الإثنين 12/مايو/2025

الاستشهادي عليان.. المبشر الأول في العهدة العشرية القسامية

الاستشهادي عليان.. المبشر الأول في العهدة العشرية القسامية

تتجدد ذكرى الشهداء حين تفوح الأرض برائحة أجسادهم العطرة، وحين تنبعث الروح في مولود جديد في ذكرى استشهاد المجاهد ليجدد العهد والأمل والحياة من جديد في نفوس عائلته.

“إسلام” ولد اليوم في ذكرى استشهاد عمه الرابعة عشرة حاملا في روحه وقلبه الوفاء لدماء عمه التي سقت أرض مدينة “أم خالد” حين صاح مكبرًا ثأرًا لدماء الشهداء من العدو الغاصب لأرضه ووطنه.

أحمد عمر عليان خرج بعد صلاة الفجر من محرابه إلى محراب الجهاد والاستشهاد ليكون المبشر الأول في العهدة العشرية القسامية التي زلزلت أركان العدو الصهيوني في سلسلة من العمليات الاستشهادية النوعية.

وعلى التلال الشرقية لمدينة طولكرم، وحيث مخيم نور شمس تولد كل يوم حكاية من رحم الألم؛ فبين جدران المخيم الصلبة وحاراته الضيقة يولد الأبطال، ويعرفون الطريق الذي تختطه الدماء نحو العودة.

ففي مخيم الشهداء نور شمس؛ ولد الشهيد أحمد عمر عليان عام 1979، حيث المكان الذي هُجرت إليه عائلته عقب النكبة التي حلت بالفلسطينيين في الخامس عشر من أيار عام 1948، وعرف عنه طيب الخلق وحسن المعاملة والبساطة حتى أحبه كل من تعامل معه.

تلقى تعليمه الأساسي في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في مخيمه، ثم انتقل إلى مدارس مدينة “طولكرم” ليلتحق بالتعليم الثانوي فيها، فدرس في المدرسة الفاضلية الثانوية التي خرجت عشرات الشهداء والأسرى من مقاتلي القسام وأبطاله النوعيين.

رجل القرآن

ملأ القرآن الكريم على أحمد حياته، فكانت جميع ساعاته يقضيها مع التلاوة، يرتل ويجود ويقرأ بالأحكام، وقد حباه الله صوتا رخيما رائعا كساه علما شرعيا حين حاز على شهادة تلاوة القرآن الكريم وتجويده، وحل في المرتبة الأولى على المتقدمين للامتحان على مستوى الضفة الغربية في الجانبين النظري والعملي.

كان أحمد يدرك قيمة تعلم القرآن الكريم؛ فعمل بما تعلم، وصار نعم الشاب الذي يحفظ كتاب الله عز وجل في صدره، ويمارس ما حفظ سلوكاً واضحاً في سره وعلنه وبين أقرانه.

أمضى أحمد شبابه في طاعة الله عز وجل؛ فقد أحب ارتياد المساجد منذ نعومة أظفاره، وأتقن قراءة القرآن حتى غدا مقرئاً جميل الصوت متقن الأداء، مما دفع إحدى شركات الإنتاج الفني في مدينة طولكرم لتسجيل صوته وهو يقرأ القرآن على أشرطة “الكاسيت” كونه مقلداً للشيخ “عبد الباسط عبد الصمد”، القارئ المصري المعروف.

مآذن المساجد حراب المجاهدين

كان لموهبة الصوت الجميل التي تميز بها شهيدنا الأثر الكبير في اختياره من فرقة “الأنصار الفنية”، وهي فرقة إنشاد ملتزم محلية، ليصبح عضواً مهما في الإنشاد الديني في مدينه طولكرم، وما لبث أن أنشد لأول مرة حتى أصبح صوته مطلوبا لجمهور الفن الملتزم في أي حفلة أو مناسبة فنية.

عمل الشهيد أحمد مؤذناً في مسجد مخيم نور شمس، ويصف أحد جيران المسجد صوته بالأذان، قائلا: “كلما سمعت صوته سالت من عيني عبرات الدمع، وأنعشت الذاكرة بأيام الوطن في حيفا”.

لم يكن هذا الجار يدرك السر الغريب بين صوت أحمد وصوت حيفا في أعماقه، لكن ما حملته الأيام بعد ذلك من مفاجآت علمته أن الأرض وأبناءها كلٌّ لا يتفرق.

أول الغيث قطرات دماء أحمد

 مع اندلاع انتفاضة الأقصى أوغلت قوات الاحتلال في جرائمها بحق الفلسطينيين، فسقط الشهداء وسالت الدماء وأعلنت “كتائب الشهيد عز الدين القسام” عن الرد على جرائم المحتل المتكررة بحق الشعب الفلسطيني الأعزل بسلسلة من عشر عمليات استشهادية لتدك بها حصون المحتل وتزلزل أمنه المزعوم.

لم يكن أحد ليتوقع في حينه أن ذاك الشاب القارئ لكتاب الله، المنادي بالأذان للصلاة خمس مرات في اليوم والليلة هو المبشر الأول في سلسلة الرد القسامي.

ففي صبيحة الرابع من أيار لعام 2001 ميلادية، استيقظ شهيدنا ليؤذن الفجر موقظاً المؤمنين إلى الصلاة، وكان أذانه في ذاك الصباح مختلفاً عن كل أذان من قبل، فالصوت الحزين الذي امتاز به تحول إلى صوت الغضب والثورة وكأنه يقرع طبول الحرب.

ثم عاد إلى المنزل بعد صلاته في المسجد، وقبّل يد والديه ثم قال لوالدته “ارضي عني يا أمي”.. فانهالت بالبكاء، وكأنها تعلم من نبرات صوته الممزوجة بالحنين إلى الفردوس الأعلى أنها لن تراه بعد هذا اليوم، ثم ابتسم شهيدنا، وغادر البيت بصمت.

ناداه أهل الجنة فاستجاب النداء

وفي أثناء سيره إلى الهدف الذي يريد، انتابت شهيدنا سِنة من النوم لم تستمر لأكثر من خمس دقائق رأى فيها الشهداء “يحيي عياش، وعماد عقل، ومحيي الدين الشريف” وهم ينادونه ويقولون له “تعال يا أحمد فهنا يطيب المقام”.

وقبل أن يحمل حزامه الناسف على خصره النحيل، أخبر شهيدنا عن ما رأى في منامه لإخوانه القساميين العظام، فقالوا له “عليك بالاستعجال للحاق بعياش الذي أحببت”، فلبس الحزام وأسرع إلى الهدف لينال مراده ومناه.

وفي لحظة من ساعات العز الفلسطينية، وفي مكان أحبّ أحمد أن يكون صاحب السبق الأول في عهدةٍ تمتد إلى عشرة رجال؛ فجر المجاهد البطل حزامه الناسف ليردي الأعداء بين قتلى وجرحى، ثم يأتي الخبر العاجل على شاشات التلفاز؛ استشهادي يفجر نفسه في مدينة “نتانيا”.

أسفرت العملية البطولية التي نفذها شهيدنا أحمد عليان عن مقتل سبعة محتلين وجرح ما يزيد عن السبعين، معلناً بداية الرد المزلزل الذي توعدت به كتائب الشهيد عز الدين القسام.

وبهذا وصل شهيدنا إلى الجنة، وعرج من أرض العودة إلى السماء، وقالت دماؤه الطهورة: عودتنا حق، وبالدماء يكون التحقيق أكبر، وارتفع صوت مكبرات الصوت في كل مكان؛ إنه فاتحة العهدة العشرية لكتائب الشهيد عز الدين القسام.

الآخرة ملكت قلبه وملك الدنيا بيده

لم يهمل الشهيد دنياه؛ فأوصى بها لآخرته، مقسما ما ملك بين أهله وذويه، وبين مئذنة طالما أحب أن ينادي من فوقها بنداء التوحيد “الله أكبر”، فكانت وصيته التي خلفها من ورائه تشمل المادية ولا تهمل المعنوية.

وأول ما أوصى به شهيدنا أن يدعو له والداه بالقبول عند الله تعالى ودخول الجنة التي وعد بها أحمد كلما ردد آي القرآن، وأن يلقى الأحبة محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر المحجلين، وأن تكثر أمه الصابرة من الدعاء له، والرضا عليه.

أما المال القليل الذي تركه فأبقي ثلثيه للورثة، مقسماً بين من يستحق حسب شريعة الله عز وجل، ولم يهمل العلم حين أوصى لأخته ببعض ماله من أجل تعليمها، وكذلك أحب الستر والعفاف ولبس الحجاب الشرعي لما فيه من مرضاة الله، فكان جزءاً من وصيته شراء “جلابيب” لأخواته كهدية.

ميلاد جديد لعهد الشهداء

في ذكرى استشهاد أحمد؛ ولد اليوم إسلام محمود عليان شقيق الاستشهادي ليملأ الدنيا على العائلة فرحا وسرورا وبهجة وليعيد إلى الذاكرة من جديد ذكرى أحمد بعد أربعة عشر عاما على استشهاده.

يقول محمود “أشعر بالسعادة لما رزقني الله من الولد، وأشعر بالسعادة الأكبر أنني رزقت ولدي في ذكرى استشهاد أخي أحمد الذي ما يزال يبعث فينا الأمل والحياة رغم استشهاده وغيابه عنا”.

ويضيف محمود “ربنا عوضنا بهذا المولود بيوم ذكرى استشهاد أخي أحمد ليكون على نهج عمه في الجهاد والمقاومة”.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات