الأحد 11/مايو/2025

السرطان لم يشفع لتغريد كي تجتاز المعبر .. فرحلت قبل احتضان أطفالها

السرطان لم يشفع لتغريد كي تجتاز المعبر .. فرحلت قبل احتضان أطفالها

“كم اشتقت إلى أطفالي، كم تحنّ أنامل أصابعي لأن تلمس وجوه أطفالي، آهٍ كم اشتقت لهم، أخشى أن أموت قبل أن أودِّعهم بقبله دافئة”. كلمات ملتاعة نادت بها شهيدة معبر رفح تغريد محمد عابد، المعبر الذي لم يشفع لها ولا لغيرها من قبلها بأن يفتح أبوابه لترى أطفالها. إنه المعبر الذي لم يرحم ضعفها ومرضها العضال بالسرطان، الذي ألقى جسدها المريض جثة هامدة كادت رائحتها تنبعث، بدون شفقة أو رحمة بها سواء أثناء مرضها أو حتى بعد وفاتها.

العد التنازلي

“آه يا تغريد، لقد تركتِ من بعدك فراغاً كبيراً لم يصبني وحدي فحسب؛ بل أصاب أطفالك الخمسة الذين كانوا بشوقٍ في انتظارك لتعودي إليهم. آه يا تغريد، لم يشفع لك مرض السرطان بأن تجتازي المعبر، آه يا تغريد”، كلمات خرجت من عبق الدموع التي أحاطت بصوت خالد، زوج الفقيدة المنكوب بمصابه.

صمت قليلاً لعلّه يستطيع أن يخفي دموعه، إلاّ أنّ عيونه أبت إلاّ أن تبكي حزناً وهو يردِّد “حسبنا الله ونعم الوكيل، حرموا أطفالنا من لمساتك الحنونة”.

وأضاف الزوج الفلسطيني “كانت تغريد تعاني من مرض السرطان، وحاولتُ أكثر من مرة أن أحصل على “تنسيق” (تعبير رائج يقصد تدخل جهاز أمني تابع للسلطة لدى السلطات الصهيونية بغرض تقديم تسهيلات استثنائية) لعلاجها في مستشفيات الخط الأخضر، إلاّ أنّ الوقت كان يمرّ وحالتها تزداد سوءً، مما جعلني أسعى للحصول على “تنسيق” لعلاجها بمصر”.

وتابع خالد بعد أن استملك قوته المنهمكة بأحزانه، قائلاً “سافرت زوجتي وشقيقها ووالدتها إبان فتح المعبر (معبر رفح) قبل شهر تقريباً، وعند إجراء الفحوصات لها بمصر أخبرها الطبيب أنّ حالتها متأخرة، والأفضل لها أن تعود إلى غزة مع أهلها”.

ورجع الزوج المنكوب بذاكرته قليلاً إلى الوراء “لقد تكلّمت عبر الهاتف مع زوجتي، وشعرت بحزنها وآلمها تارة لشوقها لأطفالها، وتارة من مرضها، فكانت تقول لي: أتمنى أن أرى أطفالي، اشتقت لهم، أخشى أن أموت قبل رؤيتهم، فكنت أصبِّرها وأقول لها: سوف يُفتح المعبر وتحضني أطفالنا”. وبصوت متحشرج خنقته الدموع يضيف خالد “ماتت قبل أن ترى أطفالنا، لقد رحلَت بعيداً عنّا وتركتنا بين أحضان ذكرياتها”.

أكثر من عشرين يوماً

احتجاز المواطنة الفلسطينية تغريد في الأراضي المصرية في أيامها الأخيرة زاد على عشرين يوماً، مما أدى إلى تدهور حالتها الصحية إثر معاناتها على معبر رفح، وسط ازدحام شديد من آلاف من المواطنين العالقين على المعبر.

وقال خالد في نبرة غضب امتزجت بالحزن “مرض السرطان لم يشفع لها أن تجتاز المعبر، والآن موتها أيضاً لم يشفع لها أن تجتاز المعبر، فكل يوم يُؤجّل استلامها من المعبر بحجج واهية من الاحتلال، والوعود مازالت مستمرة، وهي الآن خارج الثلاجة”، ويعلو صوته بأسى “الله أكبر، حتى الميِّت ليس له رحمة أو اعتبار، حسبنا الله ونعم الوكيل”.

وكان خالد قد حصل على تنسيق يسمح لجثمان زوجته بالعبور عبر معبر رفح، لكن جرى السماح لوالدتها فقط بمرافقة الجثمان دون شقيقها، إذ لن يتسنى له العبور كي يحضر جنازة شقيقته، وفي كل الأحوال فإنّ كافة “التنسيقات” لا تعدو أن تكون وعوداً لم تنفّذ بعد.

وبوفاة المواطنة عابد في الأول من تموز (يوليو) الجاري، يرتفع عدد ضحايا إغلاق معبر رفح المسدود في وجه المواطنين الفلسطينيين منذ السابع من حزيران الماضي، إلى ستة مواطنين، جلّهم من المرضى، بينما تحدثت مصادر أخرى عن حصيلة أكبر من الضحايا.

وضع صعب ومتفاقم

ففي واقع الأمر؛ لم تكن المواطنة تغريد عابد وحدها من فارق الحياة على أعتاب معبر رفح، إذ يوجد على جانبيه الكثير من المرضى في وضع صحي صعب، وهو ما يؤكده المواطن معتصم عرفات، أحد العالقين على معبر رفح، قائلاً إنّ أوضاع الفلسطينيين عند المعبر صعبة جداً، خاصة وأنّ الكثير منهم كان سبب سفرهم للعلاج والبعض الأخر للدراسة.

وأشار عرفات إلى أنّ عدد الفلسطينيين العالقين على معبر رفح يقارب ستة آلاف مواطن، يعيشون أوضاعاً في غاية الصعوبة، لا سيما وأنّ الكثير منهم قد نفذ ما كان يملكه من المال، ما جعل البعض يضطر لبيع بعض الملابس التي يمتلكها بأثمان بخسة.

وناشد معتصم عرفات كل مسؤول معني بالعمل الجاد لإنهاء معاناة هؤلاء الآلاف من العالقين في أقرب وقت ممكن، خاصة وأنّ “البعض أصبح لا يملك المال، مما جعلهم ينامون في المساجد وأماكن أخرى” في حالة مزرية.

ومن جهته؛ أكد عصام يونس، مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان، أنّ ما حدث للمواطنة تغريد عابد وغيرها، يخالف كافة القوانين الدولية، قائلاً “ما حدث يُعَدّ أمر في غاية الظلم والقهر الذي يعيشه الشعب الفلسطيني جراء إغلاق معبر رفح لفترات طويلة متواصلة، دون الاهتمام لوضع المرضى أو حتى كبار السنّ”.

وحذّر يونس من مغبة حدوث المزيد من الكوارث الإنسانية جراء استمرار إغلاق معبر رفح، خاصة وأنّ المعبر عبارة عن الشريان الوحيد لقطاع غزة للعالم الخارجي، وأردف قائلاً “على الجميع أن يدرك أنّ أهل قطاع غزة لا يُقدِمون على السفر من أجل السياحة، بل غالبيتهم من المرضى (المسافرين) لتلقي العلاج، خاصة وأنّ القطاع لا يتوفر فيه علاج أمراض السرطان”.

“لماذا نُحرَم من أبسط حقوقنا؟”

وبعد صمت استغرق فيه متأملاً بحسرة، أطلق خالد تساؤله “لماذا نُحرَم من أبسط حقوقنا؟ فلم يشفع مرض تغريد ولا حتى شوقها لرؤية أطفالها وأهلها بأن تجتاز معبر رفح”.

وبجواره طفله الذي ما كاد يسمع باسم أمه حتى يتساءل “أحقاً ماتت أمي؟ كيف ترحل عني ولم تقبلني بعد، فلازلت أذكر لمساتها الحنونة لوجهي الذي بكى أكثر من عيوني لفقدانه العمر كله بهذه اللمسات مجدداً”.

وتابع الطفل الفلسطيني الذي فقد أمه في هذه المفارقة العصيبة، وملامح وجهه قد ارتسمت عليها معالم الحزن والدهشة، “قالت لي أمي إنها سوف تعود إلينا بعد أن يفتح معبر رفح، وكلّ يوم كنت أسأل أبي: هل فُتح المعبر لتأتي أمي، لقد اشتقت لها؟ واليوم أسأل أبي: هل سيسمحوا لأمي أن تجتاز المعبر بعد أن ماتت؟”، يصمت عن الكلام لتحلّ الدموع عوضاً عن أي كلمة أراد أن يتكلمها.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات