السبت 04/مايو/2024

الاعتقال السياسي.. دوافع التصعيد واستراتيجية التطبيق (تقدير موقف)

الاعتقال السياسي.. دوافع التصعيد واستراتيجية التطبيق (تقدير موقف)



مقدمة
 سيكون الأمر بمثابة تكرار التأكيد، إذا ما تحدثنا أن أي تصعيد في الاعتقال السياسي أو الاتهام الإعلامي يأتي قبيل أي لقاء محتمل أو حديث عن بلورة رؤية للدفع بملفات المصالحة إلى الأمام بعدما تكون قد عاشت مرحلة من الجمود أو التغييب. وليس من الغريب أن تتكرر حملات الاعتقال التي تستهدف شريحة الشبان بالدرجة الأولى بينما ينغمس الجميع في الرؤية التي تدفع باتجاه مزيد من رصّ الصف الوطني والتماسك الاجتماعي لمواجهة المزيد من الانتهاكات “الإسرائيلية”.

ما تقوم به الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية بالضفة، لم يكن ضرباً من الخيال أو شيئا عابراً، ليس من باب الحكم المسبق على الأفعال، ولكن لأن الكثير من التجارب أثبتت هذا الأمر، وهو ما يدفع باتجاه دراسة الدافعية التي تجعل من هذه الخطوات تتصاعد وتيرتها حيناً وتخبو ولو قليلا حيناً آخر، لكنها باقية ببقاء النهج الذي أوجدها.

الترابط الذهني ما بين الاعتقال السياسي ورؤية السلطة الفلسطينية التي قامت عليها، تعزز الهدف الاستراتيجي لبقاء السلطة وأجهزتها الأمنية محطَّ اعتبار واهتمام لراسمي مشروع التسوية بالمنطقة

الهدف الاستراتيجي
الترابط الذهني ما بين الاعتقال السياسي ورؤية السلطة الفلسطينية التي قامت عليها، تعزز الهدف الاستراتيجي لبقاء السلطة وأجهزتها الأمنية محطَّ اعتبار واهتمام لراسمي مشروع التسوية بالمنطقة، وهذا ما يمكن أن يفسره الحرص الشديد من الجهات الداعمة والممولة، وكذلك الجانب “الإسرائيلي” بعدم المساس بقوة القطاع الأمني للسلطة، بل على العكس فإن هذا القطاع يتم بذل مزيد من الجهود لتطويره أكثر تحت غطاء المهنية التي انعكست بشكلها الواضح على العقيدة الأمنية التي تقوم عليها.

إن هذه الرؤية تقودنا إلى طبيعة الهدف الاستراتيجي لوجود هذه الأجهزة، والذي يتمثل في إيجاد “البيئة السلمية” للإنسان الفلسطيني الذي يهتم بحياته اليومية، ولا يخرج إطار تفكيره عن توفير قوت يومة، دون إبداء أي اعتراض لما يعانيه جراء الاحتلال وممارساته من جانب، أو أي مواقف سياسية يتخذها من يرون في أنفسهم قادة القضية الفلسطينية ضمن مفهوم التسوية الشاملة.
 
الأهداف المرحلية
تحقيقا للهدف الاستراتيجي، فإن عمليات الاعتقال السياسي تؤسس لتحقيق جملة من الأهداف المرحلية المتمثلة في:

– حصر هم وتفكير المواطن بذاته وحياته اليومية وإغفال الواقع الذي يعيشه.

– تفكيك العلاقات الاجتماعية القائمة في بعدها على الهمّ الوطنيّ الذي غرسه وجود الاحتلال.

– تغيير في مفهوم الاحتلال والعلاقة به من عدوٍّ يمثل الخطر ويتوجب مقاومته، إلى جارٍ يمكن التعايش معه وفقا لبعض الأسس والاتفاقيات.

– تكريس مفهوم القيادة التي تهتم بالتأسيس للدولة، وبالتالي ضرورة عدم إشغالها بالقضايا الجانبية التي تعرقل هذه الجهود.

– إنهاء مفهوم قوة الحركات والأحزاب والتسليم بالقيادة السياسية صاحبة القرار الواحد.

المكاسب كما تراها السلطة
– تقديم براهين ومواقف عملية للأطراف الداعمة والممولة لمشروع التسوية، وهو ما يعزز برامج التمويل الممنوحة من كافة الأطراف.

– تغييب الروح والهمّ الوطنيّ، لو مرحليًّا، على حساب الهمّ الذاتيّ.

– تغييب البعد الاجتماعي القائم على التواصل، ومحاولة تفكيك النسيج الاجتماعي المعزز لمكانة الصف الوطني.

– إيجاد كيان سياسي تحت مسمى “دولة” من شأنه أن يضاف إلى قائمة “الإنجازات” المعتقدة في الساحة السياسية.

المكاسب كما يراها (الاحتلال والمجتمع الدولي)
– نزع مفهوم المقاومة المسلحة، واستبدالها بالاحتجاج السلميّ، أو النقد الكلاميّ ضد سياسات الاحتلال.

– تعميق الشرخ في الصف الوطني الفلسطيني، وتعزيز مفهوم الانقسام الداخلي بأشكاله المختلفه.

– توفير الغطاء الإداري الذي يخفف على الاحتلال أعباء إدارة الأراضي الفلسطينية التي كانت خاضعة له، وأصبحت تُدار اليوم من السلطة الفلسطينية.

– تمرير الكثير من الخطوات على الأرض؛ سواء ما يتعلق بمخططات التهويد والاستيطان، أو ترسيم لمستقبل الوجود الفلسطيني.

لا شك أن استراتيجية الاعتقال السياسي لا تتحق بذاتها إذا لم تأخذ بعين الاعتبار طبيعة المرحلية القائمة على إبقاء الخلاف السياسي الداخلي قائماً على الأقل في إطار توتير الأجواء النفسية أو المجتمعية

التأثير على المصالحة
لا شك أن استراتيجية الاعتقال السياسي لا تتحقق بذاتها إذا لم تأخذ بعين الاعتبار طبيعة المرحلية القائمة على إبقاء الخلاف السياسي الداخلي قائماً على الأقل في إطار توتير الأجواء النفسية أو المجتمعية، التي من شأنها الإبقاء على أي خطوة تقارُب نحو البرامج السياسية والتوافق تجاه تفعليها على الأرض مرهونًا بممارسات أجهزة أمن السلطة التي تعمد إلى تنفيذ عمليات الاعتقال سواء بتصعيدها تارة أو هدوئها تارة أخرى وفقا لما يتواءم وقراءتها للاحتياجات الظرفية. وهذا يشكل بُعداً مقلقاً على المصالحة وتطبيقها على الأرض من خلال:

– الإبقاء على حالة عدم الثقة شعبيا وجماهيرياً تجاه أي خطوة قد يتم التوافق حولها، وهو الشعور الذي بات يتولد لدى المواطن العادي عند الحديث عن توقيع اتفاق أو تفاهم في إطار المصالحة.

– تشكيل حالة من الضغط النفسي على أطراف المصالحة، وبالتالي عدم الرضا عن أي خطوات قد تعدّ “تنازلا” من طرف تجاه طرف آخر.

– زعزعة ثقة القواعد الحزبية بقياداتها، وهي محاولة لإثارة الخلافات داخل الصف الحزبي الواحد.

– الإبقاء على ثنائية القطبية في العلاقة الداخلية الفلسطينية بين التيارين الرئيسين (حماس وفتح)، وبالتالي تصوير البعد الداخلي الفلسطيني على أنه صراع أقطاب.

– استبعاد الوساطات العربية أو الإقليمية التي سعت في فترة ما إلى إنهاء حالة الانقسام وتحقيق المصالحة، وهذا كان واضحا في أعقاب سلسلة اتفاقات المصالحة التي وقعت في القاهرة ولقاءات الدوحة واليمن والسعودية وغيرها من الوساطات، وهو ما يحول ملف المصالحة إلى رهن لدى أطراف معينة يمكن أن تحركه في وقت ما أو توقفه في وقتٍ آخر.
 
التأثير على المقاومة
الانعكاس الآخر للاعتقال السياسي في بعده الاستراتيجي يتأتى في إطار “منظومة” مقاومة الاحتلال، وبشكل خاص في الضفة الغربية، التي من المفترض أن تشكل الخط الأول للمقاومة والبيئة الداعمة لها في كافة جوانبها الفعلية أو المؤسساتية. وينعكس هذا التأثير على أشكال عدة منها:

– إغلاق المؤسسات التي تعد حاضنة للمقاومة، سواء الخيرية أو الاجتماعية، أو الثقافية، أو الدعوية أو الإعلامية. وهذه الخطوة تحققت بشكلها الفعلي على الأرض، واستبدلت بمؤسسات تعزز من مفهوم “قبول الآخر” والتطبيع” و”التمويل المشروط” وغيره.

– إنهاك الروح النفسية للنشطاء السياسيين، والمقاومين؛ من خلال الاعتقال المتكرر والوقوف أمام تحقيقهم خطوات على الأرض، وهو ما يتمثل في حملات الاعتقال التي تطال طلبة الجامعات والناشطين السياسيين والمجتمعيين وبشكل متكرر، وبالتالي إنهاك حياتهم المجتمعية والعملية، وكذلك سدّ الطريق أمام الحصول على الوظائف، وغيرها من خطوات تؤثر على الروح النفسية لمن يتم استهدافهم.

– استهداف المقاومين، أو من يعرف نشاطهم المقاوم، وهو ما يجعل إقامة “مقارنة” فعلية ما بين ما يريده الاحتلال وما تسعى أجهزة السلطة لتحقيقه نيابة عن الاحتلال، وهو ما يتمثل بمفهوم “التنسيق الأمني”.

– تقزيم أثر الاحتلال على الإنسان الفلسطيني من احتلال يتوجب مقاومته، إلى احتلال يمكن أن يكون جزءًا طبيعيًّا من الحياة اليومية، وبالتالي إمكانية اقتحام المدن والاعتقالات الليلة للاحتلال، وإقامة الحواجز، وانتشار وعربدة المستوطنين، واستهدافهم للإنسان والأرض والمقدسات، كل ذلك أصبح جزءًا طبيعيًّا يتطلب التعايش معه، أو رفضه بأسلوب “سلمي” يتواءم مع الرؤية التي يقوم عليها مشروع التسوية.

سياسة الاعتقال السياسي القائمة على أبعاد عدة، يتوجب أن يتم التصدي لها برؤى واستراتيجيات تنبع من توافق رؤى، لا أن يتم التعامل معها بمنطق ردة الفعل

التوصيات
إن سياسة الاعتقال السياسي القائمة على أبعاد عدة، يتوجب أن يتم التصدي لها برؤى واستراتيجيات تنبع من توافق رؤى، لا أن يتم التعامل معها بمنطق ردة الفعل، وهذا يتطلب:

– استراتيجية وطنية جامعة ما بين المؤسسات والأحزاب والأطر بمختلف منابعها وبرامجها ترفض هذه السياسية، وهذا الرفض ليس ضمن القول وإنما في إطار الفعل على الأرض. ففي الوقت الذي ظهرت فيه هذه الاعتقالات لاستهداف لون سياسي معين، طالت في اليوم التالي لوناً آخر، ومن ثم طالت آخرين، حتى أصبح الهدف منها الفكرة والمبدأ، وليس اللون السياسي الإسلامي أو اليساري أو غيره.

– عدم التعاطي مع أي خطوات من شأنها شرعنة “سياسة الاعتقال السياسي”، كالقبول بمرحلية حلحلة الملف مقابل خطوات مرحلية على الأقل دون إيجاد ضمانات فعلية لتوقف هذه السياسة.

– تعزيز المؤسسات الإعلامية والثقافية والتربوية التي من شأنها أن تلعب دورًا في تعزيز ثقة الشارع الفلسطيني بمفهوم التحرير والمقاومة بهدف شحذ الهمة في النفوس.

– إيجاد قراءة قانونية حقوقية يمكنها أن تجرّم القائمين على ملف الاعتقال السياسي أمام الهيئات المحلية والدولية بهدف إيجاد رادع داخلي لرفض هذه السياسية داخل أفراد أجهزة أمن السلطة أنفسهم.

– عدم السماح لهذا الملف بالسيطرة على رؤية التحرير ودعم المقاومة بأشكالها المختلفة.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات