قالتها قيادته الفلسطينية في حينه، وقد تحوّل إلى عبء كامل، يجرّف بوجوده الذي صار غاية، أي ثقافة أو تعبئة وطنية، فضلاً عن الفعل الوطني.

ثم وبالإضافة إلى هذا البعد المهم، في وجود بنية للمقاومة، فإنّ جدّيتها المتمثلة بما أُنجز، والاشتغال الدائم بالفكرة عملاً وتجهيزًا، هو مكسب استراتيجي، فعّال في أي مواجهة قادمة مع العدوّ، وسيولة المرحلة التي تعيشها المنطقة، تجعل من احتمال مواجهة واسعة، تتضافر فيها قوى واتجاهات متعددة قائمًا وغير مستبعد.

إلا أن الاستمرار في بطن المعضلة، أي معضلة سلاح المقاومة المتمثّلة بتحوّله عن وظيفته الأساسية من سلاح إشغال واستنزاف، إلى سلاح دفاعي محكوم بجملة ظروف معقّدة لا تملك المقاومة أكثر مفاتيحها، ثم تحوّله عن وظيفته الدفاعية على نحو يجرّده من قيمته الردعية ووزنه النوعي في الصراع مع الاحتلال؛ يعني أن المتبقي من الإنجاز، أي قيمة ودور البنية في ذاتها تعبويًّا واستراتيجيًّا، معرض للتآكل، بما في ذلك حتى سلاح الأنفاق، الذي يهدده العدوّ فعليًّا دون ردّ من المقاومة، والذي يخضعه العدوّ الآن أيضًا لقدراته التسليحية المتفوقّة المستجدّة، التي يقول إنه اختبرها في هجومه الأخير على نفق سرايا القدس.

إن المسؤولية الآن، التي ينبغي أن تتصدى لها المقاومة، هي قلب المعادلة، التي قد يبدو للعدوّ أنّه رسخّها في هجومه الأخير على النفق، وتبلورت بمخططات العدو والقوى الإقليمية والدولية المتحالفة معه، وبأخطاء المقاومة نفسها..

إن قلب المعادلة يعني، تجديد المكتسب المتحقق من وظيفة المقاومة القائمة من حيث دورها المعنوي وقيمتها الاستراتيجية، ثم السعي لإعادة الحيوية لدورها الدفاعي، وأخيرًا دور الإشغال والاستنزاف.. هذا يتطلب بالضرورة، أن تلقي المقاومة كلّ ثقلها، لتوسع جغرافيات المقاومة، وإسناد القطاع بنقاط انطلاق أخرى من خارجه.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات