السبت 11/مايو/2024

إسرائيل وأميركا تتجاهلان قوة الرأي العام العربي

إسرائيل وأميركا تتجاهلان قوة الرأي العام العربي

صحيفة الوطن القطرية

لمرة واحدة أتيح لي أن أجلس إلى رابين وبيريز في القاهرة مع مجموعة من الزملاء. كان ذلك منذ سنوات، وكان رابين وقتها رئيساً للوزراء وبيريز وزيراً للخارجية، وسألت بيريز سؤالين، وكان سؤالي الأول: أنتم تطلبون من القادة العرب السلام قبل الأرض وهذا ما لا يمكنهم تقديمه إليكم، لأن الرأي العام لن يسمح لهم بذلك، فلماذا تتجاهل السياسة الإسرائيلية الرأي العام في العام العربي؟

وقال لي بيريز: لأن القرار في كل بلد عربي في يد رجل واحد it is one man show . واكتفيت يومها بأن قلت له: هذا غير صحيح.. في العالم العربي رأي عام يجب أن يؤخذ في الحساب.

وكان سؤالي الثاني لبيريز: هل تعتقد أنه سيأتي يوم ويتحقق حلمك بإنشاء الشرق الأوسط الكبير وتكون فيه “إسرائيل” قوة فاعلة؟

وأجابني: أعتقد أن ذلك سيحدث.. أنتم تريدون أن تكونوا هونغ كونغ المنطقة ونحن ليس لدينا مانع، نحن سنكتفي بأن نكون قاعدة لإنتاج التكنولوجيا الحديثة والسوفت وير.

هذا هو الخطأ الأكبر في السياسة الإسرائيلية والأميركية أيضاً.. تجاهل قوة الرأي العام في العالم العربي.. وكأنه لا يوجد فيه سوى الحكام، وليس فيه شعوب لها تاريخ وإرادة وحق في تقرير مصيرها كسائر الشعوب. وهذا الموقف الإسرائيلي ليس سوى امتداد، أو انعكاس، للموقف الأميركي، خصوصاً وأن الإدارة الأميركية الحالية لا ترى الأمور إلا من زاوية واحدة، ولا تدرك أن الرأي العام العربي ظاهرة معقدة بأكثر مما يعتقد أصحاب الأفكار التقليدية في الإدارة الأميركية، فهم يرون أن الرأي العام في البلاد العربية ليس سوى نخبة من المثقفين أصحاب الأيديولوجيات الفاشلة، وأن الشارع العربي لا تتردد فيه إلا أصوات انفعالية يمكن أن تهتف دون وعي لأي شيء يثير انفعالاتها، وكلاهما ـ المثقفون والجمهور ـ غير مؤثر في السياسات والقرارات.. إنهم لا يرون ما حدث من تغير في المجتمعات العربية من حراك سياسي تتبلور فيه اتجاهات تؤثر على سياسات الحكومة ولا يمكنها تجاهلها.. ولا يرون أيضا هذا التوافق الذي حدث في السنوات الأخيرة بفعل الأحداث الضاغطة والمخاطر الماثلة بين آراء النخبة وآراء الطبقة المتوسطة مع رأي الشارع، حول قضايا تبلورت وأصبحت تمثل قضايا المصير التي لا يمكن التنازل عن شيء منها أو المساومة عليها مثل قضايا فلسطين، والعراق، ورفض التبعية الأجنبية مهما كانت وتحت أي مسمى، والمطالبة بالاستقلال الاقتصادي واستقلال الإرادة الوطنية.

وفي الولايات المتحدة مراكز أبحاث ترصد هذه الحقائق وتنبه إلى ضرورة مراعاتها في التعامل مع الدول العربية، ولكنها بعد ذلك ترى أن أميركا تستطيع التأثير على الرأي العام في البلاد العربية وتغيير اتجاهاته وقناعاته بحيث يقبل غدا ما يرفضه اليوم، وهؤلاء يطالبون الإدارة الأميركية بأن تخوض ما يسمونه «حرب الأفكار»، ولا تكتفي بالغزو العسكري أو بالضغوط الاقتصادية والسياسية، وهدف حرب الأفكار في رأيهم هو تحسين صورة أميركا في المنطقة، والإقناع بما تراه الإدارة الأميركية، وما تعتبره إصلاحات داخلية، وتحسين علاقات أميركا مع النخبة السياسية، ورجال الأعمال والإعلاميين وأساتذة الجامعات.. الخ على أساس أن هذا هو المحيط الذي يجب أن تحقق فيه الإدارة الأميركية الفوز في «حرب الأفكار».

في رأي هؤلاء أن الإعلام في العالم العربي هو الذي كان يعوق نجاح أميركا في حرب الأفكار. ففي الخمسينيات أثارت الإذاعات الثورية المصرية الجماهير العربية ضد سياسة أميركا وغيرت الأفق السياسي، ولم تكن اللغة الحماسية والانفعالية الغاضبة التي كان يستخدمها الإعلام المصري والعربي عموماً، مما يساعد على إيجاد مناخ مناسب للاستماع إلى ما تقوله أميركا بدون نظرة الشك التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وبعد انتهاء هذه الموجة اتخذ الإعلام العربي ـ في رأيهم ـ مظهراً كئيباً بالاقتصار على أخبار الاستقبالات الرسمية ونشر القرارات الحكومية، وظلت الصحافة والإذاعة والتليفزيون في الدول العربية جميعها خاضعة لسيطرة الدولة التي حددت خطوطاً حمراء واضحة تحكم الخطاب السياسي والإعلامي المقبول، وبعد ذلك ظهرت موجات من الانفتاح والتحرر والنشاط المثير في صحافة بعض الدول العربية، ولكن ذلك كان مقصوراً على القضايا المحلية الفرعية ولا يمس السياسات العامة، ويقول الباحث الأميركي «مارك لينش» إنه حتى هذه الموجات سرعان ما خضعت لترويض نظم الحكم، ولكن ظهر في النصف الثاني من التسعينيات تيار جديد من المناقشات في الفضائيات التي تتخطى الحدود وتحاول التأثير في الرأي العام، وبعد أن كان إعلام الخمسينيات يخدم الدول القوية جاءت الميديا الجديدة (الفضائيات والصحافة معاً) لتعمل بوعي في التعبير عن الرأي الآخر، ولذلك ظهرت الميديا العربية الجديدة في أول الأمر في لندن لكي تتمكن من الهروب من السيطرة الحكومية، وعملت على تقديم الأخبار التي تمنع الرقابة في الدول العربية نشرها، ثم حدث تطور آخر مهم حيث أصبحت الصحف متاحة عبر الحدود ومجاناً على الإنترنت لتصل إلى جمهور عريض، ولذلك خسرت القنوات التليفزيونية الحكومية المقيدة جزءاً من نصيبها من المشاهدين، وبذلك فقدت جزءاً من أهميتها وتأثيرها حتى إن رئيساً عربياً اعترف بأنه يشاهد المحطات الفضائية بأكثر مما يشاهد تليفزيون بلاده.

وبفضل الحوارات والقنوات الفضائية أصبحت للموضوعات السياسية المقام الأول، بينما كانت القنوات الرسمية تركز على التمثيليات والأغاني وبرامج التسلية، وظهر متحدثون من مختلف الدول ومختلف الاتجاهات، وظهر في العالم العربي اتجاه إلى الحوار والجدل، وأدى ذلك إلى تغيير في برامج الفضائيات العربية، فأصبحت تقدم بانتظام المفكرين والشخصيات السياسية العربية والإسلامية وبعض الشخصيات الأجنبية، وظهرت في قنوات التليفزيونات العربية اختلافات في الرأي، ومعارك فكرية بين المتحدثين وشارك فيها الجمهور أيضاً بآراء تذاع على الهواء مباشرة، وظهرت في صفحات الرأي في الصحف العربية مقالات ذات توجهات متعددة تعكس أكثر من وجهة نظر، وأدى ذلك إلى زيادة مساحة المتابعة والفهم والتفكير، ولم تعد وسائل الإعلام العربية، كما كانت.. لم تعد تردد كالببغاء فكراً واحداً، وأصبحت هناك قنوات تسمح بظهور الآراء المعبرة عن الإحباط والغضب.. واشتدت المنافسة بين الفضائيات العربية إلى حد الصراع، وإلى حد السماح بما أسماه البعض «الإباحية السياسية»، وأصبحت تعرض الصور والأفلام التسجيلية التي تصيب المشاهد العربي بالصدمة.

هذه الوسائل الإعلامية العربية الجديدة – في رأي مارك لينش ـ تساعد القارئ والمشاهد العربي على فهم الأخبار والأحداث وتكوين الرأي حولها، وأصبحت وسائل الإعلام هي التي تعوض عن غياب الديمقراطية الحقيقية، وتواجه خصوم الديمقراطية.

من هذا التحليل الذي يعكس رؤية بعض الباحثين النافذين في الإدارة الأميركية يصل «مارك لينش» إلى أن ذلك المناخ الجديد يجعل أمام أميركا فرصة للتأثير على الرأي العام العربي من خلال هذه الوسائل الإعلامية الجديدة (الفضائيات ـ والصحافة المتحررة ـ والإنترنت ـ والاتصالات بالنخبة)، وقد بدأت إدارة بوش بعد 11 سبتمبر بإرسال عدد من ممثليها إلى الدول العربية وحققوا بعض التحسن، ولكن هذا التحسن تراجع أمام الإحباط والغضب لما يحدث في العراق وأفغانستان والأراضي الفلسطينية، ولم تفلح المحاولات الأميركية لإقناع معظم السياسيين والإعلاميين العرب بتهدئة حدة النقد للسياسة الأميركية حتى بعد أن وضع بعض مقدمي البرامج العلم الأميركي على صدورهم كما يفعل الرئيس الأميركي «بوش» ونائبه «ديك تشيني» ووزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد.

يقول «مارك لينش» إن هذا الفشل يدعو إلى أن تحاول أميركا تغيير لغة الحوار في العالم العربي، وهذا يتطلب شيئاً آخر بتغيير السياسات وليس بالاقتصار على إرسال المزيد من المسؤولين والمتحدثين الأميركيين للظهور أمام ممثلي الصحافة وعلى شاشات التليفزيونات العربية في محاولة لتجميل السياسة الأميركية بالادعاءات والألفاظ الرنانة، لأن تكرار ظهور هؤلاء لا يؤدي إلى تحسين صورة أميركا في العالم العربي بل يؤدي إلى العكس ويؤكد الصورة النمطية السائدة، والمثال على ذلك أن قناة الجزيرة قدمت برنامجا حوارياً لاستطلاع الرأي العام بعنوان (هل تتصرف الولايات المتحدة كقوة إمبريالية في العراق؟) تحدث فيه مسؤول أميركي ذهب خصيصاً للمشاركة في هذا البرنامج، وكان كلما أطال الحديث عن حسن نوايا أميركا يزداد عدد المعبرين عن رأيهم بالموافقة على أن أميركا تتصرف كقوة إمبريالية حتى وصل عدد الموافقين على هذا الرأي إلى 96% من المشاركين من الجمهور.

ويشير «مارك لينش» إلى أن نقطة تحول رئيسية في الرأي العام العربي تجاه أميركا و”إسرائيل” حين قام «آرييل شارون» وهو رئيس للوزراء بإعادة احتلال الضفة الغربية في ربيع عام 2002 ثم حين أعاد احتلال غزة ثم وصل الغضب العربي إلى ذروته بسبب مذبحة جنين، ثم وصل الغضب العربي إلى درجة الاشتعال حين وصف الرئيس جورج بوش شارون ـ وسط هذه المذابح ـ بأنه رجل سلام.

قد نتفق مع بعض جوانب هذه الرؤية الأميركية أو نختلف، ولكن لابد أن نتفهمها ونتعامل معها بجدية لأن ما تقوله مراكز الأبحاث في أميركا لا يلقى الإهمال كما يحدث في العالم العربي، ولكنه يؤثر في النخبة السياسية وفي دوائر صنع القرار.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات