عاجل

الإثنين 06/مايو/2024

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (2)

فصول من ( التطهير العرقي في فلسطين ) (2)

المؤرخ الشاب، المتخرج في الجامعة العبرية، بن- تسيون لوريا، كان موظفاً في الدائرة التعليمية التابعة للوكالة اليهودية، وقد أشار إلى أنه سيكون من المفيد جداً إعداد سجل مفصل للقرى العربية، واقترح أن يقوم الصندوق القومي اليهودي بإعداد السجل. «هذا سيساعد جداً في تحرير البلد»، كتب في رسالة إلى الصندوق. وكان موفقاً في اختياره الصندوق للقيام بالمهمة، إذ إن مبادرته إلى إشراك الصندوق القومي اليهودي في التطهير العرقي المتوخّى أدت إلى ضخ مزيد من الزخم والحماسة في العمل على خطط الطرد التي تم وضعها لاحقاً.

كانت المهمة الرئيسية رسم خرائط القرى، لذا تم تجنيد خبير طوبوغرافي من الجامعة العبرية، كان يعمل في دائرة رسم الخرائط الانتدابية، للعمل في المشروع. واقترح هذا الخبير القيام بمسح فوتوغرافي جوي للقرى، وأطلع باعتزاز بن- غوريون على خريطتين جويتين لقريتي السنديانة وصبّارين (الخريطتان موجودتان حالياً في أرشيف دولة إسرائيل، وهما كل ما تبقى من هاتين القريتين بعد سنة 1948).

ومن ثم دُعي أفضل المصورين المحترفين في البلد للانضمام إلى المبادرة. كما تم تجنيد يتسحاق شيفر من تل أبيب، ومارغو ساديه، زوجة يتسحاق ساديه، قائد البالماح (وحدات الكوماندو التابعة للهاغاناه). وأُخفي مختبر تحميض الأفلام في منزل مارغو خلف واجهة شركة لري المزروعات، إذ كان لا بد من إخفائه عن السلطات البريطانية التي كان من الممكن أن تعتبره مجهوداً استخباراتياً غير شرعي موجهاً ضدها. ومع أن البريطانيين كانوا على علم مسبق به، إلاّ إنهم لم ينجحوا قط في اكتشاف المخبأ السري. وفي سنة 1947، نُقلت دائرة رسم الخرائط بكاملها إلى «البيت الأحمر».

كانت المحصلة النهائية لجهود الطوبوغرافيين والمستشرقين ملفات لكل قرية من قرى فلسطين، عمل الخبراء الصهيونيون على استكمالها بالتدريج، بحيث أصبح «الأرشيف» مكتملاً تقريباً في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي. وتضمن ملف كل قرية تفصيلات دقيقة عن موقعها الطوبوغرافي، وطرق الوصول إليها، ونوعية أراضيها، وينابيع المياه، ومصادر الدخل الرئيسية، وتركيبتها الاجتماعية – الاقتصادية، والانتماءات الدينية للسكان، وأسماء المخاتير، والعلاقات بالقرى الأُخرى، وأعمار الرجال (من سن 16 إلى سن الخمسين)، ومعلومات كثيرة أُخرى. ومن فئات المعلومات المهمة كان هناك مؤشر يحدد درجة «العداء» (للمشروع الصهيوني)، بناء على مدى مشاركة القرية في ثورة 1936. وكانت هناك قائمة بأسماء الذين شاركوا في الثورة، والعائلات التي فقدت أشخاصاً في القتال ضد البريطانيين. وأُعطي الأشخاص الذين زُعم أنهم قتلوا يهوداً اهتماماً خاصاً. هذه الأجزاء الأخيرة من المعلومات نجم عنها في سنة 1948 أشد الأعمال وحشية في القرى، وقادت إلى إعدامات جماعية وتعذيب للضحايا.

أدرك الأعضاء النظاميون في الهاغاناه، الذين كُلّفوا جمع المعلومات من خلال رحلات «استطلاعية» إلى القرى، منذ البداية، أن المهمة لم تكن تمريناً أكاديمياً في الجغرافيا. وكان واحداً من هؤلاء موشيه باسترناك، الذي شارك في إحدى رحلات الاستطلاع وجمع المعلومات المبكرة في سنة 1940، وروى بعد أعوام:

«كان علينا أن ندرس البنية الأساسية للقرية العربية. ويعني ذلك البنية وما هي أفضل طريقة لمهاجمتها. في الكليات الحربية علمونا كيف نهاجم مدينة أوروبية حديثة، وليس قرية بدائية في الشرق الأدنى. لا نستطيع أن نقارنها (القرية العربية) بقرية بولندية أو نمسوية. القرية العربية، خلافاً للقرى الأوروبية، كانت مبنية طوبوغرافياً على هضاب. وذلك يعني أنه كان يتعين علينا أن نجد الوسيلة الأفضل للاقتراب من القرية من الأعلى، أو دخولها من الأسفل. وكان علينا أن ندرب «عربنا» (المستشرقين الذين كانوا يشغّلون شبكة من المتعاونين) على الطريقة الأفضل للتعامل مع المخبرين».

ويتذكر باسترناك أنه في سنة 1943 كان هناك إحساس متنام بأنه أصبحت لديهم أخيراً شبكة من المخبرين تستحق التسمية. ويرجع الفضل في ذلك، بصورة رئيسية، إلى شخص واحد هو عزرا دانين، الذي سيقوم بدور قيادي في التطهير العرقي في فلسطين.

كان تجنيد عزرا دانين، الذي أُخذ من عمل ناجح في مجال زراعة الحمضيات، هو ما نقل العمل الاستخباراتي وتنظيم ملفات القرى إلى مستوى جديد من حيث الكفاءة. وتتضمن الملفات في فترة ما بعد سنة 1943 وصفاً مفصلاً للزراعة وتربية الحيوانات، وللأراضي المزروعة، ولعدد الأشجار في المزارع، ولنوع وجودة الفواكه في كل بستان (وحتى كل شجرة مفردة)، ولمعدل مساحة الأرض بالنسبة إلى كل عائلة، ولعدد السيارات، ولأصحاب الدكاكين، وللعاملين في الورشات، ولأسماء الحرفيين في كل قرية ونوع مهاراتهم. وفي وقت لاحق، أضيفت إلى ذلك تفصيلات دقيقة جداً عن كل حمولة وانتماءاتها السياسية، والفوارق الطبقية بين الأعيان والعامة، وأسماء الموظفين العاملين في دوائر الحكومة الانتدابية.

ومع اكتساب عملية جمع المعلومات قوة دفع تلقائية، يجد المرء مع حلول سنة 1945 مزيداً من التفصيلات، مثل وصف المساجد في القرى وأسماء الأئمة فيها، مع صفات مثل «هو رجل عادي»، بل حتى وصفاً دقيقاً لغرف الاستقبال داخل بيوت هذه الشخصيات. ومع اقتراب فترة الانتداب من نهايتها، أصبح جمع المعلومات موجهاً بصراحة نحو المعطيات ذات الطابع العسكري، مثل: عدد الحراس (معظم القرى لم يكن لديه أي حراس)، وكمية الأسلحة الموجودة ونوعيتها (بصورة عامة قديمة، أو لا وجود لها).

وجنّد دانين يهودياً ألمانياً اسمه يعقوب شمعوني، أصبح لاحقاً أحد أهم المستشرقين الإسرائيليين، وعينه مسؤولاً عن مشاريع خاصة داخل القرى، لا سيما الإشراف على عمل المخبرين. وأطلق دانين وشمعوني على أحد هؤلاء لقب «أمين الصندوق» (هَـ- غِزْبار). وأشرف هذا الشخص، الذي أثبت أنه نبع معلومات لجامعي المعطيات من أجل الملفات، على شبكة المتعاونين من سنة 1941 حتى سنة 1945. وانكشف أمره في سنة 1945 وقتل على يد ناشطين فلسطينيين.

وليس بعيداً من قرية الفريديس والمستوطنة اليهودية «القديمة» زِخْرون يعقوف، حيث يوجد اليوم طريق يصل الطريق الساحلية الرئيسية بمرج بن عامر (عيمك يزراعيل) عبر وادي الملح، توجد قرية للشباب (نوع من المدارس الداخلية للشبيبة الصهيونية) تدعى شيفيا. وفي هذا المكان بالذات، كانت الوحدات الخاصة الموضوعة في تصرف مشروع ملفات القرى تتدرب في عام 1944، وتنطلق منه في رحلاتها الاستطلاعية. وكانت شيفيا آنذاك شديدة الشبه بقرية تجسس خلال الحرب الباردة: يهود يتجولون متحدثين بالعربية، ويحاولون محاكاة ما يعتقدون أنها طرائق عيش العرب المعتادة وسلوك الريفيين الفلسطينيين.

في عام 2002، تذكّر واحد من أوائل المجندين للتدرب في هذه القاعدة العسكرية الخاصة مهمته الاستطلاعية الأولى لقرية أم الزينات في عام 1944. كان الهدف تفحّص القرية وجلب معلومات مثل أين يقطن المختار، وأين يقع الجامع، وأين يسكن أغنياء القرية، ومن كان نشيطاً في ثورة 1936. لم تكن هذه مهمة خطرة جداً لأن القائمين بها كانوا يعرفون أنهم يستطيعون استغلال أصول الضيافة العربية التقليدية، بل إنهم حلّوا ضيوفاً في بيت المختار نفسه. وعندما لم ينجحوا في يوم واحد في جمع المعلومات التي كانوا يبحثون عنها، طلبوا استضافتهم مرة أُخرى. وكُلّفوا أن يحصلوا في زيارتهم الثانية على معلومات عن خصوبة الأراضي، التي يبدو أن نوعيتها الجيدة أدهشتهم كثيراً. وقد دُمِّرت أم الزينات في عام 1948، وطرد جميع سكانها، مع أنه لم يصدر عنهم قط أي استفزاز.

وخلال المراحل المبكرة للتطهير العرقي (حتى أيار 1948)، كان بضعة آلاف من المقاتلين الفلسطينيين غير النظاميين يواجهون عشرات الآلاف من الجنود اليهود المدربين جيداً. وفي المراحل التالية، لم تواجه قوة يهودية، عديدها ضعف عديد الجيوش العربية مجتمعة تقريباً، أية صعوبة في استكمال إنجاز المهمة.

على هامش القوة العسكرية اليهودية الرئيسية نشطت مجموعتان متطرفتان: الإرغون (يشار إليها عادة بالعبرية بتسمية إيتْسِلْ)، وعصابة شتيرن (ليحي). والإرغون منظمة انشقت عن الهاغاناه عام 1931، وكان يقودها في أربعينيات القرن الماضي مناحيم بيغن. وكانت طورت سياسات خاصة بها معادية جداً للوجود البريطاني وللسكان المحليين على السواء. أمّا عصابة شتيرن، فكانت فرعاً من الإرغون انشق عنها عام 1940. ومع الهاغاناه، شكلت المنظمات الثلاث جيشاً موحَّداً خلال أيام النكبة (مع أنها لم تعمل دائماً بانسجام وتنسيق).

وكان جزء مهم من المجهود العسكري الصهيوني هو تدريب وحدات الكوماندو الخاصة، البالماح، التي أنشئت عام 1941، في الأصل، لمساعدة الجيش البريطاني في الحرب ضد النازيين في حال وصول هؤلاء إلى فلسطين. لكن سرعان ما وُجّهت حماستها ونشاطاتها إلى العمل ضد الفلسطينيين.

في عمليات التطهير العرقي اللاحقة، كانت قوات الهاغاناه والبالماح والإرغون تحتل القرى، وبعد احتلالها بفترة وجيزة كانت تسلمها الى قوات أقل قدرة قتالية، الى وحدات من سلاح الميدان («حيش» بالعبرية) الذي أنشئ عام 1939، وكان يشكل الذراع اللوجستية للقوات اليهودية. وتتحمل هذه الوحدات الإضافية مسؤولية ارتكاب عدد من الأعمال الوحشية التي رافقت عمليات التطهير.

شكلت هذه القوى المسلحة مجتمعة قوة حربية ضخمة بما فيه الكفاية لتعزز ثقة بن – غوريون بقدرة المجتمع اليهودي على أن يرث الدولة الانتدابية، ويستولي على معظم الأراضي الفلسطينية والأملاك والثروات الموجودة فيها.

كان موشيه شاريت، وزير خارجية الدولة اليهودية «غير الرسمي»، خارج البلد خلال الأشهر السابقة لإعلان قيام الدولة. وكان يتسلم بين حين وآخر رسائل من بن – غوريون توجهه إلى أفضل الطرق للعمل من أجل الحصول على دعم عالمي ويهودي لدولة يهودية مستقبلية تواجه خطر الإبادة، وفي الوقت نفسه تطلعه على حقائق الواقع الفعلي على الأرض.

بدأ تبادل الرسائل برسالة أرسلها بن – غوريون في كانون الأول (ديسمبر) 1947 إلى شاريت بغية إقناعه بتفوق اليهود عسكرياً في فلسطين: «نستطيع أن نجوّع عرب حيفا ويافا (إذا أردنا ذلك)». إن هذه الثقة في ما يتعلق بقدرة الهاغاناه على احتلال فلسطين بأسرها، بل احتلال ما هو أكثر منها، ستستمر طوال مدة القتال.

وعندما يتعلق الأمر بإعادة تركيب جزء من عملية تاريخية مرتبط بتحولها من أيديولوجيا نظرية إلى واقع ملموس، هناك خياران نستطيع، نحن المؤرخين، أن نختار أحدهما في حالة فلسطين عام 1948:

الخيار الأول هو أن نلفت انتباه القارئ إلى ثبات القادة الصهيونيين- من هيرتسل إلى بن – غوريون – على رغبتهم في إخلاء الدولة اليهودية العتيدة من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، ومن ثم نبين الارتباط الوثيق بين هذه الرغبة وبين عمليات الطرد الفعلية التي ارتكبت عام 1948. وتتجسد هذه المقاربة بوضوح في عمل المؤرخ نور الدين مصالحة، الذي رسم بدقة فائقة أصل أحلام «الآباء المؤسسين» الصهيونيين وخطط الطرد لديهم. وأوضح كيف أن الرغبة في إزالة العرب من فلسطين كانت من الدعامات الأساسية للفكر الصهيوني منذ لحظة ظهور الحركة الصهيونية على المسرح السياسي بشخص تيودور هيرتسل. أما بن – غوريون فبلور أفكاره بوضوح في هذه المسألة عام 1937. يقول كاتب سيرته، ميخائيل بار – زوهر: «في المناقشات الداخلية، في التعليمات لمساعديه، تمسك العجوز بموقف واضح: من الأفضل أن يبقى أقل عدد ممكن من العرب داخل أراضي الدولة».

أمّا الخيار الآخر (المتاح للمؤرخ – المترجم) فهو التركيز على التطورات التراكمية في عملية صنع القرار، وإظهار كيف أن القرارات المتخذة، في اجتماع بعد اجتماع، في شأن الاستراتيجيا والوسائل، اندمجت بالتدريج إلى أن

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات