عاجل

الجمعة 03/مايو/2024

عن الأساطير المؤسسة للمشروع الصهيوني

عن الأساطير المؤسسة للمشروع الصهيوني

من دون إغفال إسهامات العوامل الخارجية والأوضاع المحلية، أو التقليل من الجهد الذي بذلته الجماعات الصهيونية، لإقامة المشروع الصهيوني، فإن هذا المشروع يدين بقيامه، أيضاً، لعدد من الأساطير التي تحولت، بإنشاء إسرائيل (كتتويج وتجسيد للمشروع)، إلى نوع من الأيديولوجيا التي يحرّم المساس بها.

وكانت الأساطير التي فبركتها الصهيونية تمحورت حول ضرورة قيام «وطن قومي لليهود»، حيث اختيرت فلسطين، بين مجموعة خيارات، على أساس أسطورة أخرى مفادها أن فلسطين هي بمثابة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وباعتبارها «أرض الميعاد»، بحسب الرواية التوراتية.

بالنسبة الى الشعب (شعبها) معلوم أن الصهيونية انطلقت من أسطورة مفادها اعتبار اليهود بمثابة شعب واحد على أساس الدين، على رغم تحدرهم من قوميات وحضارات وبلدان مختلفة ومتباعدة، ما يعني اعتبار الدين بمثابة هوية قومية. كما انطلقت من رفضها دمج اليهود في مجتمعاتهم، بدعوى الاستثناء اليهودي. وبالنتيجة فإن فكرة «الخلاص» لديها انبثقت بدورها من أسطورة نفي المنفى، التي تفترض عودة اليهود إلى فلسطين، عبر تهجيرهم للاستيطان فيها، بدعوى أنهم يعودون الى أرضهم التاريخية، التي ظلوا يحلمون بها، طوال القرون الماضية.

المفارقة أن الصهيونية تذرعت ببعض وقائع اضطهاد اليهود في أوروبا، متناسية تحالفها مع أوروبا (أي مضطهديها) لإنشاء كيانها السياسي، على شكل دولة وظيفية، في منطقة لم تشهد قط اضطهاداً لليهود لكونهم يهوداً، لا سيما أن هذه المنطقة هي مهد الأديان السماوية، وضمنها الديانة اليهودية.

وما يؤكد هشاشة هذه الأساطير عدم رواجها بين اليهود أنفسهم بدليل أن بضعة آلاف من اليهود فقط، هم الذين استطاعت الحركة الصهيونية جلبهم إلى فلسطين قبل الحرب العالمية الأولى، وقبل وعد بلفور (1917) الذي قطعته الحكومة المنتدبة على فلسطين (بريطانيا) آنذاك.

فقط في ظروف الحرب العالمية الأولى بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين بالازدياد، ثم تصاعدت في الحرب الثانية؛ ومع ذلك فإن عدد اليهود في فلسطين عام 1948، أي لدى قيام دولة إسرائيل لم يتجاوز 700 ألف شخص، على رغم جهود نصف قرن، والمعطيات الدولية والإقليمية المواتية!

بدورها، فإن إسرائيل، بعد قيامها، عملت على صياغة أساطيرها الخاصة، مع استمرار استغلالها لأساطير الصهيونية، ومنها، مثلاً، أنها قامت كثمرة لكفاح حركة التحرر القومي للشعب اليهودي، للتخلص من الانتداب البريطاني، وأنها استطاعت هزيمة سبعة جيوش عربية في حرب 1948، وأن الــعرب فوتوا الفرص التي قدمت لهم للسلام معها، وأنها مجرد دولة صغيرة وضعيفة يتهددها الأعداء من كل جانب للقضاء عليها بسبب انتمائها للغرب وتبنيها الديموقراطية والحداثة!

في هذا السياق لا تبدو أسطورة التحرر الوطني مقنعة البتة، فإسرائيل أصلا قامت بفضل وعد بلفور البريطاني، وبدعم الدول الاستعمارية آنذاك. ثم أن الحركة الصهيونية جلبت اليهود عبر الهجرة (وعمليات الترغيب) في ظل الانتداب البريطاني. والمعروف أن حكومة الانتداب هذه شجعت على تنمية المؤسسات التمثيلية والخدمية لمجتمع المستوطنين اليهود في «أليشوف»، كما شجعت على تنمية مؤسساتهم السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، كتمهيد لإقامة كيان لهم، ما يفيد أن حركة التحرر المزعومة هذه (الصهيونية) وجـــدت قبل وجود التجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين.

المعنى من ذلك أن إسرائيل نشأت بصورة مصطنعة، وقسرية (إزاء غيرها)، فهي لم تنشأ بصورة طبيعية وعبــر مسار تاريخي تدرجي، وهي ليست نتاجاً للتطور الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي لمجتمع المستوطنين اليهود، بقدر ما هي نتاج لتضافر إرادة سياسية جسدتها الحركة الصهيونية ومؤسساتها، مع المعطــيات الدولــية (إرادة الدول الاستعمارية الكبرى خصوصاً بريطانيا ثم الولايات المتحدة) التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن العشرين؛ والتي تواطأت في شكل غير مــباشر مــع هشاشــة الأوضــاع في المنــطقة العربية.

أما بالنسبة الى هزيمة الدول العربية في حرب 1948 فهي أسطورة أخرى، تسعى من ورائها إسرائيل لتعظيم قدراتها من ناحية، ولإظهار نفسها بصورة الضحية التي يحيط بها الأعداء. وفي الواقع فإنه من الصعب الحديث عن حرب جيوش بالمعنى الحرفي للكلمة، فالدول العربية، حينها كانت نالت استقلالها للتو، وبالكاد كان لديها جيوش في ذلك الوقت. وللعلم فإن أفراد هذه الجيوش (التي لم تكن موحدة) لم يتجاوز عددهم الأربعين ألفاً، في حين أن القوات الصهيونية التي جرى توحيدها بلغ عديدها زهاء 90 ألفاً، من حوالي 700 ألف مستوطن، من دون الإشارة الى الفارق الكبير لمصلحة القوات العسكرية الصهيونية لجهة العتاد والإدارة.

وطوال أكثر من نصف قرن ظلت إسرائيل تتبجح بأسطورة أنها دولة محاصرة وأن العرب يريدون القضاء عليها ورميها في البحر، في حين أنها هي التي كانت تعتدي على العرب وتحتل أراضيهم. ثم أنها تعتبر أقوى دولة في المنطقة من الناحية العسكرية، لا سيما أنها تحتكر التسلح النووي، وتتمتع بضمانة أكبر دولة في العالم لأمنها ولتفوقها الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري.

يبقى أن إسرائيل تحاول دائماً القول أن العرب يتحملون المسؤولية عن كل ما يجري، من صراعات وحروب، بدعوى أنهم يضيعون فرصة تلو الأخرى. في حين أن إسرائيل عملت منذ العام 1948 على انتهاك قرار التقسيم، باحتلال جزء من أراضي فلسطين المخصصة للدولة العربية المقترحة، ثم أنها حالت (مع عوامل أخرى) دون تمكين الفلسطينيين من السيادة على الأراضي التي بقيت لهم (الضفة والقطاع)، وتملصت من مجمل قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، كما عملت على تقويض عملية التسوية السلمية التي انطلقت من مؤتمر مدريد (1991) وهي المسؤولة عن انهيار «اتفاق اوسلو» (1993)، ثم أنها هي التي رفضت المبادرة العربية للسلام (آذار/ مارس 2002) التي أقرتها قمة بيروت، وجددتها قمة الرياض (2007)، وهي التي عملت على التملص من خطة خريطة الطريق التي تدعمها الإدارة الأميركية.

واضح أن إسرائيل ستظل تواصل نهجها في فبركة الأساطير، وهي تشتغل على ذلك بدأب منقطع النظير. ولعل أكثر ما يثير السخرية، والمرارة أيضاً، ادعاء إسرائيل أنها ضحية وأن الفلسطينيين الذين تحتل أراضيهم وتغتصب حقوقهم وحياتهم ومستقبلهم هم المسؤولون عن ممارساتها القمعية ضدهم، وهم الذين يتحملون وزر التشوهات الأخلاقية التي تلحق بها!

من كل ذلك يبدو أن ثمة أهمية كبيرة لتفنيد الأساطير الإسرائيلية وتعريتها، ونزع القناع الأخلاقي والحضاري الذي تحاول إسرائيل أن تتلطى خلفه، وإظهارها على حقيقتها باعتبارها مجرد ظاهرة استعمارية عنصرية استيطانية، بل آخر الظواهر الاستعمارية الباقية من القرن العشرين.
 
* صحيفة الحياة اللندنية 15/5/2007

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات