الإثنين 01/يوليو/2024

ملاحظات حول مأزق المشروع الوطني الفلسطيني ومستقبله

ملاحظات حول مأزق المشروع الوطني الفلسطيني ومستقبله

تلخّص المشروع الوطني الفلسطيني، بعد عام 1948، مشروعاً يتميز عن سياسات الدول العربية بشأن الصراع مع إسرائيل، في تحويل جماعات من اللاجئين والمقيمين على أرضهم الواقعين تحت سيادة دول عربية إلى شعب واحد منظم صاحب قضية وطنية، وبتأسيس حركة تحرر وطني فلسطينية. وقد تقاطعت هذه في حالاتٍ مع طروحات المشروع القومي العربي بشأن تحرير فلسطين، وحوّلت التحرير إلى هدف استراتيجي مرتبط بالصراع العربي الإسرائيلي. وفي حينه، قام حق العودة على فكرة التحرير، وليس على قرارات الأمم المتحدة التي تطالب إسرائيل بالسماح للاجئين بالعودة إلى أراضٍ باتت تحتلها، وتقيم عليها كيان دولة.

يصعب تسمية هدف التحرير حينذاك مشروعاً وطنياً فلسطينياً خاصاً، فقد كان واضحاً أنه ممكن فقط في إطار حرب عربية ضد إسرائيل. ولا شك عندي أن قيادات كثيرة آمنت أنه ممكن التحقيق فعلاً، على الأقل حتى ما بعد حرب أكتوبر/تشرين أول 1973. كما يصعب تسمية الدولة الديمقراطية العلمانية على أرض فلسطين مشروعاً، أو حتى برنامجاً، لأنها لم تطرح بجدية في رأيي، بل في إطار الإجابة على سؤال اليسار الأوروبي المحرِج على طروحات الميثاق: “وما هو مصير السكان اليهود بعد التحرير؟”. ولم تجر بلورة هذا البرنامج وأدواته بشكل كافٍ في الفسحة الواقعة بين الميثاق الوطني الفلسطيني والبرنامج المرحلي.

كان الميثاق الوطني الفلسطيني عقيدة سياسية، اجتمع عليها ممثلو الشعب الفلسطيني، وأصبح، بمقدماته التاريخية وتعريفاته، جزءًا من صياغة الهوية الوطنية الفلسطينيّة الحديثة، بما في ذلك التغيّرات التي طرأت عليه بعد عام 1967، حتى في باب التعريفات: من “فلسطين وطن عربي” إلى “فلسطين وطن الشعب العربي الفلسطيني”. وكذلك إضافة الكفاح المسلح طريق التحرير.


“كان الميثاق الوطني الفلسطيني عقيدة سياسية، اجتمع عليها ممثلو الشعب
الفلسطيني، وأصبح، بمقدماته التاريخية وتعريفاته، جزءًا من صياغة الهوية
الوطنية الفلسطينيّة الحديثة”

لقد أصبح الكفاح المسلح مسألة هوية نضالية، وجزءاً من تحويل اللاجئين إلى أفواج من الفدائيين المناضلين من أجل التحرير، بحيث تجاوزت عملية صهرهم حدود القرى والنواحي التي حافظت على نفسها حتى في المخيمات. ولا شك أن المؤمنين بالكفاح المسلح طريقاً للتحرير آمنوا فعلا بطريق حركات التحرر، بما فيها الحرب الشعبية الطويلة الأمد عند اليسار، سواء أكان هذا اليسار منظماً في فصائل خاصة به، أم منتشراً داخل حركة فتح نفسها.

