الإثنين 13/مايو/2024

عرض كتاب: النهوض الماليزي: قراءة في الخلفيات ومعالم التطور الاقتصادي

عرض كتاب: النهوض الماليزي: قراءة في الخلفيات ومعالم التطور الاقتصادي
كثيرًا ما نشير في أحاديثنا في التنمية البشرية والتطور الاقتصادي والصناعي إلى “النمور الآسيوية”، ومنها ماليزيا التي شكّلت تجربتها نموذجًا فريدًا من نوعه يستحق النظرة المتأملة الفاحصة، وهذا ما يسعى المؤلف إلى تحقيقه من خلال سردٍ تاريخي لتشكّل الدولة الماليزية، وتحليلٍ للملامح السياسية والاجتماعية والتعليمية والاقتصادية التي وضعتها في قمة العالم الإسلامي، وأخيرًا صياغة توصيات للدول العربية والإسلامية من وحي التجربة الماليزية. وما يضفي على الكتاب موثوقية ومصداقية كون المؤلف متخصصًا في التاريخ الحديث، ومهتمًا بماليزيا وجنوب شرق آسيا حيث كان يقيم ويدرّس لسنواتٍ عديدة. تُرى كيف استطاعت ماليزيا أن تقلل نسبة الفقر من حوالي 50% عام 1970 إلى 5.1% عام 2002؟
معلومات النشر:
عنوان الكتاب: النهوض الماليزي: قراءة في الخلفيات ومعالم التطور الاقتصادي.
المؤلف: د. محسن صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
إصدار: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.
سنة الإصدار: 2008.
 
ما تكشفه لنا هذه الدراسة هو أنّ أحد أسباب تقدم ماليزيا ونجاحها هو تحقيق معادلة التعايش العرقي والديني، فماليزيا تتكون من الملايو (أبناء البلد الأصليين) والصينيين والهنود، ومنهم المسلمون والبوذيون والهندوسيون والمسيحيون والسيخ والطاويون والكونفوشيون. وتشير الدراسة إلى أنه في بدايات الدولة كان الصينيون هم المسيطرون على الاقتصاد والتجارة، بينما يعيش الملايو في فقرٍ وجهل، فما كان من دولة ماليزيا إلا أن عملت على تمكين الملايو ومنحهم المزايا والحوافز الاقتصادية والتعليمية لتأهيلهم تأهيلا يضمن مشاركتهم في ثروات بلادهم. وفي الوقت نفسه حرصت الدولة على عدم ظلم الصينيين والهنود، فمنحتهم المواطنة الكاملة وسمحت لهم بالحفاظ على عاداتهم ولغاتهم. ومن السياسات الذكية التي طبقتها ماليزيا العمل على إنعاش الاقتصاد حتى تتزايد الثروة فيزيد نصيب كل شريحة من المجتمع، بدلا من تقسيم ما هو موجود وتصغير الحصص. إذن فقد فهمت ماليزيا أنه من أجل تحقيق التنمية والازدهار لا بد من الاستقرار الاجتماعي، إلا أن هذا الاستقرار لا بدّ أن يدعمه نظام حكمٍ وقيادة سياسية واعية وهذا ما نجده في تجربة ماليزيا الملكية الدستورية التي تتبع نظامًا فيدراليًا مركزيًا يرأسه رئيس الوزراء الذي يتمتع بصلاحيات واسعة أكبر من الملك نفسه. والملك الماليزي حقيقة مثل ملكة بريطانيا، يملك ولا يحكم، بل إنه في ماليزيا لا توجد للملك حصانة ويُمكن أن يُقدم للمحاكمة.
ومن أكثر أقسام الدراسة إثارة للانتباه حديث المؤلف عن قطاع التعليم والتدريب في ماليزيا، مشيرًا إلى كونه أحد أهمّ الأسباب التي مكّنت ماليزيا من النهوض، وسيجد القارئ أرقامًا ومعلومات مذهلة في هذا الشأن؛ فيكفي أن نعرف بأن ماليزيا تخصص 20-25% من ميزانيتها السنوية للتعليم والتدريب، وهذه النسبة من أكبر النسب على مستوى العالم. كما يذكر لنا المؤلف كيف عملت ماليزيا على تحويل الملايو من شعبٍ زراعي محدود التعليم إلى شعبٍ مدني متقدم، وذلك بمحو الأمية والاهتمام بالتعليم والإنفاق السخي على التدريب والبعثات الدراسية. وقد يُدهشك عزيزي القارئ كما أدهشني جدًا أنّ ماليزيا تُنفق على التعليم ثلاثة أضعاف ما تنفقه على الجيش والدفاع-نعم، ثلاثة أضعاف!
وفي قسمٍ آخر يتحدث المؤلف عن جهاز الخدمة المدنية في ماليزيا، والذي يتميز بوجود “دليل الإجراءات” الذي يحدد بدقة “مجموعة من الإجراءات التي يجب اتخاذها لتنفيذ أي عمل، والزمن الذي يستغرقه ذلك، وصلاحيات الموظفين. فإذا لم يقم الموظف بما حدد له بدقة وضمن الزمن المحدد يُستنتج أنه فاسد، وبالتالي سيحاسب” (ص50). إضافة إلى ذلك فقد عملت ماليزيا على تقليل الإجراءات الإدراية إلى أدنى حد، وذلك باستخدام نظام “إنهاء المعاملة بإجراء واحد” سعيًا إلى قتل الروتين الإداري، كما اهتمت الدولة بالانضباط الإداري المتمثل في توقيع الموظفين في وقت دخولهم وخروجهم من العمل، ولا يُستثنى من ذلك أحد حتى رئيس الوزراء. وفوق ذلك كله توجد وكالة مخصصة لمكافحة الفساد الإداري، وقد مضت ماليزيا في هذا الاتجاه إلى حدّ افتتاح “أكاديمية مكافحة الفساد” عام 2005 لتأهيل الموظفين في هذه الوكالة وتدريبهم على تقصي الحقائق والمراقبة والتحقيق. وتجدر بنا الإشارة إلى أنّ المؤلف لا يبالغ في مدح التجربة الماليزية، بل يورد أمثلة على الثغرات الموجودة في النظام الإداري، وبعض التجاوزات الشهيرة التي حدثت في ماليزيا.
ومن الإشارات الذكية في الدراسة ما قاله المؤلف عن عاملٍ مهم ساعد ماليزيا على تحقيق التنمية والازدهار، ألا وهو وجودها “بعيدة عن بؤر الصراع الساخنة” (ص54)، فهي بعيدة عن المنطقة النفطية التي اجتذبت مختلف أنواع النزاعات والأطماع، وبعيدة عن الصراع العربي-الإسرائيلي. وإلى جانب ذلك تنتهج ماليزيا سياسية داخلية ديمقراطية معتدلة، وسياسة خارجية تحرص على إبقاء العلاقات مع دول الجوار في أفضل حال. ويشير المؤلف إلى الرؤية البراجماتية لماليزيا حيث توجّه علاقاتها بما يتفق مع صالح الدولة اقتصاديًا، ولذلك نجد ماليزيا قد تحالفت مع الولايات المتحدة بقوة في حربها على الإرهاب، فأمريكا هي الشريك التجاري الأكبر لماليزيا.
أما أفضل أجزاء الكتاب فذلك الذي يتحدث بالتفصيل عن ملامح التطور الاقتصادي الماليزي، فيذهلك بالإحصائيات والأرقام التي تكشف ذكاء القيادة السياسية والاقتصادية في ماليزيا (مثلا، تقل نسبة الفقر عن 5.1% ونسبة البطالة عن 3.5%). يذكر لنا المؤلف كيف أن ماليزيا كانت الدولة الأولى في العالم الإسلامي بأكمله عام 2005 فيما يتعلق بحجم الصادرات والواردات، إضافة إلى عدم اعتمادها على مصدر واحد، بل راحت تستثمر في الصناعة والسياحة والأخشاب والتعدين والنفط والزراعة. كل ذلك لم يأتِ من فراغ بطبيعة الحال، فهناك خطط تنموية كبرى سارت عليها ماليزيا منذ عام 1971، فالخطة التنموية الأولى (1971-1990) كانت تهدف إلى خفض معدل الفقر تدريجيا حتى القضاء عليه، وذلك بزيادة معدل الدخل وإيجاد فرص عمل أكثر لجميع الماليزيين، كما هدفت إلى إحلال التوازن الاقتصادي في المجتمع كي يسود الاستقرار. ويقول المؤلف أن ماليزيا ما كانت لتحقق ذلك “لولا إعادة هيكلة السياسة التعليمية بحيث تعطى أولوية خاصة للملايو” (ص70). أما الخطة التنموية الثانية (1991-2000) فكانت استمرارًا للخطة الأولى في القضاء على الفقر وإعادة بناء المجتمع بحيث يستفيد الجميع من ثروة البلد بشكل عادل، إلا أنها هذه المرة ركزت كثيرًا على التنمية البشرية وخلق ثقافة عمل تتميز بالمهارة والانضباط. وأما الخطة الثالثة (2000-2010) فزادت من التركيز على التنمية البشرية والبحث العلمي.
ومن المثير أن نعرف بأنّ هناك سياسات عامة للبلد-إضافة إلى الخطط التنموية- ضمنت سير عملية التنمية بثبات، فهناك مثلا “سياسة النظر شرقًا” والتي قدّمها (مهاتير محمد) عام 1982 حين حثّ على الاحتذاء بثقافة العمل اليابانية والكورية. وأطلق مهاتير محمد أيضًا حملتي “نظيف وفعال وموثوق” و “القيادة من خلال القدوة” اللتين تركزان على نماذج في القيم الإيجابية والأخلاق العملية العالية يجب أن يُحتذى بها. وهناك سياسة التوجه إلى الأسواق الخارجية “سوجوشوشا ماليزيا” و سياسة “ماليزيا المتحدة” التي قدّمها مهاتير محمد أيضًا وتحث على أن يشترك القطاعان العام والخاص في التنمية بوصفهما شريكين لا متنافسين، وهناك سياسة الخصخصة، و “الخطة الصناعية الكبرى” التي هدفت إلى تحويل ماليزيا إلى بلدٍ صناعي من خلال الاهتمام بصناعة المطاط والأخشاب والمعادن والإلكترونيات ومعدات النقل والأقمشة والمواد الكيماوية وغيرها، وأخيرًا “رؤية 2020” التي اقترحها مهاتير محمد بهدف تحويل ماليزيا إلى دولة صناعية متقدمة لا نامية بحلول عام 2020. وعندما ننظر في تفاصيل المقترح الذي قدّمه مهاتير محمد نجده مقترحًا ذكيًا يركز على وضع أساس متين لا تسير التنمية من دونه، وذلك ببناء مجتمع مستقر موحّد ديمقراطي، متمسك بالقيم والأخلاق، منفتح ومتسامح مع الثقافات الأخرى، علمي متقدم، متراحم متكافل وعادل.
أختتم مقالي بثلاث دعوات: أدعوك عزيزي القارئ إلى قراءة هذا الكتاب الممتع المفيد للاطلاع على مظاهر التجربة الماليزية بحسناتها الكثيرة وعثراتها التي لا بدّ منها (مع العلم أنها دراسة قصيرة لن تغنيك عن التعمق أكثر في مصادر أخرى)، وأدعوك أيضًا إلى قراءة الدراسات المميزة الأخرى في نفس السلسلة، وأدعو “القارئ المسؤول” في هذا البلد إلى النظر جديًا في زيادة الاهتمام بالتعليم والتدريب، فكلما سألنا عن بلدٍ كيف نهضتم قالوا: بالاهتمام بالتعليم.
المصدر: جريدة عمان، ملحق شرفات، 3/5/2010 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

مواجهات عقب هجوم للمستوطنين جنوب نابلس

مواجهات عقب هجوم للمستوطنين جنوب نابلس

نابلس – المركز الفلسطيني للإعلام اندلعت مساء اليوم الاحد، مواجهات بين المواطنين والمستوطنين وقوات الاحتلال في بلدة قصرة جنوب شرق نابلس....