الإثنين 20/مايو/2024

موسم الرسائل الخاطئة

موسم الرسائل الخاطئة

صحيفة البيان الإماراتية

حرصت الإدارة الأميركية على إبداء الغضب الشديد من زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي لدمشق، وكاد الرئيس بوش يفقد أعصابه وهو يهاجم الزيارة باعتبارها «رسالة خاطئة» للنظام السوري الذي تتهمه واشنطن بدعم الإرهاب (!!) ممثلاً في حزب الله اللبناني ومنظمات المقاومة الفلسطينية، وكذلك لعب دور سلبي (من وجهة نظر الإدارة الأميركية) في العراق والتحالف مع طهران.. ولولا الملامة وتوازن القوى في الكونغرس الأميركي لقلدت الإدارة الأميركية بعض أنظمة العالم الثالث التي يسير الرئيس بوش على طريقها، ووجهت للسياسية الأميركية تهمة الخيانة العظمى والاتصال بالأعداء والعياذ بالله!.

بالطبع تدخل الزيارة – في جانب منها على الأقل – في إطار الصراع المشتعل بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وفي إطار سعي الديمقراطيين لزيادة الضغط على الرئيس الأميركي وكشف سلبيات سياسته أملاً في أن يتكرر انتصارهم الكبير في انتخابات الكونغرس في انتخابات الرئاسة في العام المقبل وهو ما يحاول بوش وإدارته منعه بأي طريقة.

لكن الأمر لا يتوقف على ذلك فقط. فوجود الشخصية الثالثة في النظام الأميركي في دمشق هي خطوة أكبر من هذا الصراع على الانتخابات وإنما ينبغي النظر إليها في إطار مصالح أميركية عليا قد يختلف الفرقاء في التفاصيل حولها ولكن الأسس العامة تظل تحكم حركة الجميع.

ولعل هذا ما يفسر أن الوفد المرافق للسيدة بيلوسي لا يقتصر على أعضاء حزبها بل يضم أعضاء من الكونغرس من الحزبين، وأيضا فقد سبق زيارة بيلوسي زيارة أخرى لدمشق في نفس الأسبوع لوفد من أعضاء الكونغرس الجمهوريين الذين حرصوا على تأكيد رسالة (لا أظن إنها خاطئة!) بأنهم قريبون من الرئيس بوش، وأنهم – وفقاً لرئيس الوفد فرانك وولف – يملكون أذنيه!! وهي تصريحات ربما كان الغرض منها التقليل من أهمية زيارة بيلوسي، وتذكير دمشق بأن القرار في القضايا الخارجية مازال في يد الرئيس، وبالتالي فإذا أرادت دمشق تقديم شيء فليكن للرئيس وليس للديمقراطيين!.

هناك إذن هجوم سياسي أميركي على دمشق يشارك فيه الحزبان الكبيران «الديمقراطي والجمهوري» وهو هجوم لا يأتي من فراغ، ولا فقط من أجل تسجيل نقاط في المنافسة بين الحزبين، بل يأتي أيضاً من تقدير عام بأن هناك فرصة لتحسين العلاقات، وأن ذلك يحقق مصلحة أميركية قبل أي شيء.. سواء في التمهيد للخروج الأميركي من العراق، أو في ترتيب الأوضاع في المنطقة بعد ذلك، ثم في التعامل مع الأزمة الإيرانية سواء بدفع طهران للاتفاق أو بالانسياق إلى مواجهة.

المصلحة الأميركية هي التي تضع دمشق على خريطة الاهتمام الأميركي وتجعل بيلوسي التي كانت قبل خمسة أعوام من أشد المتحمسين لإصدار قانون معاقبة سورية.. ترى الآن أن سورية يمكن أن تكون جزءاً من الحل لمشاكل المنطقة، وهي التي تجعل الرئيس بوش الذي يهاجم زيارة بيلوسي يبعث برجال حزبه من أعضاء الكونغرس ليبشروا دمشق بأنهم قادرون على التأثير في الرئيس لأنهم يملكون أذنيه!!

المهم أن تلتقط دمشق ويلتقط العرب «الرسالة الصحيحة». وأن ندرك أن المعركة مازالت طويلة، وأن تغييراً أساسياً في السياسة الأميركية لن يقع بين يوم وليلة، بل يحتاج إلى جهد كبير تكون بدايته رؤية عربية واضحة تقف وراءها الإمكانيات العربية (وهي ليست قليلة) لتتعامل مع اللحظة الراهنة التي يفشل فيها المشروع الأميركي في العراق، حتى لا ندفع نحن ثمن الفشل الأميركي كما دفعنا ثمن الغطرسة والاحتلال.

ونفس منطق «الرسائل الخاطئة» يجري التعامل به في القضية الفلسطينية. ففي الوقت الذي تعلن فيه الإدارة الأميركية أنها ستكرس الجزء الباقي من فترة رئاسة بوش الثانية والأخيرة في محاولة جادة للتعامل مع هذه القضية سواء لتحقيق إنجاز «تاريخي» يدخل الحزب الجمهوري به انتخابات الرئاسة القادمة، أو لتهيئة مناخ مناسب لانسحاب مشرف من العراق، أو لمحاصرة النفوذ الإيراني استعداداً لاحتمالات يريد البعض في الإدارة الأميركية أن تكون الحرب بينها.

في هذا الوقت لا تكتفي الإدارة الأميركية بمواصلة سياستها المعادية للشعب الفلسطيني والإصرار على تشديد الحصار عليه بهدف أن تدفعه الحاجة للقمة الخبز إلى التسليم بما تريده أميركا (وإسرائيل) وإنما تواصل واشنطن سياسة الابتزاز والضغوط تجاه حلفائها وتجاه العرب.

فتعلن وزيرة الخارجية الأميركية رايس أن اتفاق مكة بين حماس وفتح كان عقبة في طريق السلام!! وترفض واشنطن (في العلن) أي خطوة من جانب أوروبا للتعامل مع حكومة الوحدة الفلسطينية لأنها ستكون «رسالة خاطئة» تدعم الإرهاب(!!) الفلسطيني من جانب حماس الملتزمة بالتهدئة حتى الآن رغم الجرائم البشعة والاحتياجات العسكرية وقتل الأطفال الذي لم تتوقف “إسرائيل” عنه يوماً وهي تتمتع بالدعم الأميركي!!

وتعرف واشنطن أن أحداً لن يصدق أن دول أوروبا تريد أن تدخل في معركة معها من أجل عيون الفلسطينيين، وتعرف واشنطن أننا نعرف ما تعرفه هي من أن زمن الخلاف بينها وبين باريس وبرلين عند غزو العراق قد انطوى، وأن التنسيق يسود بين الجميع، وأن ما يجري بالنسبة لنا هو «توزيع للأدوار» يريد أن يمسك بكل الخيوط في يديه.

ومن القمة العربية الأخيرة تأتي أكثر من رسالة اعتبرتها واشنطن أيضاً في عداد «الرسائل الخاطئة». وإذا كان رد الفعل الأميركي لم يكن عنيفاً بفعل إدراكها لمحدودية التأثير العربي في السنوات الأخيرة من ناحية، وبفعل ثقتها المفرطة بقدرتها على إجهاض أي حركة عربية على الطريق الصحيح من ناحية أخرى، إلا أن واشنطن كانت حريصة على أن يبقي رأيها واضحاً أمام الأصدقاء وغير الأصدقاء على حد سواء، وعلى عدم ترك هذه «الرسائل» تتفاعل مع الرأي العام العربي أو حتى مع الرأي العام الأميركي الذي تخشاه الإدارة الأميركية أكثر من غيره وجربت عقابه في انتخابات الكونغرس الأخيرة وتخشي تكرار العقاب في انتخابات الرئاسة في العام المقبل.

الرسالة الأولى التي توقفت عندها الإدارة الأميركية جاءت في كلمة عاهل السعودية الملك عبد الله حين أكد أن العراق تحت الاحتلال غير الشرعي. وإذا كان الرئيس العراقي طالباني حاول تخفيف الأمر إلا أنه أقر بواقع الاحتلال حين تحدث عن «عملية تحرير تحولت إلى احتلال» فإن الإدارة الأميركية سارعت بالإعلان عن رفضها لحقيقة أن وجودها في العراق هو «احتلال غير شرعي» وتأكيدها على أنها «ذهبت بناء على دعوة من حكومة بغداد المنتخبة ديمقراطياً في دولة ذات سيادة» على حد قول المتحدث باسم البيت الأبيض! وهو قول لا يجافي فقط الحقيقة ولكنه يتسم بالصفاقة.. فإذا سلمنا جدلاً بأن هناك في بغداد حكومة وأنها منتخبة ديمقراطياً في دولة ذات سيادة.. فإن المتحدث باسم البيت الأبيض يعرف أن ذلك كله قد وقع بعد أن أقدمت القوات الأميركية على غزو العراق وتدميره وقتل مئات الألوف من أبنائه ووضعه تحت حكم حاكم أميركي رتب بعد ذلك لتقسيم العراق وإغراقه في الحروب الطائفية، ورتب لما يصفه المتحدث الأميركي بأنها انتخابات ديمقراطية (جرت تحت الاحتلال!!)  لتقوم الحكومة التي جاءت على يد الاحتلال بدعوة الاحتلال!! وهو أمر باطل قانوناً بكل المقاييس، ولكن الإدارة الأميركية كانت حريصة عليه ظناً أنه يمنحها شرعية مفتقدة! وهو نفس الأمر الذي حدث مع الأمم المتحدة التي رفضت إعطاء واشنطن قراراً يتيح لاحتلالها العراق أن يكون تنفيذاً لإرادة دولية، فكان الاحتلال من دون شرعية دولية، وحاولت واشنطن أن تحصل على هذه الشرعية بعد الاحتلال بطرق ملتوية ولكن النهاية لهذه المحاولات جاءت على لسان كوفي عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة وهو يغادر موقعه، ومع تحرره من ضغوط المنصب أكد أن احتلال العراق كان خارج الشرعية وخارج القانون!!

المهم هنا أن الرسالة التي اعتبرتها واشنطن خاطئة من القمة العربية حول احتلالها غير الشرعي للعراق ينبغي أن تكون الموقف الرسمي العربي الملزم للجميع، وأن تفتح الباب ليس فقط لشرعية مقاومة الاحتلال، بل أيضاً لتحميل واشنطن مسؤولية كل ما جرى للعراق من تدمير، وأن تبطل المحاولات التي فرض فيها الاحتلال على الحكومات العراقية تحصين جنوده ضد المحاكمة عن جرائمهم في العراق. فلا ينبغي أن تذهب هدراً دماء ما يقرب من ثلاثة أرباع مليون عراقي راحوا ضحية جنون مجرمي الحرب من اليمين الأميركي ومن أجل مصلحة “إسرائيل” وحدها!!

ورسالة ثانية من القمة العربية اعتبرتها واشنطن «رسالة خاطئة» رغم أنها لم تكن بعيدة عنها منذ البداية. وهي الرسالة التي تمثلت في تأكيد قمة الرياض على مبادرة بيروت بشأن تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي. وهي المبادرة التي ألحت عليها واشنطن في البداية، وعندما تحققت أهملتها وكأنها لم تكن لخمس سنوات كاملة حتى عادت بعد الفشل الذريع التي واجهته في العراق للتركيز على القضية الفلسطينية.

وكان إحياء المبادرة العربية ثمرة اتصالات مستمرة لشهور طويلة كانت فيها واشنطن تحاول بلورة سياسة جديدة بعد سقوط رامسفيلد وتراجع نفوذ اليمين الصهيوني الأميركي، وانتقال ملف المنطقة إلى وزيرة الخارجية رايس.

لكن واشنطن كانت تريد إحياء المبادرة العربية بشكل يخدم مصالحها ومصالح “إسرائيل”، وكخطوة تؤدي إلى التطبيع العربي مع “إسرائيل” كمقدمة للتفاوض (مجرد التفاوض) حول التسوية النهائية للقضية الفلسطينية، وعندما لم تنجح هذه المحاولة تراجعت واشنطن خطوة لتلتف مرة أخرى حول نفس الهدف.

فكان التأكيد من رايس وغيرها أن واشنطن لا تريد تعديل المبادرة ولكنها – في نفس الوقت – ترى فيها أساساً للتفاوض (أي لانتزاع المزيد من التنازلات العربية) مع التأكيد على فكرة إن “إسرائيل” الغلبانة (!!) تحتاج من العرب إلى إجراءات لبناء الثقة!!

والمشكلة هنا ليست في الموقف الأميركي المنحاز ل”إسرائيل”، ولا في الموقف الإسرائيلي الذي أعلن أنه يقبل «الهدية!!» العربية على أن يكون مفهوماً أنه لا تنازل عن القدس، ولا عودة لحدود 67، ولا عودة للاجئين، فإذا بقي شيء – بعد ذلك – للتفاوض حوله، ف”إسرائيل” – من كرمها – مستعدة للتفاوض، وأولمرت – من فرط تواضعه !!- مستعد لتلبية أي دعوة للقاء الزعماء العرب (المعتدلين طبعاً)!.

ليست المشكلة في الموقف الأميركي أو الإسرائيلي، وإنما في الالتباسات التي يتركها طرح المبادرة للأبد ودون تبني بدائل للتعامل في حالة الرفض الإسرائيلي لها. ويبدو أن هناك اختلافات في الرؤى حول هذا الأمر لم تصل إلى نتيجة، وهنا يكمن الخطر من قراءة خاطئة للمبادرة، أو من تعامل خاطئ يؤدي إلى مخاطر لن يجنبنا إياها إلا أن يكون واضحاً إن المبادرة هي الخط الأخير الذي لا يمكن التراجع بعده.

وأن على الجانب الآخر أن يرفض أو يقبل وضمن مهلة زمنية محددة، فإذا وافق كان التفاوض حول وسائل وتوقيتات التنفيذ فقط، وإذا رفض كان هناك موقف عربي حاسم يعيد القضية للشرعية الدولية ويعيد “إسرائيل”

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات