الإثنين 13/مايو/2024

الإضرابات.. ثقافة الفشل الحضاري

أمين راشد

استوقفتُ أحد طلاب المدارس أثناء زيارتي لأحد الأصدقاء.. ولم يتجاوز السادس الابتدائي .. فسألته إن كان فرحاً بتعطيل الدوام المدرسي بسبب الإضرابات المتواصلة .. فأجابني بالعامية متجاوزاً سنه الصغير نسبياً -عن الحديث بهذه اللغة وهذا المنطق- قائلاً: “كل هذا رح يطلع على رؤوسنا” ..

نعم .. لقد فاقت براءة الأطفال وطهرهم .. عقول الكبار وأذهان المتهافتين على السياسة وعلى القيادة متناسين البعد الحضاري النهضوي المطلوب لقضيتنا الفلسطينية .. فكل شعوب العالم التي اضطهدت حاربت بكل الوسائل من أجل الوصول إلى حريتها المنشودة.. وعلى رأس تلك الوسائل ومقدمتها النهوض بالواقع الأكاديمي والصحي بشكل خاص من أجل تحقيق القدرة على بناء الوطن.. كمقوم أساسي من مقومات النصر .. فكثيراً ما كنا نسمع ونقرأ في التاريخ عن الدروس والمحاضرات التي عقدت في الملاجئ والخنادق لتلك الأمم التي تسعى لإنجاز مشروع حضاري لا يقف عند حد .. والتوافد الكبير على أساتذة العلم والكتّاب والنهل من ينابيع المعرفة .. فمقدمة كل نهضة .. علم وتعلم واستزادة ..

لقد أضحى العلم والتعلم في بلادنا سلعة موسمية .. بل وصل به الحال ليكون مادة سياسية للرهان والمقامرة.. فأصبح العلم سياسة عابرة لا هدفاً عظيماً .. وهو لا يقلّ أهمية عن الماء الذي تقوم به صلب الحياة .. وفي الوقت الذي يفرض فيه الحصار على الشعب الفلسطيني من قبل الإدارة الأمريكية وحكومة الاحتلال الصهيوني.. ما معنى أن تنطلق الإضرابات داخل الأراضي الفلسطينية لتوقف العملية التعليمية وهي الأهم في المشروع الحضاري كما أسلفنا؟؟!! بل كيف سيضغط الإضراب على ساسة الحصار -الحريصين على سلامة العملية الأكاديمية في بلادهم غير الآبهين بما نعانيه- .. بل هم يهدفون وبكل ما أوتوا من قوة لنشر الجهل في مجتمعاتنا؟؟

إن منطق الإضراب من كل جوانبه لا يحمل الحد الأدنى من المنطق أو الفهم الحقيقي لمعادلة الصراع وطبيعته وحدوده وأطرافه .. بل هو يتجاوز ذلك .. فالمروجين له والقائمين عليه يدركون تماماً ما يجري وما يجب أن تكون عليه الأمور .. لكنهم مع ذلك يسيرون وفق سياسة ومنهج يتوازى مع سياسة الحصار ويخدم في الحد الأدنى مصالحهم الشخصية ..

إننا لا ننكر الهمّ الكبير الذي يحمله المعلم والحاجة الماسة للراتب والضائقة المالية التي يمر بها .. لكن شأنه كبقية الموظفين في السلك الحكومي الفلسطيني .. وكل أبناء الشعب سواءٌ في الحصار .. -إلا من رحمهم ساسة الحصار .. من دعاة التفريط فأغدقوا عليهم الأموال- .. وعلى المعلم ألا يوجه الحراب وبوصلته إلى الداخل الفلسطيني .. بل يدرك تماماً أن الواقع يحتم علينا وقوفاً وحدوياً وتضحية من الجميع وصموداً أكثر في وجه الحصار الظالم والمؤامرة الكبيرة.. فهو الوقت المناسب الذي يستطيع المعلم أن يثبت فيه صدق ثقافته التي بثها في الأجيال مربياً جيلاً عظيماً يحمل همّ أمته بمستوى يكسر العداد في التضحية والثبات على المبادئ..

وإن وقفنا قليلاً على الآثار الخطيرة للإضرابات في المدارس وجدنا ما يلي .. -وللمتفكر أن يبحر أكثر ليكتشف مخاطر أعمق وأكبر-:

(*) إن الإضرابات وبشكل أساسي تنسف البقية الباقية من القيم التربوية في المناهج الفلسطينية .. وتناقض نفسها من خلال واقع سلوك المعلم الفلسطيني الذي أسقط الرسالة من يده .. جاعلاً للقيمة الوظيفية طغياناً على شخصيته.. فبذلك نسخت الإضرابات مفهوماً حضارياً طالما تغنينا به في المرحلة المدرسية عبّر عنه أمير الشعراء حين قال: “… كاد المعلم أن يكون رسولا”..

(*) الإضرابات بواقعها الحالي .. لا تشكل بحال أي مستوى من الضغط على إدارة الحصار .. بل تشكل ضغطاً مباشراً يقع على المحاصرين أنفسهم ولا يسهم في تحسين الواقع الداخلي الفلسطيني ولا يخدم القضية بل يؤخر النهضة وأي مشروع حضاري قادم ..

(*) الإضرابات .. “مسمار” في نعش الصمود الفلسطيني والتمسك بالثوابت والحقوق .. فهذه المرحلة تختلف عن سابقتها فيما يسمى “بالإدارة المدنية” للسلطات الصهيونية التي كانت تدير الشؤون الفلسطينية .. فكان الإضراب يحمّل الصهاينة المسؤولية المباشرة ويشكل ورقة ضغط تلبي المطالب بسرعة فائقة .. لكن الواقع الآن مختلف .. فإن استمرت الإضرابات ستثقل كاهلنا وتدمر ثقافتنا ومستقبلنا .. وتنقل الاحتقان إلى كل بيت فلسطيني ..

(*) الإضرابات تنمي “ثقافة الشوارع” لدى طلبة المدارس .. و “ثقافة مقاهي الانترنت السلبية” .. و “ثقافة الترف والرحل الترفيهية” على حساب “تلقي العلم والتعلم” .. الأمر الذي من شأنه تنمية الرغبات السلبية في نفوس الطلبة ومحاولة ترجمتها كسلوك على أرض الواقع .. وهي بذلك أيضاً تحطم آمال الكثير من الطلبة المتفوقين والمبدعين الأوائل.. وخاصة طلبة الثانوية العامة المستنفرين من أجل صناعة مستقبلهم القريب..

(*) تضطرب الحياة التعليمية من خلال الإضرابات المستمرة والمتواصلة .. وتقلع مفهوم التعلم والتعليم كإستراتيجية في الحياة .. من خلال رسالة مدلولها أن من الممكن التخلي عن العلم في مرحلة من المراحل والتنازل عنه في سبيل تحقيق مآرب معينة.. فخرج العلم بذلك من دائرة “المسلّمات الحضارية” .. ونسف كل مفاهيم العلماء على مدار التاريخ..

(*) الإضرابات يكتنفها التدليس والتزوير للحقائق والوقائع .. والتي تتمثل بتحميل الشعب الفلسطيني مسؤولية الحصار على خياره الحر في الانتخابات التشريعية الأخيرة .. في وقت تهمش فيه الخيانات السابقة من خلال الاتفاقيات الانهزامية –وعلى رأسها اتفاقية باريس في 29ابريل 1994- التي ربطت المال الفلسطيني بمسلسل التنازلات السياسية فأصبح مشروطاً لها .. ودمرت الاقتصاد الفلسطيني بربطه بالاقتصاد الصهيوني والدول الخارجية الغربية بدلاً من استقلاليته وإطلاق حريته وبناء اكتفاء ذاتي ..

لا أريد يفهم البعض أنني أقلل من خطورة الحصار المفروض على شعبنا .. لكن ما أرمي إليه هو التحذير من أن نكون حلقة من حلقات الحصار .. نساهم بشد الوثاق -على مجتمعنا- مع أعدائنا .. إننا نريد صموداً أكثر من أجل العزة والكرامة واستعادة الحقوق كاملة غير منقوصة .. وعلينا أن نفهم حقيقة ما يجري لا أن نكون “إمعات” لبعض الجهلة الذي يقتاتون على أوجاع الفقراء والمساكين .. إن الشعب الذي أنبت المقاومة والصمود والانتفاضة الأولى والثانية لا يمكن أن يرضى أبداً أن يرمى أبناؤه بين أحضان ثقافة الحضيض في الشارع والمقهى والحفلات الماجنة والرحلات المختلطة ليصبح صيداً سهلاً لكل الفاسدين والمفسدين ..

وإنني أدعو من خلال هذا المقال جميع المعلمين أن يتقوا الله تعالى في هذا الجيل الصاعد .. وينهضوا إلى مدارسهم وطلابهم .. لينشروا وعياً عظيماً يدرك فيه الطلبة أن أساتذتهم أعظم من أن ينال منهم الأعداء وأكبر من أن تشتريهم أموال الدنيا أمام المبادئ.. وكيف يرضى معلم فلسطيني أن يرقد في فراشه مضرباً عن التعليم وطلبته وأبناؤه في المدارس تنهشهم الثقافات الهدامة.. وتهبط بهم الأيام في وديان الجهالة والفساد .. فإن الغالبية العظمى وللأسف من المدرسين يقضون أيام الإضرابات في بيوتهم وعلى أسرة النوم .. لا في العمل وتحقيق الرزق مما يدل على سرابية وهشاشة الإضرابات التي تطلقها الأبواق المشبوهة ..

ومع تلك الدعوة للمعلمين الأكارم .. إني لأتحدى القائمين على الإضراب للمثول أمام الآباء والأمهات والحديث عن منطلقاتهم في الإضراب بدون أن تتلعثم ألسنتهم – كما حدث مع أحد رعاة الإضرابات حين ألجمته آهات الآباء والأمهات من خلال منبر إعلامي معين واحتج حينها أنه لم “يحضر” لهذا اللقاء – ..

إن ساعات الشدة في حياة الإنسان .. هي أعظم فرصة للتعلم وترسيخ المفاهيم واستدعاء الثقافات والأفكار النيرة .. ومن خلالها يستطيع المرء أن يعكس أفكاره ويبني كيانه بأعظم من ذي قبل .. فعلى الجميع أن يدرك تماماً إسقاطات هذا الفكر وهذه الأفكار .. وندعو الجميع إلى رسم “ثقافة خاصة للحصار” .. إيجابياً وبغير ما يتوقعه الأعداء والمفطرون .. بذلك فقط ننقض حلقات الحصار حلقة حلقة .. ونكون قد أسهمنا بشكل حقيقي في الارتقاء بمشروعنا الحضاري الذي نرنو إليه ..

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

مواجهات عقب هجوم للمستوطنين جنوب نابلس

مواجهات عقب هجوم للمستوطنين جنوب نابلس

نابلس – المركز الفلسطيني للإعلام اندلعت مساء اليوم الاحد، مواجهات بين المواطنين والمستوطنين وقوات الاحتلال في بلدة قصرة جنوب شرق نابلس....