عاجل

السبت 01/يونيو/2024

اللوبي.. بين أميركا وإسرائيل

اللوبي.. بين أميركا وإسرائيل

صحيفة البيان الإماراتية

في مثل هذه الأيام من العام الماضي، صدرت الدراسة الأميركية الشهيرة التي اختار لها مؤلفاها (أحدهما أكاديمي يهودي بارز) عنوان «اللوبي الإسرائيلي».

وعلى امتداد الربيع والصيف من العام نفسه قامت قيامة الجماعات اليهودية في أميركا وتوالت اللعنات والانتقادات إلى حد التشهير على رأس صاحبي الدراسة التي حاولا فيها ـ باتباع نهج التحليل العلمي والدراسة الموضوعية ـ أن يوضحا أن جماعات الضغط اليهودية التي كرست نفسها تحت مسميات شتى إنما تعمل لمصلحة “إسرائيل” في نهاية المطاف وليس لصالح الولايات المتحدة التي يتواجد هذا اللوبي على أرضها ويتمتع بجنسيتها ولا بد أن يتجه ولاؤه الوطني إليها أو هذا هو المفروض.

كانت أعلى فصائل هذا اللوبي صوتاً وأشدها إثارة للضجيج واللعنات هي «لجنة مكافحة التشهير» التي تتمتع بنفوذ واسع النطاق خاصة وإنها تركز جهودها أساساً على ممارسة كل أنواع الضغوط والاتصالات، إلى درجة الابتزاز أحياناً، بالنسبة لأعضاء مجلس الكونغرس في واشنطن، انطلاقاً من إدراك ـ سليم بحق في رأينا ـ بأن أعضاء هذه السلطة التشريعية هم الأقدر في التأثير على ما تتخذه السلطة التنفيذية ـ الرئاسة والإدارة ـ من قرارات وخاصة في مجال السياسة الخارجية.

وبالطبع كان من ثمرات هذه الضغوط أن جلبت هذه السياسة الخارجية لواشنطن صنوف العداء في نظر شعوب الشرق الأوسط، لا كراهية في واشنطن وشعبها، ولكن كراهية في ذلك الانحياز المتواصل وغير الموضوعي ولا المنصف لصالح “إسرائيل”. ولم تكد عاصفة اللوبي يهدأ غبارها، حتى ثارت العاصفة الأخرى.. مع مطالع العام الحالي عندما نشر الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر أحدث كتبه بعنوان «فلسطين السلام وليس الفصل العنصري (الأبارثيد)».

ونحسب أن اللوبي الصهيوني ثارت ثائرته ضد كارتر، أولاً بحكم مكانته التاريخية في أميركا بحيث أن له كلمته مسموعة كما يحسب له استقامته الأخلاقية ومبادراته السياسية الحكيمة التي تحولت به من مجرد رئيس سابق أو متقاعد إلى حيث أصبح داعية مخلصاً لحقوق الإنسان والحريات الأساسية وإلى نزاهة الانتخابات في طول العالم وعرضه. ثم إن كارتر شخصية لا يزايد عليها أحد بالنسبة ل”إسرائيل”.

وإذا كان الكثيرون من يهود أميركا قد أطلقوا ألسنتهم في حق الرئيس الأميركي الأسبق هجوماً وتشنيعاً، سواء على صفحات الصحف أو على شاشات التلفاز وأجهزة الحواسيب، فها هو الكاتب جوزيف ليليفيلد يلاحظ أن «لجنة مكافحة التشهير» وهي محور اللوبي الإسرائيلي كما ألمحنا ـ شاركت في الهجوم ولكنها التزمت جادة الحذر فلم تصل إلى اتهام جيمي كارتر ـ كما فعل الآخرون ـ بأنه معاد للسامية (بمعنى كاره لليهود)..

وكيف لها أن تفعل في حين يسجل للسيد كارتر ـ كما يضيف الكاتب ليليفيلد بالحرف ـ «هو الذي قام منذ نحو ثلاثة عقود (بتعاون مع الرئيس المصري أنور السادات) بدور الوسيط في اتفاقات كامب ديفيد التي كفلت ل”إسرائيل”، كما يؤكد الكاتب الأميركي، موقعاً آمناً وشرعية مستقرة في المنطقة (الشرق الأوسط) بأكثر مما فعلته الدبلوماسية لا من قبل ولا من بعد (مجلة نيويورك تايمز المعنية بالكتب، عدد 20/3/2007).

مع ذلك، فإذا كان سياسي مثل كارتر ينحو باللائمة على “إسرائيل” فهناك عناصر أخرى ـ يهودية حتى لا ننسى ـ تفعل الشيء نفسه من داخل أميركا ذاتها، لأنها ترى في الكيان الإسرائيلي تركيبة تجمع بين العنصرية والانتهازية بل والإساءة إلى اليهود أنفسهم.

وأيا كان نصيب مثل هذه الآراء الأميركية من الصواب، فالشاهد أنها تعكس نوعاً نكاد نلحظه حالياً من التململ أو حتى مراجعة النفس بين صفوف النخب من المفكرين أو الساسة أو المحللين في الولايات المتحدة.. من ذلك مثلًا ما نشرته مؤخراً الكاتبة «شيري وولف» في المجلة الأميركية اليسارية، آي. إس. آر. (عدد إبريل 2007) حول اللوبي الإسرائيلي موضحة أن «عواصف الهجوم الذي تعرض له مؤلفا دراسة اللوبي فضلاً عن وصف طروحاتهما بالعداء للسامية، ما هي إلا محاولات مباشرة ومتعمدة لإسكات أي صوت أو رأي يتصل بعلاقات “إسرائيل” مع الولايات المتحدة وبالسياسات الإسرائيلية.. الوحشية (نص كلمات الكاتبة الأميركية) بحق الفلسطينيين والعرب في كل أنحاء المنطقة.

تلك هي الفصائل التي بات يرتفع صوتها حالياً على ساحة المشهد السياسي الأميركي بعد أن انكشفت أخطاء التحالف الذي تحكّم في مقاليد الولايات المتحدة على مدار السنوات الماضية، وهو تحالف قام بين عناصر اليمين الديني المتعصب (الإيفانجيلي) وفصائل اليمين السياسي (المحافظون الجدد). وفي مواجهة هذا المد نجد عناصر اللبرالية ـ أو اليسار الديمقراطي كما قد نسميه أو حتى العناصر الأكاديمية التي تحترم الحقيقة وتكرس الموضوعية وتحرص على أن تكسب أميركا مودة الشعوب.. عقلها وقلبها كما تقول دعايات الدبلوماسية العامة كما يسميها أهل الحرفة في واشنطن.

وبين المعسكرين نلاحظ في الوقت الراهن ضروباً من الاشتباك الفكري التي جسدتها مؤخراً قصة الصراع الذي يدور حالياً بين أستاذين كلاهما يهودي الديانة ولكنهما على طرفي نقيض من حيث الآراء السياسية.. أولهما: البروفيسور نورمان فنكلشتاين وقد أصدر كتابيه الشهيرين، الأول هاجم فيه استغلال حوادث محارق النازي ضد اليهود وغيرهم من الشعوب لتكون مصدراً للارتزاق أو فلنقل حرفة لتسول التعويضات (بالمليارات طبعاً) ولهذا اختار لكتابه المذكور عنوان «صناعة الهولوكوست» الصادر سنة 2000.

وبعدها عمد إلى انتقاد الذين يزيفون تاريخ العالم أو يحاولون إعادة كتابته لتبرئة اليهود من كل عيب أو نقيصة وربما لتكريس حكاية شعب الله المختار وكان أن أصدر كتابه الثاني في العام الماضي بعنوان استخدم فيه ألفاظ من لغة اليديش التي يتكلم بها يهود أوروبا الشرقية ويمكن التصرف في ترجمة العنوان على النحو التالي.. «الذين خلعوا برقع الحياء: استغلال معاداة السامية وتشويه التاريخ».

من يومها والأستاذ الجامعي لا يهنأ له عيش وإذا كان بالإمكان انتقاده أو حتى مهاجمته على صفحات الجرائد أو في ميديا الإعلام.. فإن أستاذاً آخر هو البروفيسور اليهودي أيضاً ألان درشوفتز من كلية الحقوق بجامعة هارفارد وهو من غلاة مؤيدي “إسرائيل” ـ ما زال يلاحق زميله ويكتب إلى كل الجهات وكل الدوائر وكل المحافل كي يحاربه في رزقه ويحرض على عدم نشر كتبه.. ولهذا كانت آخر صولاته (نيويورك تايمز، 12/4) هي محاولة التدخل لدى جامعة شيكاغو للحيلولة دون ترقية فنكلنشتاين إلى درجة كرسي الأستاذية الذي يكفل لصاحبه تعييناً دائماً في سلك هيئة التدريس.. وذلك أمر لم تكد تشهده التقاليد الأكاديمية وخاصة في جامعات الولايات المتحدة.

تقول الكاتبة باتريشيا كوهن إن الأستاذ درشوفتز أمطر جامعة شيكاغو بوابل من الرسائل الإلكترونية التي تهاجم زميله.. ولدرجة أثارت حنق الجامعة المذكورة وأن جعلت رئيسها يتردد إزاء الموافقة على الترقية. وتضيف أن السبب الأساسي لهذا كله هو كتاب «صناعة الهولوكوست» الذي يهاجم فيه مؤلفه استغلال معاناة اليهود لحساب يهود “إسرائيل” وأميركا من جهة ولاستخدام حكاية المحرقة من أجل اضطهاد وقهر الفلسطينيين وابتزاز الأموال من ألمانيا من جهة أخرى.

وإذا كان الكتاب المذكور قد أحدث دويا لدى صدوره مع مطلع القرن الحالي ـ حيث حقق مبيعات طائلة ونال انتقادات بالغة القسوة.. فقد بادر أستاذ الحقوق في هارفارد وهو أيضاً محام شهير إلى إصدار كتاب ـ الضد بعنوان «دفاعاً عن “إسرائيل”» وهو ما دفع بالأستاذ فنكلنشتاين إلى وصفه أو وصف كاتبه بأنه يجافي فضيلة الحياء أو اتسم بقدر من الصفاقة لدرجة استغلال معاداة السامية والاجتراء على التاريخ..

بل زاد إلى حد اتهام صديق “إسرائيل” بآفة السرقة العلمية وأنه لم يشارك في كتاب الدفاع عن الكيان الصهيوني سوى بأن وضع اسمه على غلافه في حين أن الكتاب من تأليف آخرين. في غمار هذا كله نطالع آراء تأتي من معسكر مقابل وتنكر أن اللوبي الإسرائيلي يواجه سياسات أميركا بكل مكانتها ـ الإمبراطورية كما يصفونها ـ لصالح الكيان الإسرائيلي في الشرق الأوسط. ومرة أخرى توضح الأستاذة شيري وولف التي ألمحنا إليها أن العكس هو الصحيح ثم تضيف قائلة:

إن “إسرائيل” هي مجرد «بلطجي» للإيجار وهي بالتالي تمثل قاعدة مستقرة ومأمونة تكفل لأميركا ممارسة نفوذها في منطقة الشرق الأوسط.. خاصة وقد وعت أميركا الدرس المستفاد في عام 1979 حين سقط الشاه في طهران بعد أن وظفت واشنطن في نظامه استثمارات طائلة (أموالاً ودعماً ونفوذاً ودعايات)..

وسواء كانت “إسرائيل” بالنسبة لأميركا منطقة نفوذ، أو كانت أكبر حاملة طائرات أميركية كما وصفها يوما الجنرال ألكسندر هيج وزير خارجية أميركا الأسبق.. فإنها في التحليل الأخير ـ في رأي الكاتبة الأميركية التي نحيل إليها ليست أكثر من «كلب الحراسة» وليست بالسيد المطاع بحال من الأحوال.

كاتب مصري

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات