الإثنين 12/مايو/2025

عناصر الأجهزة الأمنية في الضفة .. انهيارات وراء الأقنعة السوداء

عناصر الأجهزة الأمنية في الضفة .. انهيارات وراء الأقنعة السوداء

مهتمهم باتت واضحة تماماً، وهي لم تعد محصورة في تعليمات شفوية أو مكتوبة يتم التكتم عليها، طالما أنّ التصريح بها يجري إعلامياً عبر المنابر الناطقة بكل اللغات، وأولها العبرية.

إنهم عناصر الأجهزة الأمنية الخاضعة لإمرة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. هم لا يعملون تحت علم فلسطين وصور عباس المنتشرة بكثافة وحسب؛ بل وتحت العلم الصهيوني ولافتات “تساحال” (جيش الاحتلال) التي يمرّون عبرها بتسهيلات وفيرة تمنحها لهم مئات الحواجز العسكرية التي يرابط عندها جنود صهاينة في مثل أعمارهم.

وجد هؤلاء أنفسهم في حالة بائسة، فالمهام التي ينبغي عليهم القيام بها بشكل متزايد هي التنسيق الميداني مع سلطات الاحتلال. عليك أن تقتحم منزلاً أو مكتباً أو حتى مسجداً في النهار، ريثما يقوم جنود صهاينة بتكرار المشهد ذاته وبحق الأهداف ذاتها في ساعات الليل المتأخرة والفجر.

مهام متزايدة يتعاقب عليها هؤلاء مع جنود الاحتلال، بينما تخوض قيادات الأجهزة سيئة السمعة اتصالات مكثفة ولقاءات متواصلة مع قادة أجهزة الاحتلال، وذلك تحت شعار فضفاض عنوانه التنسيق الأمني، وضمن جدول أعمال محدد يتمثل في الوكالة الأمنية عن الاحتلال في استئصال المقاومة وملاحقة المقاومين ومحاولة الإجهاز على حركة “حماس” المتجذرة في المجتمع الفلسطيني، أو هي المهمة المسماة بلغة الدبلوماسية “تنفيذ المرحلة الأولى من خارطة الطريق”.

الهروب إلى الأقنعة السوداء

ول أنّ هؤلاء قبل كل شيء شبان فلسطينيون وجدوا أنفسهم في المستنقع الآسن، واكتشفوا أنّ مهمتهم هي الشراكة في الميدان مع قوات الاحتلال وتعقب الأهداف ذاتها؛ فإنّ الحالة المعنوية للمنخرطين في الأجهزة الأمنية تتردّى وتتفاقم، وتشهد تفاعلات متناقضة مع الذات، وسط مخاوف وحيرة تعبِّر عن ذاتها في النزوع إلى تغطية الوجوه بأقنعة سوداء كي يتوارى أولئك المجندون خجلاً من مجتمعهم ومواطنيهم وأهاليهم.

إنها حياة مزدوجة يمارسونها، بالقناع وبدونه، ويتحاشون بين ذويهم الإفصاح عن المهام القذرة الموكلة إليهم.

ولم يكن العنصر “ز” من عناصر جهاز “الأمن الوطني” التابع لعباس في مدينة قلقيلية، يعلم أنه سيتعرّض إلى هذا الموقف العصيب الذي ألقى بظلاله على نفسيته المتوترة منذ ذلك الوقت. حيث يروي “ز” ما جرى قبل عدة أيام عندما كان يقف عند حاجز عسكري لجهازه في موقع “صوفين” شرقي قلقيلية، والذي يبعد عن حاجز الاحتلال العسكري قرابة ثلاثمائة متر فقط؛ بالقول “فوجئت أنا ومن معي من عناصر وضباط الأمن الوطني بقدوم دوريات جيش الاحتلال وهي تدخل قلقيلية عند الثانية ظهراً، دون أن يكون هناك تنسيق مسبق كالعادة. وعندما اقتربوا منا أدرنا ظهورنا إليهم ومعنا أسلحتنا، بعد أن أمرنا الضابط بذلك حتى لا نتعرّض إلى معاقبة جيش الاحتلال بإطلاق النار علينا وقتلنا جميعاً إذا كانت الأسلحة التي نحملها باتجاه الجنود”.

الأوامر المهينة

ويستطرد العنصر الذي عبّر عما يعتمل في دواخله من مشاعر المهانة قائلاً “على الفور جاءتنا الأوامر عبر جهاز اللاسلكي بإزالة الحاجز والعودة إلى المقرّات الأمنية فوراً، لأنّ جيش الاحتلال دخل المدينة وهناك قد يكون إخطار على عناصر الأجهزة الأمنية التي تحمل سلاح الكلاشينكوف”.

ويصف “ز” مشاعره قائلاً “عندها أيقنت أنّ حياتنا كلها ذل وليس فيها أي كرامة أو عزّة، فنحن نعمل لصالح الاحتلال ونريحه من مهمات كانت ملقاة على عاتقه”، كما يقول بلسان ضميره.

ويتابع شرح معايشته على إثر ذلك “فكّرت مليّاً في ترك العمل في الأجهزة الأمنية، لأننا نعمل ضد أهلنا ونخدم الاحتلال الذي يطارد المقاومين في كل مكان”، ويفصح عن معنوياته فيقول “إنني أشعر بالمهانة دائماً”.

هي مهانة لا تأتي من فراغ، خاصة وأنّ الأوامر التي تُعطيها أجهزة عباس لعناصرها في حال المواجهة المفاجئة؛ تتمثل في رفع فوهة السلاح إلى الأعلى، بحيث لا تكون الفوهة باتجاه قوات الاحتلال.

من داخل قلاع “التأهيل” لخدمة الاحتلال

ولأنّ الذي يطلبه قادة الأجهزة هو ابتلاع الأوامر وأن لا تنتاب مشاعر كهذه أمثال هذا المجند الفلسطيني الذي وجد نفسه في المعسكر الخاطئ قبالة مواطنيه الواقعين تحت الاحتلال؛ فإنّ العمل جارٍ على قدم وساق في “تأهيل” صفوف جديدة من عناصر الأجهزة على التكيف مع استحقاقات خدمة شركاء المرحلة على الجانب الآخر.

هذا يجري مثلاً بشكل فاضح في مقرّ يتعاقب عليه بعض قادة الاحتلال وضباط أمريكيون في أريحا، تنتصب في واجهته لافتة مكتوب عليها “الأكاديمية الفلسطينية للعلوم الأمنية”. إنها قلعة لتلقين العناصر الجدد أساليب الخدمة الميدانية لجيش الاحتلال والتنسيق الأمني مع الأجهزة الصهيونية. لهذا الغرض تماماً يجري التركيز على تعليم الجميع اللغة العبرية في هذه المنشأة التي موّلها الأمريكيون حسب تعليمات منسقهم للتقريب بين أجهزة الاحتلال وأجهزة رئاسة السلطة، كيث دايتون.

وكما يشرح لمراسل “المركز الفلسطيني للإعلام”، مصدر رفض الإفصاح عن اسمه من داخل هذا المقرّ الذي تفيض منه الشبهات وتتفاعل بشأنه الروايات، فإنّ اللغة العبرية مطلوبة للغاية، و”قادة أجهزة الأمن الفلسطينية في أمسّ الحاجة إليها، لأنّ المشكلة ليست في قادة الأجهزة الذين لديهم خطوط سالكة مع المسؤولين الإسرائيليين في الأمن والجيش، بل المشكلة هي في الضباط الصغار في الميدان والمجندين الذين لا يتمكنون من الحديث مع الجانب الآخر (الصهيوني) عبر اللاسلكي أو أجهزة الاتصال أو في اللقاءات الميدانية في أي نقطة ارتباط”.

ويشكو ذلك المسؤول الأمني من أنّ “مشكلة اللغة هذه تعني أنّ الاتصال المتبادل قد يساء فهمه، وأنّ التنسيق قد يكون وخيم العواقب إذا لم يحصل التفاهم”، ولهذا يجري “تدريب الجميع هنا على العبرية في دورات متخصصة وتركز على الاستعمالات والمفردات الأمنية”، حسب قوله.

الخشية من وصمة “جيش لحد”

وبينما تتفاعل برامج التهيئة لانخراط الملتحقين الجديد أو من يجري “تأهيلهم” من زملائهم القدامى في التكيف مع استحقاقات التنسيق الأمني، فإنّ آخرين في الميدان يتجرّعون مرارته في حلوقهم ويمضون صامتين، خشية أن تلحقهم وصمة “جيش لحد” (قوات العملاء في الجنوب اللبناني المحتل سابقاً). لكنّ بعضهم يهمس في الآذان عن معايشاته الأليمة، مثل ما فعل أحد عناصر الشرطة في قلقيلية وهو يقول “عندما تأتينا الأوامر بالانسحاب فوراً من الشوارع نعلم أنّ جيش الاحتلال سيدخل المدينة”.

ويراقب الفلسطينيون هذه السوابق التي تثير الأسى لديهم، مثل أحد المواطنين في قلقيلية الذي يقول في هذا الصدد “عندما لا أشاهد أفراد الشرطة وعناصر الأمن الوطني في منطقة السوق المركزي؛ أعلم أنّ جيش الاحتلال سيدخل المدينة، لذا أقوم على الفور بمغادرة المكان خوفاً من مقابلتهم والالتقاء بهم”، أي جيش الاحتلال.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات