السبت 04/مايو/2024

صراع وجود أم نزاع حدود؟

صراع وجود أم نزاع حدود؟

صحيفة الخليج الإماراتية

بعد أيام قليلة، تطل علينا ذكرى النكبة الفلسطينية العربية بأنيابها المتوحشة والموحشة، لتعلن بأن أكثر من سبعة ملايين فلسطيني، من بينهم أكثر من أربعة ملايين يعيشون في 59 مخيماً في لبنان وسورية والأردن وقطاع غزة والضفة الغربية، يعيشون بعيداً عن ديارهم منذ 59 عاماً، من دون أي بصيص أمل بعودتهم، بل على العكس، فإن كل المعطيات والإشارات تدل على أن حق العودة، بعد أن كان مقدساً غير قابل للتفاوض، بات قابلاً للتفاوض والبحث، رغم أن حق العودة هو حق فردي أكدت عليه الأمم المتحدة ومجلس الأمن من خلال القرار 194، وأكدت عليه أكثر من 100 مرة في قرارات وبيانات لاحقة، إلا أن الحكومات الصهيونية المتلاحقة ضربت به عرض الحائط، وتجاهلته تجاهلاً كلياً، بل وتطالب الفلسطينيين والعرب بالتنازل عنه مقابل تسوية غامضة.

وفي الواقع، فإن التنازل عن حق العودة بدأ بقبول القرار 242، الذي يقول بتقسيم فلسطين، إذ حول الصراع من صراع وجود إلى نزاع حدود، وصار الحديث يدور عن نسبة الأراضي التي (ستمنحها) الدولة العنصرية من الضفة الغربية وقطاع غزة، فمنهم من (يكرم) ويمنح 23%، ومنهم من يزيد كرمه وآخرهم السيدة ليفني، وزيرة الخارجية الصهيونية، التي وعدت بإقامة دولة فلسطينية مؤقتة على 93% من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن مقابل تنازل الفلسطينيين عن حق العودة، هذا إذا تمكنت من الإطاحة بإيهود أولمرت، وتسلمت رئاسة الوزراء في الكيان الصهيوني.

الصراع الفلسطيني الصهيوني هو صراع وجود، وليس نزاع حدود، أكدت على هذه المقولة مؤتمرات عربية كثيرة أولها مؤتمر القمة في الجزائر الذي عقد في السبعينات، وتوالت التأكيدات على ذلك، ومن بينها بيان للجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح الانتفاضة في العام 2005، إذ جاء في البيان: “لقد رأت الحركة أن الصراع مع العدو الصهيوني صراع حضاري تناحري مديد، صراع وجود وليس نزاعاً على حدود، كونه ناجماً عن استهداف قوى استعمارية غربية والحركة الصهيونية جزء منها، فلسطين باستعمار استيطاني إحلالي عنصري مرتبط مع مشروع استعماري غربي يهدف إلى تجزئة الوطن العربي ومنع وحدته وتطوره وتقدمه”.

وفي مؤتمر “العرب و”إسرائيل” عام 2015 السيناريوهات المحتملة” الذي عقد في العاصمة الأردنية عمان في الفترة الواقعة ما بين 27-29/11/2005، قال المفكر والمحلل السياسي المغربي عبد الإله بلقزيز في ورقته حول البعد الثقافي والحضاري في الصراع العربي- “الإسرائيلي”، إن الصراع العربي – “الإسرائيلي” يختلف عن غيره من الصراعات الإقليمية من قبيل الصراع الهندي الباكستاني على كشمير، ويعود هذا الأمر بدرجة كبيرة إلى أن “إسرائيل” ليست مجرد دولة استعمارية، ولكنها مشروع إحلالي لا تقوم لكيانها قائمة إلا باختطاف أرض الشعب الذي أخضعته للاحتلال. والمشروع الصهيوني يشبه في طبيعته الاحتلالية الاقتلاعية المشروع الاستيطاني الأوروبي للقارة الأمريكية، في شمالها على نحو خاص، إذ يشتركان في مبدأ الغزو العنيف، والسطو المسلح على الأرض، وإبادة السكان الأصليين، أو اقتلاعهم بالقوة وإجبار من تبقى حياً منهم على تقديم السخرة في زراعة الأرض…إلخ. ويرى أن البعد الحضاري والثقافي هو أساس المواجهة بين الطرفين، بين ثقافة غازية عدوانية، وحضارة إسلامية عريقة أصيلة، ولذلك فإن السنوات العشر القادمة سوف تمكن الحضارة الأصيلة من تجاوز الثقافة الغازية.

وفي المؤتمر أكد موسى الحديد (الخبير في كلية الدفاع الوطني الملكية الأردنية) في ورقته حول تطورات التوازن العسكري التقليدي العربي “الإسرائيلي” حتى عام 2015 على أن الميزان العسكري التقليدي بين الدول العربية و”إسرائيل”، منذ عام 1948 وحتى اليوم، يتجه بشكل مطرد لصالح الأخيرة، وذلك بفعل عوامل داخلية وخارجية مؤثرة في الطرفين. ويقارن الحديد بين النظرة الاستراتيجية للصراع بين الدول العربية و”إسرائيل”، فبينما تنظر الدولة العبرية إليه باعتباره صراع وجود لا يحتمل الخطأ مهما كان طفيفاً، تنظر الدول العربية إليه، في المقابل باعتباره صراع حدود ونزاعاً على أراضٍ يمكن استعادتها.

أما المفكر مطاع الصفدي المنشغل دائماً بالخطاب النهضوي العربي، فيقول إن سقوط فلسطين ليس سوى البداية، وهي المنذرة بانتشار تداعيات الهزيمة المحبطة مقدماً لوعود النهضة الباكرة. كان ثمة جدلية حركية فعلاً تتنامى بين قطبي النكبة والنهضة، ما يجعل الصراع يتخطى مسألة توازن القوى العسكرية والخلل الكبير المزمن الذي ستشكو منه النهضة في مختلف تطوراتها المأزومة القادمة، تتخطاها دون أن ينفصل عن مؤثراتها، إلى ما اصطلح عليه ضمير الأمة بكونه صراع وجود وليس نزاع حدود (الدويلة المزروعة) مع جيرانها. إن التأمل في هذه المسافة المفهومية المشؤومة بين مصطلحي صراع وجود ونزاع حدود، يختصر رحلة القضية وسقوطها التدرجي بين ذروة الالتزام بها إلى حضيض التخلي عن أبسط ضروراتها.

إن الكارثة الحقيقية هي في استراتيجية إدارة الصراع العربي الصهيوني، التي أسقطت كل لاءاتها وسلمت أوراقها للموقف السلمي، من دون أن تمنح نفسها مليمتراً للتراجع، وفي الوقت الذي يتحدثون في أروقة السياسة العربية عن مبادئ السلام فإن العقلية الصهيونية تناقش السبل المؤدية إلى إعادة الهيبة للجيش الصهيوني، بعد إعلان لجنة فينوغراد، فشله في جنوب لبنان، خلال حربه مع مقاتلي المقاومة اللبنانية، الأمر الذي يؤكد أن الجيش هو أحد الأسلحة الفتاكة لصراع الصهاينة مع العرب، بينما العرب لا يضعون هذا الأمر في استراتيجياتهم أو خططهم، بل ويؤكدون أن الحل السلمي يجب أن تقوده أمريكا، والحديث في هكذا موضوع بات يثير الملل، لأن السياسات الأمريكية باتت واضحة لكل ضرير ويسمعها كل أصم، ويدركها أغبى الأغبياء، فلماذا وضع كل الأوراق في السلة الأمريكية؟ الإجابة طبعاً معروفة ولا حاجة للحديث عنها أكثر.

من أجل تصحيح مسار الصراع، بل من أجل تصحيح المسار التفاوضي، على العرب والفلسطينيين أن ينظروا إليه كونه صراع وجود وليس نزاع حدود، ويدرك أي طفل يتابع الأخبار بنسبة وعي قليلة، بأن الكيان الصهيوني لن يعطي شيئاً للعرب أو الفلسطينيين، بل قد يعطي العرب كما أعطى المصريين سيناء بشروط قاتلة، أو كما أعطى الأردنيين وادي عربة، وربما يعطي السوريين هضبة الجولان ولكن ستكون تحت إدارة دولية أو منزوعة السلاح في أحسن الأحوال، أما أن يعطي الفلسطينيين أو يسمح بإقامة دولة مستقلة ذات سيادة لهم، فهذا أقرب إلى المعجزة، لأن الكيان الصهيوني يعلم تمام العلم بأن هذه الخطوة ستكون أول مسمار يدق في نعشه، لهذا يعتبر الصراع مع الفلسطينيين صراع وجود، فلماذا يعتبره الفلسطينيون والعرب نزاع حدود؟

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات