عاجل

الإثنين 06/مايو/2024

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (5)

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (5)

في وقت مبكر من نيسان (أبريل)، عدّد بن غوريون بافتخار أمام أعضاء من حزبه مباي، أسماء القرى العربية التي احتلتها القوات اليهودية قبيل ذلك التاريخ. وفي مناسبة أُخرى، في 6 نيسان، نجده يوبخ أعضاء في اللجنة التنفيذية للهستدروت من ذوي الميول اليسارية تساءلوا عن الحكمة من مهاجمة الفلاحين بدلاً من مجابهة مُلاّك الأراضي، الأفندية، ويقول لواحد من كبارهم: «لا أوافقك في أننا يجب أن نجابه الأفندية وليس الفلاحين: أعداؤنا هم الفلاحون العرب».

كان مدركاً في ذلك الوقت أن فلسطين باتت في قبضته، إلاّ انه لم يبالغ في الثقة، ولم يشارك في احتفالات 15 أيار 1948، لأنه كان يعي جسامة المهمة الماثلة أمامه: تطهير فلسطين عرقياً، والتأكد من أن المحاولات العربية لن تنجح في منع اليهود من الاستيلاء على البلد.

وعندما وُضعت الخطة دالِتْ موضع التنفيذ، كان في تصرف الهاغاناه أكثر من 50000 جندي، نصفهم تدرب على أيدي البريطانيين خلال الحرب العالمية الثانية، وكان أوان تنفيذ الخطة قد حان.

أول عملية في خطة دالِتْ

المنطقة الأولى التي اختيرت لوضع الخطة دالِتْ موضع التطبيق كانت الهضاب الريفية الواقعة على المنحدرات الغربية لجبال القدس، في منتصف الطريق المفضي إلى تل أبيب. واتخذ القرار بتنفيذ عملية نَحْشون، التي ستشكل نموذجاً للحملات التالية: الطرد الجماعي المفاجئ.

وإذا حكمنا بموجب المحصلة النهائية لهذه المرحلة، وأعني بها نيسان – أيار 1948، فإن المشورة كانت عدم الإبقاء ولو على قرية واحدة. وبينما كانت الخطة دالِتْ الرسمية تعرض على القرية خيار الاستسلام، فإن الأوامر العملانية لم تستثنِ أي قرية [من التدمير والطرد- المترجم] مهما يكن السبب. وبذلك تحولت الخطة الرئيسية إلى أمر عسكري بالشروع في تدمير القرى. وقد اختلفت التواريخ بحسب الجغرافيا: لواء ألكسندروني، الذي سيجتاح الساحل العامر بعشرات القرى، مخلفاً وراءه قريتين فقط، تلقى أوامره مع اقتراب نيسان من نهايته؛ والتعليمات بتطهير الجليل الشرقي وصلت إلى قيادة لواء غولاني في 6 أيار 1948، وفي اليوم التالي أقدم على تطهير القرية الأولى في «منطقته»، قرية الشجرة.

تلقت وحدات البالماخ أوامرها بالقيام بعملية نَحْشون في اليوم الأول بالذات من نيسان 1948. وكانت الهيئة الاستشارية اجتمعت في الليلة السابقة في منزل بن- غوريون لوضع اللمسات النهائية على التعليمات للوحدات. كانت الأوامر واضحة: «الهدف الرئيسي للعملية هو تدمير القرى العربية…. [و] طرد القرويين كي يصبحوا عبئاً اقتصادياً على القوات العربية العامة».

واقترنت عملية نَحْشون بتجديدات في نواحٍ أُخرى أيضاً. فقد كانت أول عملية حاولت فيها جميع المنظمات العسكرية اليهودية المتعددة أن تعمل كجيش موحد، واضعة بذلك الأساس لجيش الدفاع الإسرائيلي المرتقب. وكانت هذه أول عملية يتّحد فيها يهود أوروبا الشرقيون القدامى، الذين كانوا بحكم الطبيعة مهيمنين على المشهد العسكري، مع المجموعات الإثنية الأُخرى، مثل القادمين الجدد من العالم العربي ومن أوروبا ما بعد الهولوكوست.

عبدالقادر الحسيني

كتب قائد إحدى الكتائب، التي شاركت في هذه العملية، أوري بن آري، في مذكراته، أن «صَهْرَ الشتات» كان واحداً من الأهداف المهمة لعملية نَحْشون. وكان بن آري آنذاك شاباً يهودياً ألمانياً جاء فلسطين قبل بضع سنوات. واستكملت وحدتـه استعـداداتها لعملية نَحْشون على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بالقرب من الخضيرة. وتذكّر أنه رأى نفسه شبيهاً بالجنرالات الروس الذين حاربوا النازيين في الحرب العالمية الثانية. وكان «النازيون» في حالته عدداً كبيراً من القرى الفلسطينية المعزولة الواقعة بالقرب من طريق يافا – القدس، والمجموعات شبه العسكرية التابعة لعبد القادر الحسيني التي جاءت لنجدتها.

كانت وحدات عبدالقادر الحسيني ترد على الهجمات اليهودية السابقة بإطلاق النار عشوائياً على وسائط النقل اليهودية المارة بالطرقات، موقعة عدداً من القتلى والجرحى بين المسافرين. أمّا القرويون أنفسهم، كما كانت عليه الحال في أماكن أُخرى من فلسطين، فقد كانوا يحاولون مواصلة العيش كالمعتاد، غافلين عن الصورة الشيطانية التي ينسبها إليهم بن آري ورفاقه. وخلال أيام قليلة سيطرد معظمهم إلى الأبد من البيوت والحقول التي عاشوا هم وأجدادهم فيها وزرعوها منذ قرون. وقد أبدت المجموعات الفلسطينية شبه العسكرية، بقيادة عبدالقادر الحسيني، مقاومة أشد مما توقعت كتيبة بن آري، الأمر الذي أدى إلى عدم تقدم عملية نَحْشون في البداية وفقاً للخطة. لكن مع حلول 9 نيسان كانت الحملة قد انتهت.

في ذلك اليوم نفسه سقطت أول قرية من القرى الفلسطينية العديدة الموجودة حول القدس في أيدي اليهود، على رغم أن اسمها الميمون- القسطل (القلعة). كانت تحصيناتها القديمة لا تزال قائمة، لكنها لم تستطع حمايتها من القوات اليهودية المتفوقة. وكانت القرية واقعة على القمة الغربية الأخيرة قبل الصعود النهائي إلى القدس. ولا يذكر النصب الذي أقامته إسرائيل في الموقع تخليداً للهاغاناه أنه كان هناك بالتحديد قرية فلسطينية. وتشكل اللوحة الموضوعة لإحياء ذكرى المعركة مثالاً نموذجياً لمدى عمق تجذّر لغة الخطة دالِتْ في التاريخ الشعبي الإسرائيلي حالياً. فكما كان الأمر في الخطة، لا تشير اللوحة إلى القسطل كقرية، وإنما كـ «قاعدة للعدو»: القرويون الفلسطينيون يُجردون من إنسانيتهم كي يمكن تحويلهم إلى «أهداف شرعية» يجوز استهدافها بالتدمير والطرد.

في 9 نيسان، قتل عبدالقادر الحسيني في المعركة بينما كان يدافع عن القرية. وقد أدى موته إلى تدهور معنويات جنوده إلى حد أن القرى الأُخرى في القدس الكبرى سقطت كلها بسرعة في أيدي القوات اليهودية. حوصرت واحدة تلو الأُخرى، ثم هوجمت واحتُلت، وطُرد سكانها، وهُدمت بيوتهم ومبانيهم. وفي عدد منها، رافق الطرد مجازر كان أسوأها صيتاً المجزرة التي ارتكبتها القوات اليهودية، يوم سقوط القسطل نفسه، في دير ياسين.

تجلت طبيعة خطة دالِتْ المنهجية والمنظمة جيداً في دير ياسين. وهي قرية هادئة ومسالمة توصلت إلى معاهدة عدم اعتداء مع الهاغاناه في القدس، لكن حُكم عليها بالهلاك لأنها كانت تقع داخل المناطق التي عينتها الخطة دالِتْ أهدافاً للتطهير. ولأن الهاغاناه كانت وقّعت اتفاقاً مع القرية، فإنها قررت أن ترسل إليها قوات الإرغون وعصابة شتيرن، كي تعفي نفسها من أي مسؤولية رسمية. ويُذكر أن في التطهيرات اللاحقة لـ «القرى الصديقة» تخلت الهاغاناه حتى عن اعتبار هذه الخدعة ضرورية.

في 9 نيسان 1948، احتلت القوات اليهودية قرية دير ياسين الواقعة على هضبة إلى الغرب من القدس، على ارتفاع 800 متر فوق سطح البحر بالقرب من حي غِفعات شاؤول اليهودي. وتستخدم مدرسة القرية القديمة اليوم مستشفى للأمراض العقلية يخدم الحي اليهودي الغربي الذي تمدد فوق أراضي القرية المدمرة.

عندما اقتحم الجنود اليهود القرية، رشقوا البيوت بنيران المدافع الرشاشة، متسببين بقتل كثير من سكانها. ومن ثم جمعوا بقية القرويين في مكان واحد وقتلوهم بدم بارد، وانتهكوا حرمة أجسادهم، في حين اغتُصب عدد من النساء ومن ثم قُتلن.

الهدف التالي كان أربع قرى مجاورة: قالونيا، ساريس، بيت سوريك، بِدّو. ولم تستغرق العملية في كل قرية أكثر من ساعة واحدة أو نحوها – دخلت وحدات الهاغاناه القرية المعنية، ونسفت البيوت، وطردت السكان. ومن المثير للاهتمام (أو للسخرية، إن شئت) أن ضباط الهاغاناه ادعوا أنهم اضطروا إلى بذل جهد كبير لكبح سُعار النهب الذي تملّك مرؤوسيهم في كل قرية بعد احتلالها. ويروي بن آري، الذي كان مشرفاً على وحدة زرع المتفجرات التي نسفت البيوت، في مذكراته، كيف أنه بمفرده أوقف عملية نهب القرى. لكن أقل ما يقال في ادعائه هذا أنه مبالغ فيه، علماً أن الفلاحين هربوا من دون أن يحملوا شيئاً معهم بينما وجدت مقتنياتهم طريقها إلى صالونات ومزارع الجنود والضباط، سواء بسواء، كتذكارات حرب.

قريتان في المنطقة نفسها أُعفيتا من التدمير: أبو غوش والنبي صموئيل. وكان السبب في ذلك أن مختاريهما أقاما علاقات ودية مع القادة المحليين لعصابة شتيرن. ومن سخريات القدر أن هذا كان ما حال بينهما وبين الدمار والطرد، إذ أرادت الهاغاناه تدميرهما، لكن الجماعة الأكثر تطرفاً، عصابة شتيرن، سارعت إلى نجدتهما. بيد أن هذا كان استثناء نادراً، إذ لاقت مئات من القرى مصير قالونيا والقسطل نفسه.

إن ثقة القيادة اليهودية في أوائل نيسان بقدرتها لا على الاستيلاء على المناطق التي منحتها الأمم المتحدة للدولة اليهودية فحسب، بل أيضاً على تطهيرها، يمكن سبرها من الطريقة التي وجهت فيها الهاغاناه، مباشرة بعد عملية نَحْشون، اهتمامها إلى المراكز الحضرية الرئيسية في فلسطين. وقد هوجمت هذه المراكز بصورة منهجية خلال بقية الشهر، بينما كان موظفو الأمم المتحدة والموظفون البريطانيون يراقبون ما يجري بلا مبالاة ومن دون أن يحركوا ساكناً.

انطلق الهجوم على المراكز الحضرية ابتداء بطبرية. فما إن وصلت أخبار دير ياسين، وأخبار المجزرة التي وقعت بعد ثلاثة أيام في 12 نيسان في قرية ناصر الدين، إلى السكان الفلسطينيين في طبرية، حتى هرب كثيرون منهم. وكان السكان قد أفزعهم القصف اليومي العنيف من جانب القوات اليهودية المتمركزة على الهضاب المشرفة على هذه العاصمة التاريخية القديمة الواقعة على شاطئ بحيرة طبرية، حيث كان نحو 6000 يهودي و 5000 عربي يعيشون هم وأجدادهم معاً بسلام منذ قرون. ولم يتمكن جيش الإنقاذ، بسبب العرقلة البريطانية، من نجدة المدينة بأكثر من قوة مؤلفة من نحو ثلاثين متطوعاً. ولم يكن هؤلاء نداً لقوات الهاغاناه، التي كانت تدحرج براميل مملوءة بالمتفجرات من الهضاب إلى المدينة، وتستخدم مكبرات الصوت لإصدار أصوات مخيفة لبث الذعر في قلوب السكان – نسخة مبكرة عن اختراق الطائرات المقاتلة لجدار الصوت فوق بيروت في سنة 1982 وفوق غزة في سنة 2005، الذي دانته منظمة حقوق الإنسان بصفته عملاً إجرامياً. وسقطت طبرية في 18 نيسان.

طرد أهل حيفا

تمت الموافقة على العمليات التي جرت في حيفا بأثر رجعي، ورحبت الهيئة الاستشارية بها، مع أنها لم تكن بالضرورة المبادرة إلى [إصدار الأوامر- المترجم]. وكان الترويع المبكر لسكان المدينة العرب في كانون الأول [1947 – المترجم] قد دفع كثيرين من أبناء النخبة الفلسطينية إلى المغادرة إلى مساكنهم في لبنان ومصر، ريثما يعود الهدوء إلى مدينتهم. ومن الصعب تقدير عدد الذين يمكن تصنيفهم ضمن هذه الفئة: معظم المؤرخين يقدر الرقم ما بين 15000 و20000.

في 12 كانون الثاني (يناير) 1948، أبرق زعيم محلي يدعى فريد السعد، مدير البنك العربي في حيفا وعضو اللجنة القومية المحلية، إلى الدكتور حسين الخالدي، سكرتير الهيئة العربية العليا، قائلاً بيأس: «من حسن الحظ أن اليهود لا يعرفون الحقيقة». وكانت «الحقيقة» أن النخبة الحضرية في فلسطين انهارت بعد شهر من القصف اليهودي العنيف والاعتداءات. لكن اليهود كانوا يعرفون تماماً ما كان يجري. وفي الواقع، كانت الهيئة الاستشارية تعرف جيداً أن الأغنياء والميسورين غادروا في كانون الأول (ديسمبر)، وأن المدينة لم تكن تصل إليها أسلحة عربية، وأن الحكومات العربية لم تكن تفعل أكثر من شن حرب كلامية حماسية عبر الأثير لإخفاء تقاعسها عن العمل وعدم رغبتها في التدخل

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات