الثلاثاء 07/مايو/2024

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (4)

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (4)

أخذت العمليات العسكرية اليهودية تتجاوز بصورة منهجية العمل الانتقامي والتأديبي، وتتجه نحو مبادرات تطهيرية داخل المساحة التي خصصتها الأمم المتحدة للدولة اليهودية. وكانت كلمة تطهير، «تيهور» بالعبرية، نادراً ما تُستخدم في اجتماعات الهيئة الاستشارية، لكنها كانت ترد في كل أمر صادر عن القيادة العليا إلى الوحدات في الميدان. وهي تعني بالعبرية ما تعنيه في أية لغة أُخرى: طرد جميع السكان من قراهم ومدنهم. وقد طغى هذا التصميم على الاعتبارات السياسية الأُخرى كلها.

لا شيء من الجو الذي كان سائداً في الاجتماعات الأولى للهيئة الاستشارية انعكس في الخطب النارية التي كان بن – غوريون يلقيها أمام الجمهور العريض. كان يخبر جمهوره بلهجة ميلودرامية مشحونة بالعاطفة: «هذه حرب هدفها تدمير المجتمع اليهودي وإبادته».

ويجب أن نضيف أن هذه الخطب لم تكن مجرد لغة رنانة. فالقوات اليهودية كانت تتكبد فعلاً إصابات في أثناء محاولاتها إبقاء الخطوط مفتوحة إلى المستوطنات المعزولة التي زرعها الصهيونيون في قلب المناطق الفلسطينية. ومع حلول نهاية كانون الثاني (يناير)، كان 400 مستوطن يهودي قد قتلوا من جراء هجمات تعرضوا لها – وهو رقم كبير بالنسبة إلى مجتمع بلغ تعداده 660.000 نسمة (لكنه أقل جداً من الـ1500 فلسطيني الذين كانوا قتلوا حتى ذلك الوقت من جراء القصف العشوائي لقراهم وأحيائهم). ووصف بن – غوريون القتلى اليهود بأنهم «ضحايا هولوكوست ثانية».

كانت محاولة تصوير الفلسطينيين، والعرب عامة، بأنهم نازيون وسيلة في حملة علاقات عامة تعمد القائمون بها استخدامها لضمان ألاّ تضعف عزيمة الجنود اليهود عندما يتلقون الأوامر، ولمّا يمض بعد أكثر من ثلاثة أعوام على الهولوكوست، بتطهير وقتل وإبادة بشر آخرين.

وفي عدد من المناسبات العامة، ذهب بن – غوريون بعيداً إلى حد وصف المجهود الحربي اليهودي بأنه محاولة لحماية شرف الأمم المتحدة وميثاقها. وهذا التناقض بين السياسة الصهيونية العنيفة والمدمرة من ناحية، وبين خطاب سلمي علني من ناحية أُخرى، سوف يتكرر في منعطفات متعددة من تاريخ الصراع، لكن الخداع عام 1948 يبدو مروّعاً بصورة خاصة.

في شباط (فبراير) 1948، قرر بن – غوريون توسيع الهيئة الاستشارية فأضاف إليها ممثلي المنظمات الصهيونية المسؤولة عن التجنيد وشراء الأسلحة. وهذا يؤكد، مرة أُخرى، كم كان الارتباط وثيقاً بين مسألة التطهير العرقي وبين القدرة العسكرية. وبينما كان بن – غوريون في المناسبات العلنية يرسم سيناريوات هولوكوست ثانية مرعبة، استمعت الهيئة الاستشارية الموسعة إلى تلخيص منه للإنجازات المدهشة في مجال التجنيد الإجباري الذي فرضته القيادة الصهيونية على المجتمع اليهودي، وفي مجال شراء الأسلحة، لا سيما ما يتعلق بالأسلحة الثقيلة والطائرات.

