الأحد 05/مايو/2024

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (7)

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (7)

تعتبر مجزرة عين الزيتون الأكثر شهرة لأن قصتها شكلت الأساس للرواية الملحمية الوحيدة عن النكبة حتى الآن، وهي رواية «باب الشمس» للكاتب الياس خوري. كما أن ثمة عرضاً لما حدث في القرية في القصة القصيرة الإسرائيلية شبه المتخيَّلة عن تلك الفترة، «بين العُقد»، للكاتبة نِتيفا بن- يهودا. وقد جرى تحويل رواية «باب الشمس» إلى فيلم من إنتاج فرنسي- مصري مشترك (إخراج يسري نصر الله- «المحرر»). وتشبه المشاهد في الفيلم كثيراً الوصف الذي نجده في قصة «بين العُقد»، واستندت فيه بن- يهودا، إلى حد كبير، إلى التقارير المحفوظة في الأرشيفات العسكرية، وإلى ذكريات رُويت شفهياً. ويبرز الفيلم أيضاً بصدق جمال القرية، التي تقع في واد عميق ضيق يشطر جبال الجليل المرتفعة على الطريق ما بين ميرون وصفد، ويترقرق فيه جدول من المياه العذبة محاط ببرك مياه معدنية حارة.

الموقع الاستراتيجي، على بعد ميل واحد إلى الغرب من صفد، جعل قرية الزيتون هدفاً مثالياً للاحتلال. وكانت مشتهاة من المستوطنين اليهود المحليين، الذين كانوا شرعوا في شراء الأراضي المجاورة، وكانت علاقتهم بالقرويين مضطربة مع اقتراب الانتداب البريطاني من نهايته. ووفرت عملية «مِكنسة» (مَطْأطي) الفرصة في 2 أيار (مايو) 1948 لوحدة النخبة التابعة للهاغاناه، البالماخ، لا لتطهير القرية وفقاً للخطة دالِتْ فحسب، بل أيضاً لتصفية «حسابات قديمة» مصدرها العداء الذي أبداه القرويون الفلسطينيون تجاه المستوطنين.

أُوكلت العملية إلى موشيه كالمان، الذي كان أشرف بنجاح على الهجمات الوحشية على الخصاص وسعسع والحسينية في المنطقة نفسها. وواجهت قواته مقاومة ضعيفة جداً، لأن المتطوعين السوريين الذين كانوا متمركزين هناك غادروا على عجل عندما بدأت القرية بالتعرض للقصف فجراً: قصف عنيف بمدافع الهاون، تبعه وابل منتظم من القنابل اليدوية. ودخلت قوات كالمان القرية حوالى الظهر. وخرج النساء والأطفال والشيوخ وعدد قليل من الشبان لم يغادروا مع المتطوعين السوريين من مخبئهم يلوحون بعلم أبيض، وسيقوا على الفور إلى ساحة القرية.

يستحضر الفيلم روتين التحري والاعتقال- في هذه الحالة التحري والإعدام- كما كانت تتبعه وحدات الاستخبارات التابعة للهاغاناه. أولاً، أحضروا مخبراً مغطى الرأس أخذ يتمعن في الرجال المصفوفين في ساحة القرية، وتم التعرف إلى الأشخاص الذين كانت أسماؤهم مكتوبة في القائمة المعدة سلفاً والتي أحضرها ضباط الاستخبارات معهم. ومن ثم أُخذ الرجال المختارين إلى مكان آخر وأُعدموا. وعندما حاول رجال آخرون التمرد أو الاحتجاج، قُتلوا هم أيضاً. وثمة حادثة شخّصها الفيلم بصورة مؤثرة جداً: عندما أخبر أحد القرويين، يوسف أحمد حجّار، الذين أسروه أنه، مثل الآخرين، استسلموا وبالتالي «يتوقعون أن يعاملوا بطريقة إنسانية»، صفعه قائد قوة البالماخ وأمره، عقاباً له، باختيار سبعة وثلاثين مراهقاً بصورة عشوائية. وبعد أن أرغم بقية القرويين على دخول مستودع جامع القرية، قُتل المراهقون رمياً بالرصاص وأيديهم موثقة خلف ظهورهم.

وفي كتاب من تأليف هانس ليبْريخت، نجد وصفاً مقتضباً لمظهر آخر من مظاهر الوحشية. شرح ليبريخت قائلاً: «في نهاية أيار 1948، أمرتني الوحدة العسكرية التي كنت أخدم فيها ببناء محطة ضخ موقتة، وتحويل مجرى جدول القرية المهجورة، عين الزيتون، من أجل تزويد الكتيبة بالمياه. وكانت القرية مدمرة كلياً، وكان هناك بين الأنقاض جثث كثيرة. وعلى وجه التخصيص وجدنا الكثير من جثث النساء والأطفال والأطفال الرضّع بالقرب من الجامع الحالي، وأقنعت الجيش بإحراق الجثث.»

هذا الوصف الواضح جداً نجد مثله أيضاً في تقارير الهاغاناه العسكرية. لكن، من الصعب معرفة كم من سكان عين الزيتون أُعدموا فعلاً. فالوثائق العسكرية تذكر أن إجمالي عدد الذين قُتلوا رمياً بالرصاص، بمن في ذلك الذين أُعدموا، يبلغ سبعين شخصاً؛ بينما تذكر مصادر أُخرى، رقماً أكبر كثيراً. لقد كانت نِتيفا بن- يهودا عضواً في البالماخ؛ وكانت في القرية عندما حدثت الإعدامات، لكنها فضّلت أن تسرد القصة بشكل روائي. وعلى أي حال، فإن قصتها تعرض وصفاً تفصيلياً مرعباً للطريقة التي قتل فيها الرجال رمياً بالرصاص بينما كانوا مقيدي الأيدي. وتذكر أن عدد الذين أُعدموا كان مئات:

لكن يوناثان واصل الصراخ، وفجأة استدار معطياً ظهره لميركي، وسار مبتعداً وقد تملكه غضب شديد، مستمراً في شكواه: «إنه فقد عقله! مئات من الناس مستلقين هناك مقيدين! إذهب واقتلهم! إذهب واقضِ على مئات من الناس! إن مجنوناً فقط هو من يقتل أناساً مقيدين هكذا، ومجنوناً فقط هو من يبدد كل هذه الذخيرة عليهم!… لا أعرف في من يفكرون، من سيأتي للتفتيش، لكني أدرك أن أمراً ما صار ملحاً؛ أنه فجأة يتعين علينا أن نفك الرباط من على أيدي وأرجل أسرى الحرب هؤلاء. وعندئذ علمت أنهم كانوا جميعاً موتى، «المشكلة انحلت».

وبحسب هذه الرواية فإن المذبحة، كما نعرف أيضاً من كثير من أعمال القتل الجماعي الأُخرى، لم تحدث فقط كـ «عقاب» على «صفاقة»، بل أيضاً لأن الهاغاناه لم يكن لديها بعد معسكرات اعتقال لأسرى الحرب تستوعب العدد الكبير من الأسرى القرويين. لكن، حتى بعد إنشاء معسكرات كهذه، فإن مذابح كانت تحدث عندما يتم أسر عدد كبير من القرويين، كما في حالتي الطنطورة والدوايمة بعد 15 أيار 1948.

إن مرويّات التاريخ الشفهي التي زودت الياس خوري بمادة «باب الشمس»، تعزز الانطباع بأن المادة الأرشيفية لا تخبرنا بالقصة كاملة: إنها مقتضبة في ما يتعلق بالوسائل المستخدمة، ومضللة بالنسبة إلى عدد الأشخاص الذين قتلوا في ذلك اليوم المشؤوم من أيار 1948.

وكما سبق أن ذكرنا، كانت كل قرية تشكل سابقة وتصبح جزءاً من نمط أو نموذج من شأنه تسهيل عمليات الطرد الجماعي المنهجي. في عين الزيتون، أُخذ القرويون إلى طرف القرية، ومن ثم أخذ الجنود يطلقون النار فوق رؤوسهم بعدما أمروهم بالفرار. وهنا أيضاً جرى اتباع الإجراءات الروتينية: جُرّد الناس من جميع أمتعتهم قبل أن يتم نفيهم من وطنهم.

في وقت لاحق احتل البالماخ القرية المجاورة، بيرْيا. وكما في عين الزيتون، صدر الأمر بإحراق جميع البيوت بغية إضعاف معنويات العرب في صفد. ولم يبق في المنطقة سوى قريتين. وواجهت الهاغاناه الآن مهمة أكثر تعقيداً: كيف تفرض التجانس السكاني في، أو بالأحرى كيف «تهوِّد»، منطقة مرج ابن عامر والسهول الفسيحة الممتدة بين الوادي ونهر الأردن، شرقاً حتى بيسان المحتلة، وشمالاً حتى الناصرة، التي كانت لا تزال مدينة حرة في ذلك الوقت.

كان يغئيل يادين هو الذي طلب في نيسان (أبريل) القيام بمجهود أشد تصميماً لتطهير هذه المنطقة (الشمالية) الواسعة من السكان. ويبدو أنه شك في أن القوات ليست متحمسة بما فيه الكفاية، فكتب مباشرة إلى عدد من أعضاء الكيبوتسات الواقعة في الجوار للتحقق مما إذا كانت القوات احتلت ودمرت فعلاً القرى التي أُمرت بتدميرها.

لكن تردُّد الجنود لم يكن بسبب فقدان الحافز أو الحماسة. فقد كان ضباط الاستخبارات، في الحقيقة، هم الذين وضعوا قيوداً على العمليات. ففي جزء من المنطقة، خصوصاً بالقرب من مدينة الناصرة، وجنوباً حتى العفولة، كان هناك عشائر تعاونت- إقرأ: «تعاونت مع عدو»- معهم لأعوام كثيرة. فهل يجب طردها هي أيضاً؟

المسؤولية البريطانية

هل علم البريطانيون بالخطة دالِتْ؟

يفترض المرء أنهم علموا، لكن ليس من السهل إثبات ذلك. غير أنه من اللافت جداً أن البريطانيين أعلنوا بعد أن تم تبني الخطة دالِتْ أنهم لم يعودوا مسؤولين عن الأمن والنظام العام في المناطق التي كانت قواتهم لا تزال مرابطة فيها، وقَصَروا نشاطهم على حماية هذه القوات. وكان ذلك يعني أن حيفا ويافا والمنطقة الساحلية الواقعة بينهما بأسرها باتت مساحة مكشوفة تستطيع القيادة الصهيونية أن تطبق فيها الخطة دالِتْ من دون خوف من أن يحبطها الجيش البريطاني، أو حتى من مواجهة معه. والأسوأ أن اختفاء البريطانيين من الريف والمدن كان معناه انهيار القانون والنظام العام كلياً في أنحاء فلسطين كافة. وعكست الصحف التي كانت تصدر آنذاك، مثل صحيفة «فلسطين»، قلق الناس من ازدياد جرائم كالسرقة والسطو على المنازل في المراكز الحضرية، والنهب في أرجاء القرى. كما أن انسحاب رجال الشرطة البريطانيين من المدن والبلدات كان يعني أيضاً، على سبيل المثال، أن كثيرين من الفلسطينيين لم يعودوا قادرين على قبض رواتبهم في البلديات المحلية لأن مكاتب الخدمات الحكومية كانت في معظمها موجودة في الأحياء اليهودية حيث يمكن أن يتعرضوا للاعتداء.

بالتالي لا عجب من أن المرء لا يزال يسمع فلسطينيين يقولون اليوم: «المسؤولية الرئيسية عن نكبتنا تقع على عاتق الانتداب البريطاني»، كما عبر عن ذلك جمال خضورة، اللاجئ من قرية سحماتا الواقعة بالقرب من عكا. وقد حمل إحساسه هذا بأنه تعرض للخيانة طوال حياته، وعبر عنه أمام لجنة تحقيق بريطانية مشتركة لمجالس الشرق الأوسط البرلمانية شكلت في سنة 2001 لتقصي الحقائق في شأن اللاجئين الفلسطينيين. وكرر لاجئون آخرون أدلوا بشهاداتهم أمام اللجنة الاتهام واللوم لبريطانيا، وعبروا هم أيضاً عن إحساسهم بالمرارة.

وفي الحقيقة، امتنع البريطانيون من القيام بأي تدخل جدي منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1947، ولم يحركوا ساكناً في وجه محاولات القوات اليهودية السيطرة على المخافر الأمامية، كما لم يحاولوا إيقاف تسلل متطوعين عرب بأعداد قليلة. وفي كانون الأول (ديسمبر)، كان لا يزال لديهم 75.000 جندي في فلسطين، لكن جهدهم كان مقصوراً فقط على حماية جلاء الجنود والضباط والموظفين البريطانيين.

وساهم البريطانيون أحياناً بطرق أُخرى، مباشرة أكثر، في التطهير العرقي بتزويدهم القيادة اليهودية بصكوك الملكية ومعطيات حيوية أُخرى، كانوا استخرجوا نسخاً فوتوغرافية عنها قبل إتلافها، على جري عادتهم عندما كانوا ينهون استعمارهم لبلد ما. وأضافت هذه البيانات المفصلة إلى ملفات القرى ما كان الصهيونيون بحاجة إليه لتنفيذ الطرد الجماعي واسع النطاق. إن القوة العسكرية، الوحشية في هذه الحالة، هي المتطلَّب الأول للطرد والاحتلال، غير أن البيروقراطية لا تقل أهمية عنها من أجل التنفيذ الفعال لعملية تطهير ضخمة تتضمن لا سلب الناس فحسب، بل إعادة ترتيب ملكية الغنائم أيضاً.

الأمم المتحدة

بموجب قرار التقسيم، كان ينبغي للأمم المتحدة أن تكون حاضرة على الأرض لتشرف على تنفيذ خطتها للسلام، أي جعل فلسطين بكاملها بلداً مستقلاً، يشتمل على دولتين متميزتين تجمعهما وحدة اقتصادية. وتضمن القرار الصادر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 أموراً إلزامية واضحة جداً، منها التعهد بأن تمنع الأمم المتحدة أية محاولة من أي الطرفين لمصادرة أراض تعود ملكيتها إلى مواطني الدولة الأُخرى، أو أية مجموعة قومية أُخرى- سواء كانت أراضي مزروعة أو غير مزروعة، أي أراضي مُراحة من غير زرع لمدة عام تقريباً.

وإنصافاً لممثلي الأمم المتحدة المحليين، يمكن القول إنهم على الأقل شعروا بأن الأمور تتجه من سيئ إلى أسوأ، فحاولوا الدفع في اتجاه إعادة تقويم سياسة التقسيم، لكنهم عملياً لم يقوموا بأكثر من المراقبة وإرسال تقارير عن بدء التطهير العرقي. وكان وجود الأمم المتحدة في فلسطين محدوداً لأن السلطات البريطانية منعت وجود فريق منظم من المنظمة الدولية على الأرض، متجاهلة بذلك الجزء من قرار التقسيم القاضي بوجود لجنة من الأمم المتحدة في فلسطين. سمحت بريطانيا بحدوث التطهي

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات