الأحد 01/سبتمبر/2024

عصفور الشمس الفلسطيني

عصفور الشمس الفلسطيني

عندما شنّت “إسرائيل” حملة لعبرنة أسماء الشوارع في القدس والمناطق المحتلة عام 48، كان رد بعض السياسيين فاتراً بل بارداً. آخرون رأوا أن الصراع يدور على الأرض ولا يتأثر بالرموز والمسمّيات.
صحيح أن بعض الفلسطينيين حذّروا مراراً من خطورة محاولات “الإسرائيليين” سرقة التراث الفلسطيني وإلصاقه بتاريخ مصطنع لهم، لكن هذا التعاطي بقي محصوراً في الإطار الشفوي واللحظي ارتباطاً بالمناسبة. ربما كان فلسطينيو المناطق المحتلة عام 48 سباقين في التنبيه لهذا التهويد الثقافي، وذلك بحكم وجودهم القسري على تماس مع الصهاينة ومؤسساتهم، حيث لاحظوا مثلاً أن بعض المطاعم “الإسرائيلية” تقدم الحمص والفلافل باعتبارهما أكلتين “إسرائيليتين”. ولاحظ المسافرون منهم أن المضيفات على طائرات شركة “إلعال” الصهيونية يرتدين الثوب المطرّز الفلسطيني باعتباره زياً “إسرائيلياً”.
لم يترك الصهاينة جبهة للطمس والتهويد إلا وحاربوا عليها. لذلك ليس غريباً أن ترى مستوطنين يضعون حجارة قديمة أمام مساكنهم، للترويج لها كجزء من تاريخهم المزعوم في فلسطين. وفي السياق ذاته تنبّه القرويون لمحاولات “إسرائيليين” قدّموا أنفسهم، بقصد التمويه وعدم إثارة الريبة، هواة تراث وتجاراً، وحاولوا شراء ما يسميها الفلسطينيون “أحجار البد” وهي عجلات حجرية ضخمة استخدموها لهرس ثمار الزيتون، قبل ظهور المعاصر الحديثة.
قبل بضعة شهور ابتكر الفنان الفلسطيني خالد جرار ختماً فلسطينياً فنياً وغير رسمي يحمل صورة “طائر الشمس الفلسطيني”، ليس لأنه طائر جميل وودود تم اكتشافه لأول مرة في فلسطين بشهادة علماء بيئة دوليين، بل لأن هذا الطير لم يسلم من محاولات التهويد، إذ يبذل علماء البيئة الصهاينة جهوداً مضنية لشطب اسمه الفلسطيني، واستبدال اسم الطير البرتقالي به مثلما فعلوا مع غزال الجبل وشجرة البطم وزهرة شقائق النعمان.
لعل مسيرة النضال الفلسطيني المعقّدة وسّعت مساحة الإبداع الفلسطيني بحيث باتت هناك حاجة للمزج بين المقاومة الهادئة ممثلة بالصمود والارتباط بالأرض ممثلاً بالتراث بأشكاله، والتاريخ وأسماء الأمكنة من جهة، والمقاومة الأكثر ثورية ممثّلة بالأشكال الشعبية والمسلّحة من جهة أخرى، ولم يعد هناك مجال لتبني شكل واحد على حساب الآخر، بل لتبديل الترتيب والأولويات تبعاً لتطورات الصراع، لكن جميع أشكال النضال تسير بشكل متواز في مسار تراكمي تاريخي.
لم تعد الحرب قعقعة سلاح فحسب، بل تحولت إلى مجموعة معارك متصلة تحدّد مجتمعة طبيعة الصراع “الإسرائيلي” الفلسطيني – بعض العربي، وفي هذا الصراع ينبغي على القلّة الباقية من المثقفين الفلسطينيين والعرب غير الملوّثين بفايروس التطبيع وعدوى التغريب والأطلسة، أن يشحذوا أقلامهم وريشاتهم وأدوات المعرفة الفاعلة، لحماية الهوية الفلسطينية والعربية من التهويد والتجويف والقضم التدريجي، وأن يحذروا من الطلاء الجميل الذي يخفي لغة ثقافية وإبداعية مشبوهة ومشوّهة يجري توظيفها صهيونياً وإمبريالياً لتمرير مشروع لتحويل طائر الشمس الفلسطيني إلى عصفور مدجّن في غرف العار “الإسرائيلية”.
[email protected]
صحيفة الخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات