السبت 27/يوليو/2024

محطات مضيئة في منهج التغيير عند الشهيد الإمام أحمد ياسين (4)

د. نافذ سليمان

تابع للمحور الأول : مؤهلات قيادة التغيير

5-الذكاء والفطنة واستشراف المستقبل :

 لابد لقائد التغيير أن يتمتع بهذه الصفات ، ليتمكن من فهم الأمور على حقيقتها ، والقدرة على الاستنباط الصحيح ، ومن ثم القدرة على التخطيط المستقبلي ، والاستعداد للمفاجآت ، وصناعة الحدث بدل اللهث وراءه.

والمتتبع لحياة الشيخ يجد لديه قدرات عظيمة في الذكاء والفطنة وعمق في النظرة المستقبلية ، ومن ذلك ما قاله له أحد تلاميذه ” لا أنس يوم فكرت في بناء المجمع الإسلامي ، فجئتك لائماً أن كيف يا شيخنا تبذل المال والجهد في الصحراء ، إن المكان بعيد حقاً ، وليس حوله أناس ، فقلت لي قولتك : “اصبر وسترى” وقد رأيت”[1] ، فقد أصبح المجمع الإسلامي الواقع في أطراف مدينة غزة في جورة الشمس أشهر مكان في غزة يؤمه تلاميذ الشيخ والإعلاميون والساسة والجماهير.

كذلك عندما اقترح عليه بعض مساعديه أن يدعو الوجهاء لحضور احتفال افتتاح مدرسة المجمع الإسلامي رحب بالفكرة لكنه قال : إن هؤلاء عادة لا يأتون إلى دعوة مبتدئة وضعيفة ، لا يوجد فيها من البريق ما يجذبهم ، ولكنهم سيأتون فقط عندما يكثر عددكم وتنجح مؤسستكم[2]، وهذا ما حدث بالفعل فقد جاء فيما بعد إلى هذا المكان “خافيير سولانا” منسق السياسة الخارجية الأوربية[3] ، والسفير المصري ، والرئيس عرفات وغيرهم من ذوي الشأن.

ومما يدل على بعد نظر الشيخ واستشرافه للمستقبل السياسي، أنه لما حدثت حرب 1973 دعا الشيخ وقال: اللهم اجعلها حرب تحرير لا استجداء للسلام ، فقال له أخوه : لماذا تفبرك الأمور هكذا؟ ، قال : أنا أدعو فقط [4] ، وبالفعل قام السادات بعد الحرب بعدة سنوات بزيارة إسرائيل وتوقيع معاهدة كامب ديفيد معها.

إن الشيخ رجل مؤمن ينظر بنور الله ، أعطاه الله فراسة المؤمن التي قال فيها النبي

( صلى الله عليه وسلم) ” “اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل”[5].

وعن توقعاته نحو المستقبل في وقتها قال الشيخ عساف : وقتها كان يقول لنا إن “حماس” ستواجه صعوبات جمة لأنها ستعمل على الموافقة بين نقيضين الأول حقن الدم الفلسطيني والثاني الاستمرار في المقاومة وضرب الاحتلال ،حيث إن الاستمرار في المقاومة يدفع السلطة إلى منعنا من ذلك ، وبعد عام فقط تحققت تصورات الشيخ ياسين حيث لجأت السلطة إلى اعتقال  أفراد الحركة في خطوة شملت الضفة الغربية والقطاع إلا أن الحركة حافظت على حقن الدماء ومنع الاقتتال الداخلي وتجاوزت المحنة بسلام.[6]

6-   القدرة على التأثير في الآخرين وإقناعهم:

إن التأثير في الآخرين من أهم مميزات القيادة الناجحة، فالقيادة تقوم على المحبة والثقة التي يوليها الأفراد لقيادتهم ، بحيث يستجيبون لها دون تردد ، وتجعلهم يتنازلون عن آرائهم لرأي القيادة عن محبة واقتناع لا سطوة وخوف.

وكان هذا شأن الشيخ المجاهد أحمد ياسين ، ففي مقابلة له مع منسق السياسة الخارجية الأوربية “خافيير سولانا” ، طلب من الشيخ تجنب قتل المدنيين الإسرائيليين ، فقال له الشيخ: كم مدنيا يهوديا قتلوا ؟ فقال : حوالي سبعين ، فقال الشيخ : أنتم رأيتم السبعين يهودياً وما رأيتم الأربعمائة فلسطيني الذين قتلوا ؟ تستنكرون السبعين ولا تستنكرون الأربعمائة ، لماذا لا تكونون متوازنين؟ فقال سولانا : اليهود مسيطرون على الإعلام في الغرب.. أي انه اقتنع بكلام الشيخ بدليل أنه لام الإعلام الغربي الذي يحركه اليهود كما يشاءون[7].

يقول الدكتور الرنتيسي – رحمه الله- عن الشيخ ” إن الشيخ أحمد ياسين عندما تتعامل معه تجد أنه يملك عقلية فذة ، وقدرة على التحليل واستنباط الأمور ، ولا يتكلم الكلام إلا بعد تفهم واعٍ، فلا يندفع في الكلام اندفاعاً على الإطلاق ، ولكنه يتأنى حتى يصل إلى صلب الموضوع الذي يتحدث فيه ، ويأتي حديثه مركزاً صائباً تماماً ، بصراحة كنت دائماً إذا سمعت لرأيه أحسست بخطأ رأيي ..إن لدى الشيخ قدرة على التأثير في الغير عجيبة جداً ، والتعامل مع الشيخ أحمد يعطي المتعامل شحنة من حيث لا يدري فربما يصل إليه متكاسل عن العمل ، فيخرج نشيطاً من عنده أو يصل إليه مهزوماً نفسياً فيخرج بعزيمة وبقوة عجيبة ، ويأتي المرء أحياناً ولديه مشكلة يعتقد أن حلها مستحيلاً ، ولكن الشيخ يستطيع بعد مناقشة قصيرة معه أن يجعلها مبسطة ، وهو في ذلك كله يعتمد على ذكاء وحسن تقديره وخبرته الطويلة وذاكرته القوية”[8].

7- الصبر وتحمل الصعاب:

لقد عاش الشيخ أحمد ياسين حياة مليئة بألوان المرض والسجون والعذاب وضنك العيش ، فقد عاش يتيماً وهو في سن الثالثة من عمره ،وعاش النكبة التي ألمت بفلسطين وشردت أهلها عام 1948 فلم تستثن هذا الطفل الصغير فأجبرته على الهجرة بصحبة أهله إلى غزة، وهناك تغيرت الأحوال وعانت الأسرة -شأنهاشأن معظم المهاجرين آنذاك- مرارة الفقر والجوع والحرمان، فكان يذهب إلى معسكرات الجيش المصري مع بعض أقرانه لأخذ ما يزيد عن حاجة الجنود ليطعموا به أهليهم وذويهم،وترك الدراسة لمدة عام (1949-1950) ليعين أسرته المكونة من سبعة أفراد عن طريقالعمل في أحد مطاعم الفول في غزة، ثم عاود الدراسة مرة أخرى[9].

– وكان الشيخ أحمد ياسين موسوعة للأمراض فبالإضافة إلى إصابته بالشلل التام، فإنه عانى من أمراض عدة منها (فقدان البصر في العين اليمنى بعد ضربه عليها أثناء التحقيق وضعف شديد في قدرة الإبصار للعين اليسرى، التهاب مزمن بالأذن، حساسية في الرئتين، أمراض والتهابات باطنية ومعوية).

أما قصته مع السجون فقد بدأت مبكرة حين سجنته المخابرات المصرية عام 1966 لمدة شهر بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم في القاهرة مع من اعتقل معه من الإخوان المسلمين.[10]

–  وفي عام 1983 اعتقلته السلطات الصهيونية على خلفية تخزين أسلحة لتدمير دولة إسرائيل ، وأصدرت عليه حكماً بالسجن لمدة 13 عاماً .ثم أفرج عنه عام 1985 في إطار عملية تبادلللأسرى بين سلطات الاحتلال والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة-، بعد أنأمضى 11 شهراً في السجن.

–  في ليلة 18/5/1989 قامت سلطات الاحتلال باعتقال الشيخ أحمد ياسين مع المئات منأبناء حركة “حماس” وأصدرت محكمة عسكرية صهيونية حكماً بالسجن مدى الحياة مضافاً إليه خمسة عشر عاماً، بعدأن وجهت للشيخ لائحة اتهام تتضمن تسعة بنود منها التحريض على اختطاف وقتل جنود صهاينةوتأسيس حركة “حماس” وجهازيها العسكري والأمني.. ثم  أفرج عنه فجر يوم الأربعاء 1/10/1997 بعد ثماني سنوات ونصف تقريباً ، بموجب اتفاق جرى التوصل إليه بين الأردنوإسرائيل للإفراج عن الشيخ مقابل تسليم عميلين صهيونيين اعتقلا في الأردن عقبمحاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها مسئول حماس “خالد مشعل” . .

–  وفي أعقاب إحدى عمليات التفجير القوية التي نفذتها حركة حماس في قطاع غزة في شهر أكتوبر 1998، فرضت السلطة الفلسطينية الإقامة الجبرية على الشيخ أحمد ياسين،ثم رفعتها عنه بسبب الضغط الجماهيري.

–  أمام كل هذه المعاناة تظهر قوة صلابة هذا الرجل، فلم يتأفف يوماً ولم يضجر لحظة، -صمود قلما سطر التاريخ مثله -هكذا قال أبو محمود : في حياتي كلها لم أجد شخصاً مثله، لم أسمعه يوماً يتأفف أو يضجر برغم المعاناة القاسية ، كنا نحن الأصحاء نعاني كثيراً بسبب السجن والغربة والعزلة والمعاناة النفسية والفراق ..كنا نشتاق إلى أهلنا ونمل من هذا السجن المعزول الذي لا يوجد فيه سوانا نحن الثلاثة، وكان الشيخ حقيقة قاموساً من الأمراض، وأذكر أنني يوماً كتبت على ورقة ما يعاني من أمراض فوجدت أن الشيء الوحيد السليم فيه هو أسنانه!!

–  وعلى رغم كل هذا لم أسمعه يوماً يشكو السجن أبداً، مع أنني عايشت آلاف الأسرى طوال سنوات سجني العشرة وكانوا جميعاً يتألمون ويضجرون ، لم أجد صخرة مثل الشيخ أحمد ياسين كان ذلك بعد معايشتي له عن قرب وبمعدل 24 ساعة في اليوم . لم أجد يوماً في هذا الرجل ذرة ضعف واحدة برغم كل أمراضه ومعاناته، ولما سئل كيف كان يتغلب على آلامه؟.- (أجاب بسرعة، و بحدة..) بالصبر أخي .. كنا نأخذ نحن الشباب الأصحاء منه العزيمة، من نظرة واحدة يزودنا بعزيمة تكفينا 3 سنوات، كما نقول لأنفسنا حينما تضيق بنا الدنيا انظر إلى هذا الرجل القعيد المريض لا يتأفف ولا يضجر صابراً صامداً فنخجل من أنفسنا[11].



[1]المرجع السابق :45

[2]عدوان : مرجع سابق ، 105

[3]مقابلات خاصة مع الشيخ غير منشورة.

[4]شماخ،عامر: الشيخ أحمد ياسين شهيد ايقظ أمة ، 60

[5]رواه البخاري في التاريخ، والترمذي عن أبي سعيد الحكيم، والطبراني في الكبير، وابن عدي عن أبي أمامة بن جرير عن ابن عمر.

[6]arabic/spfiles/yaseen2/wamadat.htm

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات