الإثنين 06/مايو/2024

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (6)

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (6)

لم تتخطَّ حملة تدمير المدن الفلسطينية القدس، التي تحولت بسرعة من «المدينة الخالدة»، كما يصفها كتاب لسليم تماري، إلى «مدينة أشباح». قصفت القوات اليهودية الأحياء العربية الغربية ثم هاجمتها واحتلتها في نيسان (أبريل) 1948. وكان عدد من السكان الأثرياء والقاطنين في الأحياء الفخمة قد غادر المدينة قبل عدة أسابيع،. والباقون طردوا من منازلهم التي لا تزال شاهدة على الجمال المعماري لأحياء النخبة الفلسطينية التي بدأت تبني بيوتها خارج أسوار البلدة القديمة منذ نهاية القرن التاسع عشر. وقد بدأ بعض هذه التحف الفنية بالاختفاء في الأعوام الأخيرة، إذ تضافرت حمّى العقارات، وجشع المقاولين لتحول هذه المناطق السكنية الجميلة إلى شوارع تملأها فيلات قبيحة وقصور باذخة لليهود الأميركيين الأثرياء الذين يميلون إلى التقاطر إلى المدينة في شيخوختهم.

عندما جرى «تطهير» هذه المناطق واحتلالها كانت القوات البريطانية لا تزال موجودة في فلسطين، لكنها ظلت بعيدة ولم تتدخل. إنما في منطقة واحدة فقط، قرر قائد بريطاني التدخل، وكان ذلك في الشيخ جرّاح، وهو أول حي فلسطيني بني خارج أسوار البلدة القديمة، وكانت تقيم فيه العائلات العريقة الرئيسة، مثل آل الحسيني والنشاشيبي والخالدي.

كانت التعليمات الصادرة إلى القوات اليهودية في نيسان 1948 واضحة جداً: «عليكم القيام باحتلال الحي وتدمير جميع منازله.» وبدأ الهجوم في 24 نيسان 1948، لكن البريطانيين أوقفوه قبل إنجاز المهمة. ولدينا شهادة بالغة الأهمية على ما حدث في الشيخ جرّاح من أمين سر الهيئة العربية العليا، د. حسين الخالدي، الذي كان يقيم هناك، إذ كانت برقياته اليائسة غالباً ما يتم اعتراضها من الاستخبارات الإسرائيلية، وهي محفوظة في الأرشيفات الإسرائيلية. ويذكر الخالدي أن قوات القائد البريطاني أنقذت الحي، عدا 20 منزلاً نجحت الهاغاناه في نسفها. ويبين هذا الموقف البريطاني المتصدي كم كان مصير كثير من الفلسطينيين اختلف لو أن القوات البريطانية تدخلت في أمكنة أُخرى، كما كانت تلزمها بذلك بنود صك الانتداب وشروط قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة.

امتناع البريطانيين من التدخل كان القاعدة، كما تبين ذلك مناشدات الخالدي الشديدة القلق والتوتر في ما يتعلق بأحياء القدس الأُخرى، خصوصاً تلك الموجودة في الجزء الغربي من المدينة. وكانت هذه المناطق تتعرض لقصف متكرر منذ اليوم الأول من كانون الثاني (يناير). وهنا، خلافاً للشيخ جرّاح، قام البريطانيون بدور شيطاني حقاً، إذ جردوا القلة من السكان الفلسطينيين التي كانت تمتلك أسلحة من أسلحتها، ووعدوا أن يحموا الناس من الهجمات اليهودية، ولكن، فوراً، نكثوا الوعد.

يخبر الدكتور الخالدي، في إحدى برقياته في أوائل كانون الثاني، الحاج أمين، الموجود في القاهرة، كيف أنه في كل يوم تقريباً يتظاهر حشد غاضب من المواطنين أمام منزله باحثاً عن قيادة، ومطالباً بالمساعدة. ويضيف أن الأطباء أخبروه أن المستشفيات تغص بالمصابين، وأن الأكفان التي لديهم لا تكاد تكفي الموتى، وأن فوضى عارمة تعم المدينة، والناس مصابون بذعر شديد.

لكن الأسوأ كان في طريقه إليهم. فبعد أيام قليلة من الهجوم المجهَض على الشيخ جرّاح، تعرضت أحياء القدس الشمالية والغربية لقصف متواصل بمدافع الهاون من عيار 3 إنشات، التي استخدمت في قصف حيفا. وحده حي شعفاط صمد، ورفض الاستسلام، وسقط حي القطمون في الأيام الأخيرة من نيسان. ويتذكر يتسحاق ليفي، رئيس استخبارات الهاغاناه في القدس: «في أثناء «تطهير» القطمون، بدأ النهب والسرقة. وشارك فيهما الجنود والمواطنون سواء بسواء. اقتحموا البيوت وأخذوا الأثاث، والملابس، والأدوات الكهربائية، والأطعمة.»

وكانت المحصلة الإجمالية للتطهير العرقي في منطقة القدس الكبرى «تطهير» ثمانية أحياء وتسع وثلاثين قرية فلسطينية، وطرد سكانها إلى الجزء الشرقي من المدينة. القرى أزيلت من الوجود، لكن بعض أجمل بيوت القدس لا يزال قائماً- تقطن فيه عائلات يهودية استولت عليه فور إخلائه من سكانه- شواهد باقية على المصير المأسوي لمُلاّك هذه البيوت.

عكا وبيسان

واصلت حملة تدمير المدن الفلسطينية اندفاعها، فاحتُلت عكا على الساحل، وبيسان في الشرق في 6 أيار (مايو) 1948. في بداية أيار برهنت عكا مرة أُخرى أن نابليون لم يكن وحده من اكتشف أن من الصعب إخضاعها؛ وعلى رغم الازدحام الشديد الناجم عن تدفق اللاجئين الهائل من مدينة حيفا المجاورة إليها، والقصف اليومي العنيف، فشلت القوات اليهودية في قهر المدينة الصليبية. غير أن مصدر مياهها المكشوف، الواقع على بعد عشرة كيلومترات إلى الشمال منها، من ينابيع الكابري، المسحوبة عبر قناة عمرها 200 عام، كان بمثابة عقب أخيل بالنسبة إليها. ويبدو أنه جرى خلال الحصار تلويث المياه بجراثيم التيفوئيد. وقد رفع مبعوثو الصليب الأحمر الدولي المحليون إلى مركزهم الرئيس تقارير بذلك، ولم يتركوا أدنى شك بمن يشتبهون: الهاغاناه. وتصف تقارير الصليب الأحمر تفشياً مفاجئاً لمرض التيفوئيد، بل حتى تشير، على الرغم من لهجتها الحذرة، إلى تسمّم خارجي كتفسير وحيد له.

في 6 أيار 1948، عقد اجتماع طارئ في مستشفى عكا اللبناني، الذي كان تابعاً للصليب الأحمر. وحضر الاجتماع البريغادير بيفريدج رئيس الخدمات الطبية البريطانية، والكولونيل بونيت من الجيش البريطاني، والدكتور ماكلين من الخدمات الطبية، والسيد دو مورون مندوب الصليب الأحمر في فلسطين، وموظفون حكوميون يمثلون المدينة، وذلك لمناقشة أمر المرضى السبعين الذين قضى عليهم الوباء. وتوصلوا إلى نتيجة فحواها أن الإصابة بالمرض مصدرها من دون شك مياه ملوثة، وليس الازدحام الشديد أو الأوضاع غير الصحية كما ادعت الهاغاناه. وأكد ذلك أن المرض أصاب أيضاً خمسة وخمسين جندياً بريطانياً نقلوا إلى مستشفى بور سعيد في مصر.

«لم يحدث قط شيء كهذا في فلسطين»، أخبر البريغادير بيفريدج دو مورون. وما إن تم تحديد القناة مصدراً للوباء حتى تحول الناس إلى الآبار الأرتوازية والمياه المستمدة من المحطة الزراعية الموجودة شمالي عكا. كما أُخضع اللاجئون من عكا، الموجودون في مخيمات شمالي المدينة، لفحوص طبية منعاً لانتشار الوباء.

مع تدهور المعنويات جرّاء وباء التيفوئيد والقصف العنيف، استجاب الناس للدعوة المنطلقة من مكبرات الصوت التي كانت تصرخ بهم: «استسلموا أو انتحروا. سنبيدكم حتى آخر رجل فيكم». وروى الملازم بوتيت، وهو مراقب فرنسي تابع للأمم المتحدة، أنه بعد سقوط المدينة بيد القوات اليهودية، تعرضت لحملة نهب منظمة واسعة النطاق قام بها الجيش، وشملت الأثاث، والملابس، وأي شيء قد يكون مفيداً للمهاجرين اليهود الجدد، أو من شأن أخذه أن يثني اللاجئين عن العودة.

جرت محاولة مشابهة لتسميم مصادر مياه غزة في 27 أيار ، لكنها أُحبطت. وقبض المصريون على يهوديين، دافيد حورِن وديفيد مِزْراحي، بينما كانا يحاولان تلويث آبار المياه في غزة بجراثيم التيفوئيد والديزنطاريا. وأخطر الجنرال يادين بن- غوريون، رئيس حكومة إسرائيل وقتئذ، بالحادثة، وسجّلها هذا في يومياته من دون تعليق. وأعدم المصريون اليهوديين لاحقاً، ولم تصدر عن الإسرائيليين احتجاجات رسمية.

كان إرنست دافيد بيرغمان مع الأخوين كاتسير، جزءاً من فريق عمل على تطوير قدرة إسرائيل البيولوجية الحربية، شكّله بن- غوريون في الأربعينات، ودُعي بالاسم الملطَّف «سِلْك الهاغاناه العلمي». وقد عُيّن إفرايم كاتسير مديراً له في أيار 1948، وأعيدت تسميته فأصبح يُدعى «حِيمدْ» (الأحرف الأولى في كلمتي «حِيلْ مادَعْ»، أي «سلاح العِلْم»). ولم يساهم هذا السلاح بصورة رئيسة في حملات سنة 1948، لكن إنتاجه المبكر دل على الطموحات التي ستسعى إسرائيل لتحقيقها في المستقبل في مجال الأسلحة غير التقليدية.

في الوقت الذي احتُلت عكا تقريباً، احتل لواء غولاني مدينة بيسان. وعلى غرار صفد، هوجمت المدينة بعد احتلال قرى كانت تقع في جوارها. وكانت القوات اليهودية، بعد نجاحها في احتلال حيفا وطبرية وصفد، واثقة بنفسها وفعالة جداً. وقد حاولت، مُسلّحة بالخبرة التي اكتسبتها بالطرد الجماعي، أن ترغم السكان على الرحيل بسرعة بإنذارهم بمغادرة بيوتهم خلال عشر ساعات. وسُلّم الإنذار إلى «أعيان المدينة»، أي إلى قلة من اللجنة القومية المحلية. ورفض هؤلاء الأعيان ذلك، وحاولوا على عجل تخزين مواد غذائية استعداداً لحصار طويل؛ وجهّزوا بعض الأسلحة، وفي الأساس مدفعان جلبهما إلى المدينة متطوعون، من أجل صد الهجوم الوشيك.

بعد قصف يومي عنيف، بما في ذلك قصف جوي، قررت لجنة بيسان المحلية الاستسلام. وكانت الهيئة التي اتخذت القرار مؤلفة من القاضي المحلي، وأمين سر البلدية، وأغنى تاجر في المدينة. واجتمعوا ببالتي سيلا وزملائه لمناقشة شروط الاستسلام (قبل الاجتماع، طالب الأعضاء بالسماح لهم بالسفر إلى نابلس لمناقشة الاستسلام، لكن طلبهم رُفض). وفي 11 أيار ، أصبحت المدينة تحت السيطرة اليهودية. وتذكّر بالتي سيلا بصورة خاصة المدفعين القديمين البائسين اللذين كان مأمولاً منهما حماية بيسان: مدفعان فرنسيان مضادان للطائرات من مخلّفات الحرب العالمية الأولى، يمثلان المستوى العام للأسلحة التي كانت في حيازة الفلسطينيين والمتطوعين العرب عشية دخول الجيوش العربية النظامية فلسطين.

بعد الاجتماع مباشرة، كان في استطاعة بالتي سيلا وزملائه الإشراف على «الطرد المنظَّم» لسكان المدينة. بعضهم تم ترحيله إلى الناصرة – وقتها كانت لا تزال مدينة فلسطينية حرة، لكن وضعها هذا تغير بعد فترة وجيزة – والبعض الآخر إلى جنين، لكن الغالبية طُردت إلى ما وراء الضفة الأُخرى لنهر الأردن القريب. ويتذكر شهود عيان حشوداً من بيسان، مذعورة ومهيضة الجناح، تتجه مسرعة نحو نهر الأردن، ومن هناك إلى مخيمات أقيمت على عجل في الأراضي الأردنية. لكن، بينما كانت القوات اليهودية مشغولة بعمليات أُخرى في الجوار، نجح عدد قليل جداً منهم في العودة؛ إذ كانت بيسان قريبة جداً من الضفة الغربية ونهر الأردن، وبالتالي كانت عودتهم متسللين من دون أن ينكشف أمرهم سهلة نسبياً. وقد نجحوا في البقاء حتى منتصف حزيران ، وعندئذ حمّلهم الجيش الإسرائيلي تحت تهديد السلاح في شاحنات وطردهم إلى ما وراء نهر الأردن مرة أُخرى.

خراب يافا

كانت يافا آخر مدينة يجري احتلالها، وحدث ذلك في 13 أيار، قبل يومين من انتهاء الانتداب. وعلى غرار كثير من المدن الفلسطينية، كان ليافا تاريخ طويل يرجع إلى العصر البرونزي، وتراث روماني وبيزنطي مثيران للإعجاب. وكان القائد المسلم، عمروبن العاص، هو من احتل المدينة سنة 632، وأكسبها صفتها العربية. وكانت يافا الكبرى تشتمل على أربع وعشرين قرية عربية وسبعة عشر مسجداً؛ لم يبق منها سوى مسجد واحد، بينما اختفت القرى جميعها من الوجود.

في 13 أيار هاجم 5000 جندي تابعين للهاغاناه والإرغون المدينة، بينما حاول متطوعون عرب بقيادة ميشال العيسى، وهو مسيحي محلي، الدفاع عنها. وكان بين المتطوعين وحدة استثنائية مكوّنة من 50 مسلماً من البوسنة، وعدد من أفراد الجيل الثاني من فرسان الهيكل (Templars)، وهؤلاء مستعمرون ألمان جاؤوا البلد في منتصف القرن التاسع عشر كمبشرين دينيين وقرروا الآن أن يدافعوا عن مستعمراتهم (استسلم فرسان آخرون في الجليل من دون قتال، وطردوا بسرعة من مستعمرتين جميلتين، فالدهايم وبيت لحم، غربي الناصرة).

إجمالاً، كان ثمة في يافا قوة دفاعية أكبر مما كان لدى الفلسطينيي

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

الاحتلال يقصف مناطق متفرقة جنوب لبنان

الاحتلال يقصف مناطق متفرقة جنوب لبنان

بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام شن طيران الاحتلال الإسرائيلي -اليوم الاثنين- غارات على عدة بلدات جنوب لبنان، بالتزامن مع قصف مدفعي. وقالت "الوكالة...