كان الكفاح المسلح والمؤسسات الداعمة له جزءاً مكوّناً من المشروع الوطني الفلسطيني، بغض النظر عن واقعية البرنامج السياسي الذي كان يخدمه، ومدى قدرته على تحقيق هزيمة إسرائيل عسكرياً. هذا مع عدم التقليل من الأذى الذي لحق بإسرائيل، وحالة الاستنفار السياسي الاقتصادي الاجتماعي التي عاشتها في  تلك المرحلة، والتي لم ترتخِ إلا مع توقيع اتفاقيات السلام، من السلام الإسرائيلي المصري المنفرد، وحتى السلام الفلسطيني الإسرائيلي المنفرد أيضا، مرورا بوادي عربة.

كانت مقومات المشروع الوطني الفلسطيني الذي مثلته م. ت. ف. هي التالية:

1- التضامن العربي الحاضن لقضية فلسطين، والذي يتبنى ثوابتها الرئيسية، والذي تمثل بتأسيس منظمة التحرير وتمويلها، والسماح لها بالعمل في الدول العربية، قبل أن تبحث عن مصادر تمويلها وعوامل قوتها بنفسها.

2- واقع ومفهوم دول المواجهة، وإمكانية استخدام حدودها بدءًا بالأردن حتى عام 1970، وانتهاء بلبنان عام 1982.

3 – المخيمات الفلسطينيّة كقاعدة اجتماعية، وكمصدر بشري للكفاح المسلح.

4- اعتراف الشعب الفلسطيني في  أماكن وجوده كافة بمنظمة التحرير الفلسطينيّة ممثلاً وطنياً للشعب الفلسطيني، وإن لم يكن ممثلاً شخصيا للفلسطيني كفرد، فقد اندمج بعض الفلسطينيين في بعض الدول وحمل جنسياتها.

ويمكن أن يضاف إلى ذلك ظرف الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين، وكذلك نشوء مجموعة دول عدم الانحياز وحالة التضامن ضد الاستعمار.
 
التحول إلى الدولة
وبعد بوادر بانت في وسط السبعينيات، انتقل المشروع الوطني الفلسطيني، منذ العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982 بشكل كامل عملياً إلى العمل على تحقيق هدف واحد، هو الدولة الفلسطينيّة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحويل برنامج الحل المرحلي إلى مشروع بناء دولة، وذلك بتوجيه مصادر الدعم المختلفة إلى المناطق المحتلة عام 1967، وتعزيز بناء المؤسسات الوطنية، وتركيز الفصائل الفلسطينيّة جل اهتمامها فيها، وهو ما مكّن من الارتقاء بمظاهرات عام 1987 إلى مستوى انتفاضةٍ وطنيةٍ مدنيةٍ، عمادها المجتمع الفلسطيني على أرضه في الداخل.

وكان من مستلزمات طرح مشروع الدولة في إطار عملية سياسية دولية الاعتراف الأميركي بمنظمة التحرير، وتسديد ثمن هذا الاعتراف بالتنازل عن الكفاح المسلح؛ وكذلك الاعتراف الإسرائيلي بها، وثمنه التنازل عن الميثاق الوطني، وعن منظمة التحرير نفسها عملياً، لصالح إقامة سلطة فلسطينيّة في المناطق التي تخليها إسرائيل.

تزامنت هذه التنازلات مع صيروراتٍ غيّرت جذرياً ذلك العالم الذي نشأت فيه منظمة التحرير كمجسّد للمشروع الوطني الفلسطيني، وأهمها:
1- تقويض التضامن العربي في اتفاقية كامب ديفيد للسلام المصري الإسرائيلي، وخروج مصر من المواجهة مع إسرائيل، ومع احتلال العراق للكويت، وقيام التحالف الدولي بعضوية دول عربية،

2- فقدان آخر جبهات المواجهة بعد عدوان إسرائيل على لبنان عام 1982، وخروج منظمة التحرير منه.

3- تحوّل المخيم الفلسطيني من مدرسة نضالية وقاعدة للكفاح المسلح إلى أحياء فقر، تُؤوي الفلسطينيين، بكل مميزات أحياء الفقر المعروفة زائدا تهميش الفلسطينيين كغرباء.

4- أفول نظام القطبين وانتهاء الحرب الباردة.

“انتهى الكفاح المسلح كمكوّن من مكونات المشروع الوطني، وانفصلت المقاومة عن السياسة، بل تناقضت معها”

لم تكن السياسة الفلسطينيّة السبب في هذه المتغيرات، لكنها تفاعلت معها. اختلفنا، في حينه، وكانت شقة الخلاف على اتفاقيات أوسلو عميقة. وكانت القيادة الفلسطينيّة، ومعها جزء كبير من الشعب الفلسطيني، ترى التنازل عن المشروع الوطني الفلسطيني السابق وهمياً، لأنه سوف ينتقل إلى صيغة الدولة على أرض الوطن. وكان السؤال الموجه لمعارضي اتفاقيات أوسلو “ما هو بديلكم؟”. لقد بدا وكأن القيادة الفلسطينيّة هي القوة الوحيدة على الساحة الفلسطينيّة التي تملك مشروعاً، وهو مشروع الدولة.

في هذه المرحلة الجديدة، انتهى الكفاح المسلح كمكوّن من مكونات المشروع الوطني، وانفصلت المقاومة عن السياسة، بل تناقضت معها. أصبحت المقاومة المسلحة مقاومة من لا يشاركون في العملية السياسية، بل ويقفون خارج المشروع الوطني لبناء الدولة، وأصبحت مكافحة الإرهاب من ضمن مهام مشروع السلطة الوطنية وعملية بناء الدولة.  وفي حالات كثيرة، أصبحت المقاومة المسلحة موجهة ضد العملية السياسية المسماة عملية السلام.

وكان ياسر عرفات آخر من حاول التوفيق بين الأمرين تكتيكياً، ولا سيما حينما وصل التفاوض إلى طريق مسدود. وقد دفع حياته ثمناً لمحاولة الجسر بين خياريْن، أصبحا متناقضين في عصر التنسيق الأمني مع الاحتلال والتزاماته. وليست مصادفة أن محاولته تكثفت بعد مأزق التفاوض، وهو المأزق المستمر حتى يومنا. فقد تبين في “كامب ديفيد” أن الاتفاق على الحل الدائم مع إسرائيل غير ممكن في المفاوضات الثنائية، وأن شروط قيام الدولة الفلسطينيّة التي تضعها إسرائيل تنفي  الدولة والسيادة في الجوهر، وتجرّدها من القدس أيضاً. أما بخصوص قضية اللاجئين، فقد جرى التكتم على التسليم عملياً بعدم تحقيق حق العودة.

عندها، جرت محاولة عرفات العودة إلى المظاهرات الجماهيرية، ثم الكفاح المسلح بإقامة كتائب شهداء الأقصى، وفي بعض الحالات حتى مع حركة حماس نفسها، ليكتشف أنه ممنوع من ذلك دوليا وإقليميا، وتمردت عليه حتى محاور العملية السياسية في حركته نفسها. أصبح للعملية السياسية نفوذ داخل حركة التحرر الوطني الفلسطيني، في صيغتها الجديدة كسلطة، ونشأت نخب جديدة ترتبط مصلحياً، بل يرتبط وجودها بهذه العملية. ومنذ الانتفاضة الثانية التي اعتبرها هؤلاء كارثية، لم يهدأ فعل التناقض المدمر بين المقاومة والسياسة.

وعندما تحوّلت المقاومة إلى هوية، أي إلى قوة سياسية تعتبر نفسها مقاومة، حتى حين لا تمارس المقاومة تكرَّس، أيضاً، الانقسام السياسي، حتى بدون مفاوضات من جهة، وبدون مقاومة من جهة أخرى. وأخطر ما فيه أنه اتخذ شكل صراع هويات سياسية، وسيطرة على منطقتين يفترض أن تشكلا سويةً أرضاً للدولة الفلسطينيّة (يسميهما بعضهم شقي الوطن، وأنا لا أسميهما سوية وطناً، لأن الوطن هو فلسطين كلها، وليس الضفة الغربية وقطاع غزة).

لم تنشأ دولة فلسطينيّة، ولم تتحقق حتى مراحل الانتقال. وتوسع الاستيطان وتمدد، وواصل الإسرائيليون عملية تهويد القدس بمثابرة “يُحسَدون عليها”، حتى أصبح من الصعب التعرّف على المدينة. ووصل التفاوض إلى طريق مسدود لأسباب كنا نحن، نقّاد اتفاقيات أوسلو، نكتب عنها قبل سنوات:

1- لا يوجد أساس متفق عليه للمفاوضات. وخلافاً للحوار بين الأصدقاء، حيث الشراكة معطى أصلاً، لا تصل المفاوضات بين أعداء إلى أي نتيجة، إذا جرت من دون أساس متفق عليه. وبهذا المعنى، يجب أن يسبق المفاوضات الاتفاق الضمني بين أعداء، ولا سيما إذا كانت موازين القوى بينهما مختلّة، أي أن الحل يسبق المفاوضات، وتدور المفاوضات حول تنفيذه في الواقع. وهذا ما لم يكن قائماً، ففيما عدا المرحلة الانتقالية بقي كل شيء مفتوحاً.

2- في غياب قاعدة مشتركة، وأساسٍ متفقٍ عليه للتفاوض، جرى الارتكان إلى الولايات المتحدة، لكي تجبر إسرائيل على وقف الاستيطان وقبول حل الدولتين، وثبت أن الولايات المتحدة غير راغبة بذلك، أو غير قادرة عليه، أو مركب من الأمرين معاً. فتُرك الفلسطينيون فريسة موازين القوى بين المحتل والواقع تحت الاحتلال. وما الانفجارات الشعبية بعد “كامب ديفيد”، وبعد أزمة المفاوضات وسحب الولايات المتحدة يدها منها، إلا تمرد على واقع الاستفراد الإسرائيلي بالفلسطينيين.

3- قبلت السلطة الفلسطينيّة أن تأخذ على نفسها التزامات الدولة وواجباتها، من دون أن تكون دولة، بحيث تحارب “الإرهاب”، ليس في دولة ذات سيادة، بل عند شعب واقع تحت الاحتلال. وهذه مهمة مستحيلة. ولذلك، تبدو بعدها السلطة كمن لم يلتزم بالشروط، أما إذا التزمت بهذه الشروط ونالت الرضى، فلا تكافئها إسرائيل على ذلك بتنازلات سياسيةٍ، تحفظ ماء وجهها أمام شعبها، بل يشجع غيابُ الحالة النضالية، ونفسيةُ الاستكانة والواقعية الاحتلالَ على التمادي  في بناء المستوطنات وممارسات الاحتلال المعروفة.

4- أدت المفاوضات إلى تهميش ما تبقى من تضامن عربي ودولي من القيادة التي أصبحت ترى في التضامن النضالي مع فلسطين الذي تقوم به القوى الديمقراطية في العالم أجمع مزايدة على الفلسطينيين الذين اختاروا طريق التفاوض. ومن هنا، لم تنضم السلطة إلى مطالب مقاطعة إسرائيل، واكتفت بدعم فكرة مقاطعة منتجات المستوطنات. أصبح المطلوب من أصدقاء الشعب الفلسطيني انتظار نتائج مفاوضات بين طرفين. وصارت قوى التضامن تجد في التضامن مع غزة المحاصرة ساحة لها.

وفي مرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية، نجحت محاولات تطبيع الحياة في غيتوات الفلسطينيين في الضفة الغربية، بالتغطية على حقيقة أنه، فيما عدا أن الناس أصبحت تأخذ من البنوك قروضاً لشراء سيارات وشقق سكنية،  لم يتغيّر واقع الاحتلال، ووصلت المفاوضات إلى طريق مسدود. وقد وصلت إلى طر

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات