جنين: مدينة لها تاريخ .. وحاضر له جذور ضاربة في الأعماق

تتميّز مدينة جنين عبر تاريخها المتعاقب، بمعالمها التراثية وصورها الفنية والمعمارية الرائعة، حيث تحكي هذه المعالم قصصاً عن حضارات تعاقبت على تعمير المدينة وبنائها، بالإضافة الى مناجاتها لأقوام كثر تتابعوا على توطين أنفسهم والزجّ بتراثهم وتاريخهم وثقافاتهم المتنوعة بأتون المدينة وترابها.
هنا ينتصب المسجد الكبير في المدينة، وإلى جانبه مدرسة فاطمة خاتون، مثالين يُقتدى بهما في سبيل تأريخ العصور السابقة التي توالت على المدينة.
ولم تكتف المدينة بتميّزها التاريخي والمعماري والتراثي فقط، بل امتد عضد المدينة إلى أوسع من ذلك، لتشمل التضحيات الجسام التي قدمها أهالي جنين عبر التاريخ. ولم تنأ المدينة بنفسها عن باقي أرجاء فلسطين، لا سيما على الصعيد الاقتصادي، فها هي جنين تتقدم في مد المواطنين الفلسطينيين بما يحتاجونه من منتوجات غذائية وزراعية مختلفة، حتى سماها بعضهم سلة فلسطين الغذائية، وذلك لوجود سهل مرج بن عامر فيها.
مرج بن عامر.. سلة خبز فلسطين
سهل مرج بن عامر، ينتهي في فضاء جنين وجبال نابلس، وتقع معظم مناطق جنين الجغرافية فيه. والسهل المرج يشبه في هيئته مثلثاً قاعدته تبتدئ من سفوح جبال الكرمل عند تل القسّيس، إلى شرقي جنين وطوله نحو 46 كم.
ويُعتبر سهل مرج بن عامر سلة خبز فلسطين لملائمته إنتاج الحبوب، وكان السهل طريقاً عظيماً للأمم، فالفاتحون والغزاة مرّوا من أوديته كنهر المقطّع وممر مجدو وممر جنين (سهل عرابة). وسماه الكنعانيون بإسم سهل يزرعيل، نسبة الى بلدة يزرعيل “زرعين”، ودعاه يوسيفوس باسم السهل الكبير، وعرفه الرومان باسم سهل اللجون، وسماه العرب بمرج بني عامر نسبة الى بني عامر من كلب العرب القحطانية، وسبب تسميته بهذا الاسم تعود إلى عامر الأكبر بن عوف الكلبي، جدّ الصحابي دحيّة الكلبي المدفون في “الدحيّ” أحدى قرى المرج.
جنين .. والمسيح عليه السلام
وتُعتبر مدينة جنين إحدى أهم المناطق التي يتشكل منها سهل مرج بن عامر، حيث ازدادت المساحة الفعلية لحجم المدينة بعشرات أضعافها في الوقت الحالي مما كان عليه في السنوات السابقة.
وتقع مدينة جنين على خط عرض 32،27 شمالاً وعلى خط طول 35،18 شرق غرب، وترتفع المدينة عن سطح البحر من 125 إلى 250 متراً.
ومن المعروف أنّ البقعة الجغرافية التي تقوم عليها مدينة جنين، هي بالأساس ضمن مدينة عين جنيم (عين الجنائن) العربية الكنعانية، وكانت قرية “جيناي” محل مدينة جنين اليوم إبان العصر الروماني إحدى قرى مقاطعة سبسطية. ومن الجدير ذكره أنّ السيد المسيح عيسى عليه السلام كان يمرّ بالقرب من المدينة مراراً وتكراراً أثناء سفره من مدينة الناصرة إلى القدس ذهاباً وإياباً، وبعض الروايات التاريخية تورد أنّه قد قام بإشفاء المجذومين العشرة في جنين.
أرض التضحيات
تُعدّ مدينة جنين ميداناً لمعارك كثيرة وحروب طاحنة، ويعتبر جيش طثميس الثالث المصري من أقدم الجيوش التي دخلت السهل والمدينة، حيث كان ذلك في العام 1479 قبل الميلاد. كما وقعت حروب للفرنجة (ما سمي في الغرب بالحروب الصليبية) في هذا السهل في العصور المتوسطة.
ومن أبرز الحوادث التي وقعت في المدينة خلال العهد المملوكي هو الوباء القاتل الذي فتك بمصر وبلاد الشام في العام 746هـ، حيث لم يبق في جنين سوى عجوز واحدة حسبما ورد في الروايات التاريخية. واشتهرت جنين بأنها كانت محطة تحلّ فيها الهجن التي تحمل الثلج من دمشق إلى القاهرة أيام الحرّ إبان عهد المماليك. وفي العام 1010 هـ تولى حاكم جنين وجوارها الأمير أحمد بن طرباي، وفي العام 1882م ارتأت الحكومة العثمانية استحداث قضاء جديد في هذه المناطق، واتخذت من جنين مركزاً للقضاء المستحدث، وأصبح تابعاً لمتصرف نابلس في ولاية يبروت. وفي العام 1918م احتلها البريطانيون واستولوا على كثير من المعدات والأسرى، وفي 26 أيلول (سبتمبر) 1918 عقد الجنرال اللنبي مؤتمراً لقادة جيوشه في جنين بعد أن استولوا على فلسطين وأسرت قواته حينها نحو 50 ألفاً.
ويُعتبر مقتل الحاكم العسكري البريطاني موفيت في المدينة أهم الأحداث التي وقعت فيها، حيث أقدم شخص يدعى علي أبو عين، وهو من عائلة أبو الرب من بلدة قباطية، على قتل الحاكم العسكري موفيت في 24 آب (أغسطس) 1938 حيث عرف موفيت بعداوته وتنكره الشديدين للعرب. ومن الجدير بالذكر أنّ الشخص الذي نفّذ تلك العملية النوعية تمكّن من الفرار رغم التشديد العسكري وإجراءات الرقابة المفروضة على مبنى الحاكمية، واتخذت القوات البريطانية تلك الحادثة ذريعة لهدم سوق البلدة التجاري وتدمير الكثير من البيوت السكنية.
وخلال الفتح العربي الإسلامي للمدينة تم تغيير اسم المدينة الى بلدة جينين، وفي العام 652 هـ كانت المدينة إحدى إقطاعات الظاهر بيبرس، إذ كان قد أقطعه إياها الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام بناء على طلبه. وفي العام 679 هـ موافق 1280م ولّى السلطان المنصور قلاون الأمير بدر الدين درباس ولاية جنين ومرج بن عامر. وفي العام 740 هـ تمت عمارة الخان “الفندق” في المدينة، والذي أنشأه الأمير طاجار الدوادار.
وتمثل المجزرة البشعة التي ارتكبتها قوات الأحتلال في مخيم جنين سنة 2002، الحدث الأبرز للبطولات والتضحيات التي قدّمها أهالي المدينة خلال العصر الحديث، حيث راح ضحية تلك المذابح العشرات من المقاومين والمدنيين الفلسطينيين الأبرياء.
المسجد الكبير .. معلم حضاري بارز
تعتبر معالم جنين كالمسجد الكيبر والذي أقامته السيدة فاطمة خاتون ابنة محمد بك السلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري وزوجة لالا مصطفى باشا جدّ آل مردم بك بدمشق؛ من أبرز الصور المعمارية والتراثية الأثرية التي ما زالت قائمة على أرض جنين، لتكون شاهدة على حقبة تاريخية مهمة من عمر المدينة تمثلت بمرحلة حكم الدولة العثمانية لها.
وأنشأت خاتون تكية بجانب المسجد تقدم الطعام والشراب والمنام لطالبيها، وأقامت فيها حماماً وعشرين حانوتاً. ومن أبرز المعالم المندثرة في المدينة المسجد الصغير، وتقول الروايات إنه كان مضيافاً للأمير الحارثي أو لإبراهيم الجرار، كما ويعتبر التل وخربة عابا وخربة خروبة من أهم المعالم الأثرية التي تتغنى بها المدينة.
تشتهر بينابيعها وطواحينها
أما اليوم؛ فيقول سليم السلفيتي، البالغ من العمر 64 عاماً، وهو أحد المواطتين الذين سكنوا المدينة منذ العقود الأولى للقرن الفائت، ويعمل منجداً منذ ما يقارب 45 عاماً، وهو من مواليد البلدة القديمة (حي الدبة)؛ إنّ مدينة جنين كانت تُعدّ من بين المدن الأجمل في فلسطين لكثرة بساتينها وينابيعها المائية الجارية، حيث كان فيها زهاء 99 نبعاً، وكانت تشتهر أيضاً بكثرة الطواحين. ويتابع الحاج “أبو باهر” قوله إنّ من أهم الحارات التي كانت تشكل المدينة في تلك الفترة هي البلدة القديمة وواد عز الدين، ومن أبرز المعالم القديمة للمدينة هو المسجد الكبير الذي قامت ببناءه السيدة فاطمة خاتون.
ويضيف السلفيتي، أنّ مهنة التنجيد كان قد امتهنها منذ عهد والده، حيث لم يكن في تلك الفترة في المدينة سوى محلين يعملان في هذا المجال. ويروي “أبو باهر” بعض التفاصيل التي كان يقوم بها والده خلال عمله في مهنة التنجيد، فقد كان دوماً وباستمرار يزور بلدة فيق في الجولان السوري المحتل، لمزاولة مهنته في تلك المنطقة، حيث كان ينتظر طويلاً الى حين مغادرة الدورية العسكرية الفرنسية التي كانت تجول الحدود السورية ـ الفلسطينية في تلك الفترة، ليتمكّن بعد ذلك من الدخول إلى الأراضي السورية خلسة وبعيداً عن عيون الجيش الفرنسي.
ويتابع “أبو باهر” حديثه بأنه ما زال متمسكاً بمحله القديم إلى وقتنا الحالي رغم ضيق مساحته، لأنه يشكل الدخل الأساسي الذي تعتاش منه الأسرة. ونوّه الحاج السلفيتي الى أنّ أهم ما كان يميِّز مدينة جنين هو “الجَمعَة الكريمة واللمّة الشبابية” التي كانت تجتمع في تلك الفترة بالبلدة القديمة من المدينة، حيث كان يجتمع معظم سكان المدينة من الذكور في مكان ما من البلدة القديمة، ورأى سكان القرى تلك الجموع والجلسات فرصة مناسبة لهم لبيع حاجاتهم من خضار وفواكه وأشياء أخرى.
ويستذكر الحاج أبو باهر بعضاً من ذكرياته الجميلة، حينما يقول إنه كان يلعب كرة القدم مع زملائه في الشارع العام، وذلك لعدم وجود السيارات في تلك الفترة أو قلة عددها، ورداءة الطرق عمّا هي عليه حالياً، ومع ذلك “كانت تلك الأيام أفضل بكثير وأنعم بكثير مما نحن به الآن”، كما يذكر.
ذكرى العائلات العريقة
أما الحاج ذيب مرشود “أبو زهير”، البالغ من العمر 86 عاماً، فيشرح لمراسل “المركز الفلسطيني للإعلام” أنّ أهم العائلات التي كانت تقطن المدينة في تلك الفترة هي العبوشي والخالدي والمنصور (المصيعي) وعبد الهادي وسعد الدين. وتُعتبر البلدة القديمة من أهم المعالم الأثرية التاريخية للمدينة، مشيراً الى أنّ “كراج الناصرة” حالياً كان تلاً كبيراً لسوق الدوابّ والماشية في السابق. وكان موقع المسجد الكبير مخزن مؤن كبير تابعاً للحكومة العثمانية. وكان بالقرب من الدوار الرئيس في المدينة في هذا الوقت ممر مائي ضيِّق لسقي الدواب والماشية بالإضافة إلى لجوء المصلين إليه لأغراض الوضوء. وكان داخل المسجد الكبير بركتان مائيتان لأغراض الوضوء والاستحمام، وفي نهاية الرواق المائي كان يوجد بئر مائي ضخم لتجميع المياه الجارية كي يستفيد منه سكان المدينة الذين كانوا يأتون إليه بشكل يومي للأغراض المنزلية، وفق توضيحه.
وأشار الحاج ذيب الى أنّ مدينة جنين كانت بمثابة الطريق الرئيس الواصل والرابط بين الناصرة والعفولة إلى القدس ومناطق أخرى في جنوب فلسطين ووسطها. واختتم الحاج أبو مرشود ليعرب عن حفاوته بجنين بالقول إنّ “المدينة كانت وستظل المدينة الأجمل في نظري، وستبقى المدينة الأولى في التراث الوطني والمعالم الأثرية”.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...