وكانت هذه المشتريات الجديدة من الأسلحة هي التي مكنت القوات على الأرض، مع حلول شباط 1948، من توسيع عملياتها والنشاط بفعالية أشد في الريف الفلسطيني. وكان من النتائج الرئيسية للأسلحة الأشد فتكاً القصف الثقيل، وخصوصاً بمدافع الهاون الجديدة، الذي بات يوجه إلى القرى والأحياء كثيفة السكان.

ويمكن تقدير مدى ثقة العسكريين بقدرتهم من خلال معرفتنا أن الجيش اليهودي صار وقتها قادراً على تطوير أسلحة تدميرية خاصة به. وقد تابع بن – غوريون شخصياً عملية شراء سلاح فتاك في شكل بارز سيستخدم بعد فترة وجيزة في إحراق حقول الفلسطينيين وبيوتهم: قاذفة اللهب. وكان الأستاذ في الكيمياء، ساشا غولدبيرغ، اليهودي البريطاني، هو من عُيّن رئيساً لمشروع شراء، ومن ثم تصنيع، هذا السلاح، أولاً في مختبر في لندن، ولاحقاً في رحوفوت، جنوب تل أبيب، فيما أصبح لاحقاً في الخمسينات معهد وايزمن. ويحفل تاريخ النكبة الشفهي بأدلّة وفيرة على التأثيرات المروعة لهذا السلاح في الأشخاص والأملاك.

وكان مشروع قاذفة اللهب جزءاً من وحدة أوسع لتطوير أسلحة بيولوجية بإشراف عالم كيمياء طبيعية اسمه إفرايم كتسير (لاحقاً رئيس دولة إسرائيل الذي، في زلة لسان، كشف للعالم في الثمانينات أن في حيازة الدولة اليهودية أسلحة نووية). وقد بدأت الوحدة البيولوجية، التي كان يقودها مع أخيه أهارون، عملها بصورة جدية في شباط. وكان هدفها الرئيسي اختراع سلاح يمكن أن يسبب الإصابة بالعمى. وقد ذكر في تقرير له مرفوع إلى بن – غوريون: «نجري تجاربنا على الحيوانات. كان الباحثون عندنا يرتدون أقنعة غاز وملابس واقية. نتائج جيدة. الحيوانات لم تهلك (أصيبت بالعمى فقط). نستطيع أن ننتج يومياً 20 كيلوغراماً من هذه المادة.» وفي حزيران (يونيو)، اقترح كتسير استعمال هذه المادة ضد البشر.

وكانت هناك ضرورة لمزيد من القوة العسكرية أيضاً لأن وحدات من جيش الإنقاذ رابطت في بعض القرى، وأصبح احتلالها يتطلب مجهوداً أكبر. وفي الواقع، كان وصول جيش الإنقاذ إلى بعض الأماكن مهماً من الناحية النفسية أكثر مما كان مهماً عسكرياً. إذ لم يكن لديه الوقت لتحويل القرويين إلى مقاتلين، ولا العتاد اللازم للدفاع عن القرى. وعلى أية حال، لم يكن جيش الإنقاذ قد وصل في شباط إلاّ إلى عدد قليل من القرى، الأمر الذي كان يعني أن الفلسطينيين كانوا في معظمهم ما زالوا غير مدركين ما سيطرأ على حياتهم من تغيرات دراماتيكية وحاسمة. ولم يكن لدى قادتهم، أو لدى الصحافة الفلسطينية، أي فكرة عما كان يجرى تداوله خلف الأبواب المغلقة في البيت الأحمر، بالقرب من الضواحي الشمالية لمدينة يافا. وقد شهد شباط 1948 عمليات تطهير عرقي رئيسية، وعندئذ فقط بدأ يتضح للناس، في أماكن معينة من البلد، معنى الكارثة التي كانت على وشك أن تنزل بهم.

في منتصف شباط 1948، اجتمعت الهيئة الاستشارية لمناقشة تداعيات الوجود المتنامي لمتطوعين عرب داخل فلسطين. وأخبر إلياهو ساسون الحاضرين أن عدد المتطوعين العرب الذين دخلوا البلد كجزء من جيش الإنقاذ لم يتجاوز حتى تلك اللحظة 3000 متطوع (يذكر بن – غوريون في يومياته رقماً أصغر). وقال إنهم جميعاً تلقوا «تدريباً سيئاً»، مضيفاً أنه «إذا لم نستفزهم فلن يقوموا بأي نشاط، وستكف الدول العربية عن إرسال مزيد منهم.» ودفع هذا الوصف يغآل ألون مرة أُخرى إلى التحدث بصخب داعياً إلى القيام بعمليات تطهير واسعة النطاق، لكنه اصطدم بمعارضة من يعقوب دروري، رئيس هيئة الأركان المرتقب، الذي أصر على تبني مقاربة أكثر حذراً. غير أن دروري مرض بعد فترة وجيزة من ذلك وكف عن أداء أي دور. وجرى استبداله بيغئيل يادين، الذي كان أكثر ميلاً إلى القتال.

كان يغئيل يادين أفصح في 9 شباط عن نياته الحقيقية بالدعوة إلى «غارات أكثر عمقاً» في المناطق الفلسطينية. وخص بالذكر قرى ذات كثافة سكانية عالية، مثل فسوطة وتربيخا وعيلوط في الجليل الشمالي كأهداف للغارات، بقصد تدمير هذه القرى كلياً. وقد رفضت الهيئة الاستشارية الخطة على اعتبار أنها طموحة جداً، واقترح بن – غوريون وضعها على الرف موقتاً. وكانت التسمية الرمزية التي اقترحها يادين للعملية «لامِدْ- هِيهْ»؛ وعنى بذلك أنها رد انتقامي على الهجوم على قافلة غوش عتسيون. بعد أيام قليلة، وافقت الهيئة الاستشارية على خطط أُخرى مشابهة – حملت التسمية الرمزية نفسها – داخل مناطق ريفية فلسطينية، لكنها أصرت على ربطها، ولو في شكل فضفاض، بأعمال عدائية عربية. وكانت تلك العمليات أيضاً من بنات أفكار يادين. وبدأت في 13 شباط 1948، وركزت على مناطق عدة. في يافا نُسفت منازل، اختيرت عشوائياً، على رؤوس أصحابها، وهوجمت قرية سعسع، وثلاث قرى في جوار قيسارية.

واختلفت عمليات شباط، التي خططت لها الهيئة الاستشارية بعناية، عن العمليات التي حدثت في كانون الأول: لم تعد متفرقة، وإنما أصبحت جزءاً من محاولة أولية للربط بين فكرة حركة مواصلات يهودية غير معرقلة على طرقات فلسطين الرئيسية وبين التطهير العرقي للقرى. لكن، خلافاً للشهر الذي أعقبه، والذي ستُطلق فيه على العمليات أسماء رمزية وتُعيَّن لها مناطق وأهداف محددة بوضوح، فإن التوجيهات في شباط كانت لا تزال مبهمة.

كانت الأهداف الأولى ثلاث قرى واقعة بالقرب من المدينة الرومانية القديمة قيسارية، وهي بلدة يرجع تاريخها الحافل إلى زمن الفينيقيين. أنشئت كمستعمرة تجارية، وسماها هيرودوس الكبير لاحقاً قيسارية نسبة إلى ولي نعمته في روما، أوغسطس قيصر. وكانت أكبر هذه القرى قيسارية (الحديثة – المترجم)، إذ كان يعيش 1500 نسمة داخل الأسوار العتيقة للبلدة القديمة. وكانت تعيش بينهم، كما كان مألوفاً في القرى الفلسطينية الواقعة على الساحل، عائلات يهودية اشترت أراضي هناك وكانت تقطن عملياً داخل القرية. وكان معظم القرويين يسكن بيوتاً حجرية في جوار عائلات بدوية كانت جزءاً من القرية، لكنها لا تزال تعيش في الخيام. وكانت مياه الآبار في القرية كافية لسقاية مجتمعي الفلاحين والبدو شبه المستقرين، وتتيح فلاحة مساحات واسعة من الأرض وزراعة طيف واسع من المحاصيل الزراعية، بما في ذلك الحمضيات والموز. وهكذا، كانت قيسارية مثالاً نموذجياً لموقف كان شائعاً في الحياة الريفية الساحلية في فلسطين، يلخصه الشعار: «عِشْ، ودع غيرك يعيش».

وقد تم اختيار القرى الثلاث لأنها كانت فريسة سهلة، إذ لم تكن لديها قوة دفاعية من أي نوع، لا محلية ولا من متطوعين قدموا من الخارج. وصدر الأمر في 5 شباط بأن احتلوا القرى، وطردوا سكانها، ودمّروها.

كانت قيسارية أول قرية تهاجَم، وتم طرد سكانها جميعاً في 15 شباط 1948. استغرقت عملية الطرد ساعات قليلة فقط، ونُفذت بصورة منهجية متقنة بحيث أن الجنود تمكنوا من إخلاء وتدمير أربع قرى أُخرى في اليوم نفسه. وحدث ذلك كله تحت سمع وبصر الجنود البريطانيين الذين كانوا موجودين في مخافر الشرطة القريبة.

القرية الثانية كانت برة قيسارية، البالغ عدد سكانها آنذاك نحو 1000 نسمة. وثمة عدد من الصور الملتقطة في الثلاثينات من القرن الماضي تظهر موقعها الرائع على الشاطئ الرملي القريب من بقايا المدينة الرومانية. وقد تم محوها من الوجود في شباط بهجوم صاعق وشرس إلى حد جعل المؤرخين الإسرائيليين والفلسطينيين، سواء بسواء، يشيرون إلى اختفائها باعتباره لغزاً مبهماً. واليوم، تتمدد بلدة أور عكيفا اليهودية فوق كل متر مربع من القرية المدمرة. وكان بعض البيوت القديمة لا يزال موجوداً في البلدة في السبعينات، إلاّ إنه هُدم بسرعة عندما حاولت مجموعات أبحاث فلسطينية توثيق هذه البيوت كجزء من محاولة شاملة لإحياء التراث الفلسطيني في هذا الجزء من البلد.

وعلى نحو مشابه، لا يوجد سوى معلومات غامضة عن القرية المجاورة، خربة البرج. وكانت هذه القرية أصغر من الاثنتين الأُخريين، ولا تزال بقية منها مرئية للعين المدققة، وفي الإمكان مشاهدتها إذا ما التفت إليها المسافر عبر المنطقة الواقعة إلى الشرق من المستوطنة اليهودية القديمة بنيامينا («قديمة» نسبياً، إذ إنها أنشئت في سنة 1922). وكان المبنى الرئيسي في القرية خاناً عثمانياً، هو الأثر الوحيد الذي ما زال قائماً. وكان يدعى البرج. وتخبرك اللوحة بجانبه أنه كان ذات مرة قلعة تاريخية – لكن اللوحة تخلو من أي إشارة إلى القرية. وهو حالياً مكان محبَّب لدى إسرائيليين كثيرين، إذ تقام فيه معارض فنية وغيرها، واحتفالات عائلية.

إلى الشمال من هذه القرى الثلاث، ثمة معلم أثري آخر هو قلعة عتليت الصليبية. وقد صمدت هذه القلعة في شكل يدعو إلى الإعجاب أمام عاديات الزمن والجيوش الغازية المتعددة التي اجتاحت المنطقة منذ القرون الوسطى. وبُنيت قرية عتليت في جوارها، وكانت تشكل نموذجاً فريداً لتعاون عربي – يهودي في فلسطين الانتدابية في مجال صناعة الملح على شواطئها. وكانت معالم القرية الطوبوغرافية قد جعلتها منذ زمن بعيد مصدراً لاست

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات