عاجل

الإثنين 06/مايو/2024

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (3)

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (3)

في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1947، كان عزرا دانين ونائبه يهوشواع (جوش) بالمون مختفيين عن الأنظار، وقد افتتحا اجتماع «الهيئة الاستشارية» بإخبار الحاضرين أن النخبة الحضرية الفلسطينية أخذت تترك بيوتها وتنتقل إلى مساكنها الشتوية في سورية ولبنان ومصر. وكان ذلك ردة فعل نموذجية من جانب النخب الحضرية في أوقات الأزمات – الذهاب إلى مكان آمن ريثما يهدأ الوضع. مع ذلك، فإن المؤرخين الإسرائيليين، بمن فيهم المؤرخون التصحيحيون (الجدد) مثل بِني موريس، فسروا هذا الخروج التقليدي الموقت بأنه «هروب طوعي» كي يقولوا لنا إن إسرائيل ليست مسؤولة عما آل إليه أمرهم. لكنهم عندما تركوا، كان في نيتهم العودة إلى بيوتهم لاحقاً، وما منعهم من العودة هم الإسرائيليون: إن منع الناس من العودة إلى بيوتهم بعد إقامة قصيرة في الخارج هو عملية طرد مثل أي عمل آخر موجه ضد سكان محليين بهدف طردهم.

وأخبر دانين الحاضرين أن هذا هو المثل الوحيد الذي استطاعا اكتشافه في ما يتعلق بمغادرة فلسطينيين إلى ما وراء الحدود المعيَّنة للدولة اليهودية في قرار الأمم المتحدة، باستثناء عشائر بدوية عدة انتقلت إلى أمكنة قريبة من قرى عربية خوفاً من تعرضها لهجمات يهودية. ويبدو أن دانين كان مصاباً بخيبة أمل من جراء ذلك، لأنه طالب في الوقت نفسه باتباع سياسة أشد عنفاً بكثير، على رغم حقيقة أنه لم يكن هناك مبادرات أو نيات هجومية من ناحية الفلسطينيين. وتابع شارحاً للهيئة الاستشارية الفوائد التي ستنجم عن مثل هذه السياسة: قال له مخبروه إن أعمال عنف ضد الفلسطينيين سترعبهم، «الأمر الذي سيجعل أي مساعدة من العالم العربي غير مجدية»، وهذا ما يعني ضمناً أن القوات اليهودية سيكون في وسعها أن تفعل بهم ما تشاء.

«ماذا تعني بأعمال عنف؟» استفسر بن – غوريون.

«تدمير وسائط النقل (حافلات الركاب، والشاحنات التي تنقل المحاصيل الزراعية، والسيارات الخاصة)… وإغراق القوارب التي يستعملونها للصيد في يافا، وإغلاق دكاكينهم، ومنع المواد الخام من الوصول إلى مصانعهم».

«كيف ستكون ردة فعلهم؟» سأل بن – غوريون.

«ردة الفعل الأولية قد تكون أعمال شغب، لكنهم في نهاية المطاف سيفهمون الرسالة». وهكذا فإن الهدف الرئيسي كان ضمان أن يصبح السكان تحت رحمة الصهيونيين، كي يمكن حسم مصيرهم. ويبدو أن بن- غوريون أعجبه الاقتراح، وكتب إلى شاريت بعد ثلاثة أيام شارحاً له الفكرة العامة: إن المجتمع الفلسطيني في المنطقة اليهودية سيكون «تحت رحمتنا»، وسيكون في استطاعة اليهود أن يفعلوا بهم ما يشاؤون، بما في ذلك «تجويعهم حتى الموت».

وكان يهودي سوري آخر، إلياهو ساسون، هو من حاول، إلى حد ما، أن يقوم بدور محامي الشيطان في الهيئة الاستشارية، وبدا أن لديه شكوكاً تجاه المقاربة الشديدة العداء التي كان دانين وبالمون يشرحانها. كان هاجر إلى فلسطين سنة 1927، وربما كان الشخص الأكثر إثارة للفضول، وأيضاً الأكثر تناقضاً، في الهيئة الاستشارية، ففي سنة 1919، قبل أن يصبح صهيونياً، انضم إلى الحركة القومية العربية في سورية. وكان دوره الرئيسي في الأربعينات من القرن الماضي هو التحريض على اتباع سياسة «فرِّقْ تَسُدْ» داخل المجتمع الفلسطيني، وأيضاً في الدول العربية المجاورة. لكن محاولاته زرع الشقاق بين المجموعات الفلسطينية لم تبق لها أهمية بعد أن اتجهت القيادة الصهيونية نحو تطهير عرقي شامل لفلسطين بأسرها.

وكان اجتماع 10 كانون الأول آخر اجتماع يقوم فيه ساسون بمحاولة لإقناع زملائه بأنه على رغم الحاجة إلى «خطة شاملة» كما سمّاها – أي اقتلاع السكان الفلسطينيين – فإن من الفطنة عدم اعتبار جميع السكان العرب أعداء، والاستمرار في استخدام تكتيكات «فرِّق تَسُدْ». وكان فخوراً جداً بدوره، في الثلاثينات، في تسليح المجموعات الفلسطينية المسماة «عصابات السلام»، والتي كانت مكوَّنة من خصوم الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني. وقد قاتلت هذه الوحدات ضد التشكيلات [المسلحة] الوطنية الفلسطينية خلال الثورة العربية. وأراد ساسون الآن استخدام تكتيكات «فرِّق تَسُدْ» لتجنيد عشائر بدوية موالية.

نشاطات مبكرة

لم ترفض الهيئة الاستشارية فكرة استيعاب مزيد من المتعاونين «العرب» فحسب، بل ذهبت إلى حد اقتراح التخلي عن فكرة «الرد الانتقامي» بكاملها، وأيد معظم المشاركين في الاجتماع «الانهماك» في حملة تخويف منهجية. ووافق بن – غوريون، وشُرع في تطبيق السياسة الجديدة في اليوم التالي للاجتماع.

كانت الخطوة الأولى حملة تهديدات منسقة جيداً. فكانت وحدات خاصة تابعة للهاغاناه تدخل القرى بحثاً عن «المتسللين» (إقرأ: «متطوعين عرباً») وتوزع منشورات تحذر السكان المحليين من التعاون مع جيش الإنقاذ. وكانت أي مقاومة لهذه التعديات تنتهي في العادة بإطلاق القوات اليهودية النار عشوائياً وقتل عدد من القرويين. وكانت الهاغاناه تسمي هذه الغارات «الاستطلاع العنيف» (هَـ – سِيور هَأَليم). والفكرة في الجوهر هي دخول قرية غير محصنة قبيل منتصف الليل، والبقاء فيها بضع ساعات، وإطلاق النار على كل من يجرؤ أو تجرؤ على مغادرة البيت، ومن ثم المغادرة. عمل القصد منه إظهار القوة أكثر مما كان عملاً تأديبياً، أو هجوماً انتقامياً.

في كانون الأول 1947، اختيرت قريتان غير محصنتين: دير أيوب وبيت عفّا. وإذا ما سُقْتَ اليوم سيارتك في اتجاه الجنوب الشرقي من مدينة الرملة وقطعت مسافة قدرها نحو 15 كم، خصوصاً في يوم شتائي عندما تخضرّ شجيرات الرَّتَم الشائكة الصفراء عادة، والتي تغطي سهول فلسطين الداخلية، فإنك ستصادف منظراً غريباً، صفوفاً طويلة من الأنقاض والحجارة في حقل مكشوف تحيط بساحة مربعة متخيّلة كبيرة نسبياً؛ إنها أنقاض السياجات الحجرية لدير أيوب، وبينها أنقاض سور حجري منخفض بُني سنة 1947 لأسباب جمالية أكثر منه لحماية القرية، التي كان يقطن فيها نحو 500 نسمة. وكان سكان هذه القرية في معظمهم من المسلمين، ويعيشون في بيوت حجرية أو طينية على شاكلة البيوت المنتشرة في المنطقة. وكانوا قبل الهجوم اليهودي مباشرة يحتفلون بافتتاح مدرسة جديدة تسجل فيها عدد لا يستهان به من التلاميذ، 51 تلميذاً، وتحقق كل ذلك بفضل الأموال التي جمعوها من بعضهم البعض، والتي كانت كافية أيضاً لدفع راتب المعلم. لكن ابتهاجهم سرعان ما تبدد عندما دخلت سرية مؤلفة من عشرين جندياً يهودياً القرية – التي كانت، مثل كثير من القرى في ذلك الوقت، لا تمتلك أية آلية للدفاع – وشرعوا في إطلاق النار عشوائياً على البيوت. وقد هوجمت القرية لاحقاً ثلاث مرات قبل أن يجرى إخلاؤها بالقوة في نيسان (أبريل) 1948، ومن ثم تدميرها كلياً. وقامت القوات اليهودية بهجوم مشابه في كانون الأول على بيت عفّا في قطاع غزة، لكن سكانها تمكنوا من صد الهجوم.

وتبع ذلك كله عمليات تدمير في مناطق محدودة في أماكن متفرقة من أرياف فلسطين ومدنها. واتسمت النشاطات في الريف في البداية بالتردد. اختيرت ثلاث قرى في الجليل الأعلى الشرقي: الخصاص والناعمة وجاحولا، لكن العملية أُلغيت، ربما لأن القيادة العليا اعتقدت أنها طموحة أكثر من اللازم. غير أن قائد البالماح في الشمال، يغآل ألون، تجاهل الإلغاء جزئياً، وأراد أن يجرب مهاجمة قرية واحدة على الأقل، واختار الخصاص.

كانت الخصاص قرية صغيرة يقطن فيها بضع مئات من المسلمين ومئة مسيحي، يعيشون بسلام معاً في موقع طوبوغرافي فريد في القسم الشمالي من سهل الحولة، على مصطبة طبيعية عرضها نحو مئة متر، نجمت قبل آلاف السنين عن التقلص المتدرج لبحيرة الحولة. وكان الرحالة الأجانب يخصّون هذه القرية بالذكر لجمال موقعها الطبيعي على ضفاف البحيرة، ولقربها من نهر الحاصباني. هاجمت القوات اليهودية القرية في 18 كانون الأول 1947، وشرعت في نسف البيوت في سواد الليل، بينما كان سكانها يغطون في النوم. فقُتل جراء ذلك خمسة عشر قروياً، بمن فيهم خمسة أطفال. وأصاب الحدث مراسل «نيويورك تايمز»، الذي كان يتابع الأحداث عن كثب، بالصدمة. وذهب إلى قيادة الهاغاناه مطالباً بتفسير ما جرى. وأنكرت هذه في البداية وقوع العملية، لكن، عندما أصر المراسل على طلبه، اضطرت في النهاية إلى الاعتراف، وأصدر بن – غوريون اعتذاراً علنياً درامياً، مدعياً أن العملية لم يكن مصادقاً عليها. لكن بعد أشهر، في نيسان، أدرجها في قائمة العمليات الناجحة.

عندما اجتمعت اللجنة الهيئة الاستشارية يوم الأربعاء 17 كانون الأول ، انضم إليها يوحنان راتنر وفريتس آيزنشتاتر (عيشت)، وهما ضابطان كان بن – غوريون عيّنهما لوضع «استراتيجيا قومية» قبل أن يبتكر الهيئة الاستشارية. وتوسع المجتمعون في مناقشة ما يمكن استخلاصه من عملية الخصاص الناجحة، وطالب بعضهم بمزيد من العمليات «الانتقامية» يشتمل على تدمير قرى، وطرد سكان، وإحلال مستوطنين يهود محلهم. وفي اليوم التالي لخص بن – غوريون ما جرى في الاجتماع أمام لجنة الدفاع، وهي الهيئة الرسمية الأوسع التابعة للمجتمع اليهودي، والمسؤولة عن شؤون الدفاع. ويبدو أن الجميع اهتزوا طرباً لدى سماعهم ما قيل لهم، بمن في ذلك ممثل حزب اليهود المتدينين المتعصبين، أغودات يسرائيل، الذي قال: «لقد بُلّغنا أن لدى الجيش القدرة على تدمير قرية كاملة وطرد سكانها جميعاً؛ هيا، لنفعل ذلك!» وأقرت اللجنة تعيين ضباط استخبارات لكل عملية مشابهة. وسيكون لهؤلاء دور حاسم في تنفيذ المراحل التالية للتطهير العرقي.

استهدفت السياسة الجديدة أيضاً الأماكن الحضرية في فلسطين، واختيرت حيفا لتكون الهدف الأول. ومن المثير للاهتمام أن هذه المدينة اختيرت من جانب المؤرخين الإسرائيليين المنتمين إلى التيار المركزي ومن جانب المؤرخ التصحيحي بِني موريس كمثال لوجود نية حسنة صهيونية صادقة تجاه السكان المحليين. أمّا الحقيقة فكانت في نهاية سنة 1947 أبعد ما تكون عن ذلك. فمنذ اليوم التالي لتبني الأمم المتحدة قرار التقسيم، تعرض الـ75.000 فلسطيني في المدينة لحملة إرهابية اشتركت في شنها الإرغون والهاغاناه. ولمّا كان المستوطنون اليهود جاؤوا المدينة في العقود المتأخرة، فإنهم بنوا مساكنهم في أعالي الجبل، وبالتالي فإنهم كانوا يقطنون، من ناحية طوبوغرافية، فوق الأحياء العربية، وكان في استطاعتهم أن يقصفوها ويقتنصوا سكانها بسهولة. وشرعوا في ذلك مراراً وتكراراً منذ أوائل كانون الأول. كما استخدموا وسائل أُخرى لإرهاب السكان: كانت القوات اليهودية تدحرج براميل مملوءة بالمتفجرات وكريات حديدية ضخمة في اتجاه المناطق السكنية العربية، وتصب نفطاً ممزوجاً بالبنزين على الطرقات وتشعله. وعندما كان السكان الفلسطينيون المذعورون يخرجون من بيوتهم راكضين بغية إطفاء تلك الأنهار المشتعلة، كان اليهود يحصدونهم بالمدافع الرشاشة. وفي المناطق التي كان فيها عرب ويهود ما زالوا يتعاملون مع بعضهم البعض، كانت الهاغاناه تُحضر إلى الكاراجات الفلسطينية سيارات بحجة إصلاحها، مملوءة بالمتفجرات وأدوات التفجير، ومن ثم تفجرها فتنشر الموت والفوضى. وكانت تقوم بهذا النوع من الهجمات وحدة خاصة تابعة للهاغاناه، هَشَاحَر («الفجر»)، مكونة من «مستعربين»؛ أي يهود متنكرين كفلسطينيين. وكان العقل المدبر لهذه الهجمات شخص يدعى داني أغمون، كان يرئس وحدات «الفجر». ويلخص المؤرخ الرسمي للبالماخ، في موقعه في شبكة الإنترنت، ما جرى آنذاك على النحو التالي: «كان الفلسطينيون [في حيفا] يعيشون منذ كانون الأول تحت وطأة حصار وتخويف.» لكن الأسوأ سيأتي لاحقاً.

وقد وضع اندلاع العنف المبكر نهاية حزينة لتاريخ طويل نسبياً من التعاون والتضامن بين العمال في مدينة حيفا المختلطة، وكان الوعي الطبقي جرى كبحه في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي من

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات