الثلاثاء 13/مايو/2025

نساء فلسطينيات في الانتفاضة (6)

نساء فلسطينيات في الانتفاضة (6)
قالت له: وداعاً ولم تبك. طبعت علي جبينه قبلة حارة. وقبلت سلاحه، وانزوت في غرفتها تدعو له بالتوفيق
أم لصحيفة اسرائيلية: هذه ظروف صعبة دون أدنى شك لكنني لا أشعر بالأسف. مستعدة للتضحية ببقية أولادي
 
الحمد لله الذي رزق ابني الشهادة

لعل ما قامت به أم الشهيد محمود العابد أو أم الشهيد محمد فرحات أو أخريات من الأمهات الفلسطينيات اللواتي قدمن فلذات أكبادهن بأيديهن للشهادة، واهتز لهن العالم، وعجزت أمامهن الكلمات التي تصف أماً تضحي بابنها لأجل أن ينعم شعب بحريته، يعتبر تصرفاً غريباً للبعض لكنه ليس بالأمر الغريب علي أمهات اشتعل الإيمان في أعماقهن، فجعلن من حياتهن وقوداً للجهاد والمقاومة.

والحاجة نعيمة واحدة من هؤلاء، وليس هذا فحسب، بل انها آثرت إبراز دورها والمكاشفة بصنيعها، رفعاً للروح المعنوية للشعب الفلسطيني، وتحفيزاً لكثير من الأمهات علي سلوك ذات الدرب، وممارسة ذات الدور والصنيع، تأسيساً واقتداءً.

ومن هنا، جاء حديثها عن ابنها الشهيد: كنت أملك أن أمنعه من الذهاب لتحقيق أمنيته بالشهادة، وبفضل الله عز وجل أن ابني بارّ بي لا يغضبني أبداً وينفذ ما آمره به وهو حريص علي إرضائي، ولكني خفت من الله إن منعته أن يحاسبني الله الذي أمر بالجهاد في قوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)، وأيقنت أن الأعمار بيد الله عز وجل وأنه انتهي عمره ولن يستطيع أحد أن يرده إلي الحياة مرة أخري، فربما لو منعته من الجهاد يموت علي الفراش أو حادث طرق أو غيره دون أن يظفر بالشهادة فلأدعه يفز بالشهادة وأمر الله ماض. ومحمود خرج مرتين لتنفيذ عمليته الاستشهادية، ولكنه كان يعود في كل مرة لأن عمره لم ينته بعد، أما في المرة الثالثة، فكتب الله له الشهادة، وأرجو أن يتقبلها الله منه ويجمعني به في مستقر رحمته.
أنا لم أبارك عمله إلا عندما تأكدت أنه عازم حقيقة علي تنفيذ عملية استشهادية، ولا أنكر أني حزنت في البداية وتألمت مثل كل أم تتمني وتحلم بأن يكبر ابنها لتفرح به.

وكثرة الأحداث والقتل والتدمير جعلت كل نساء فلسطين مهيآت لخوض غمار الجهاد، بالإضافة إلي أن زياراتنا المتكررة لأمهات الشهداء زرعت الجرأة في قلوبنا، رغم أنه لا يوجد أحن من قلبي وأضعف منه، وخاصة علي محمود أحب أبنائي إلي، وظفره الصغير الذي يلقي به لا تعدله كنوز الأرض جميعاً أمامي، ولكن أوضاعنا وجرائم الاحتلال تحتم علينا أن نضحي من أجل أن نسعد غيرنا ونستعيد حريتنا ونحافظ علي ديننا.

ولا أنكر أنني بكيت عندما شاهدت صور والدة الشهيد أم محمد فرحات وهي تودع ابنها، ولكن عندما أصبحت مكانها لم أبك علي ولدي عندما فارقني وانتقل إلي ربه شهيداً، كنت أحاول أن أستفيد من تجارب أمهات الشهداء السابقين لولدي أسألهن عن سر صبرهن ودفعهن لأبنائهن لخوض الجهاد، والحمد لله اني صبرت ولم أذرف الدموع علي ولدي.

الوداع ليس بالأمر السهل علي قلب الأم، وربما الساعات التي يقضيها خارج المنزل تمر عليها كسنوات عجاف، فلا تدري ما مصير ولدها، وهل هو علي قيد الحياة أم أنه في المعتقل، وتبدأ تغرق في هواجس الخوف علي ولدها، رغم أنني كنت أحاول أن أسلي نفسي بعمل المنزل، وأن لا أفكر في أمره حتي لا أنشر الرعب بين باقي إخوانه، لذلك رجوته في المرة الثالثة أن لا يودعني ويتوكل علي الله.

وفي صباح يوم السبت عاد إلي المنزل في الساعة العاشرة تقريباً، وكان متعباً كثيراً ومرهقاً وكأنه لم يتذوق النوم منذ أيام، فاستلقي علي أقرب فراش أمامه وغرق في نوم عميق، ونظرت إليه وكأنني لأول مرة أشاهد ولدي، فهو مرهق كعاشق يحلم بالوصول إلي أمنيته، فدعوت الله حينها بقلب صادق أن يقبله شهيداً ويحقق له أمنيته لعله يرتاح من هذا العناء الطويل .

وتواصل الحاجة نعيمة حديثها وتقول: وكان حقيقة في هذا اليوم هو آخر لقاء به. ومع تمام الساعة الثانية تقريباً، إذ بطفلي الصغير يبشرني أن مجموعة من الشبان اقتحموا مستوطنة في شمال قطاع غزة، ولم أعط اهتماماً لهذا الموضوع، فأنا أعلم أن محموداً خرج في عملية اقتحام علي دورية لجيش الاحتلال خارج المستوطنة، ولكن سرعان ما بدأ يتضح الأمر، فأيقنت حينها أن محمود علي خط النار وفي قلب الصراع، لأعيش أصعب لحظات حياتي، فأخذت أدعو الله أن يسدد رميته، وأن يقبله شهيداً، ولا يمكن الأعداء منه، وإن كان قلبي يحترق علي ولدي لحظة الفراق، ولكن الشهادة أغلي وأقوي من أي عواطف، والشهادة خير من الدنيا وما فيها .

إياكن أن تبكين بل زغردن

وفي منزلها الواقع بحي الشيخ رضوان، استقبلت والدة الشهيد المهنئين والمهنئات بالحلوي والزغاريد، واصطفت شقيقات الشهيد يستقبلن المواسيات لهن، والابتسامة تعلو شفاههن، وهن يواسين المعزيات لهن ويرجونهن ألا يذرفن الدموع علي شقيقهن، بل يطلبن من الله له الرحمة والمغفرة، وأن يقبله شهيداً. ولم يختلف الأمر كثيراً لدي شقيقته الكبري غادة التي بادرت بقولها: اليوم عرس محمود، أخيراً رزقه الله بالشهادة، سنزفه، وسنغني له عندما يؤتي به لنلقي نظرة الوداع، فهو حقاً عريس، وسبقني إلي الشهادة وإلي الجنة لأنه يستحقها .

وما هي إلا لحظات حتي قيل إن جثمان الشهيد محمود قد أحضر كي يتمكن ذووه من إلقاء نظرة الوداع عليه فنهضت و قامت بتجهيز طاولة كي يوضع عليها جثمان ابنها قائلة للحضور: لا أريد ضجيجاً عندما يأتي محمود، أريد أن آخذ راحتي معه ، ونظرت إلي إخوته وعمّاته وخالاته وأضافت: إياكن أن تبكين، بل زغردن حال وصول الجثمان الطاهر، فهذه وصيته وأنا وعدته بتنفيذها .

وبعد أن دخل جثمان الشهيد المنزل، علت الزغاريد من أفواه النساء، ثم وضع جثمانه علي الطاولة التي جهزتها أمه بيديها، وجلست تقبله بهدوء وتمسح وجهه بيديها ولسانها يلهج بالدعاء له أن يتقبله الله شهيدا في سبيله ويدخله فسيح جناته.

وأمام المنزل تجمع الآلاف وما أن خرج جثمان الشهيد من بيته بعد أن ودّعه أهله وذووه، حتي انطلق الموكب الجنائزي المهيب بمشاركة الآلاف نحو مسجد (أمان) القريب، وهو المسجد الذي كان محمود معتاداً علي الصلاة فيه وبعد صلاة الظهر أديت صلاة الجنازة علي روح الشهيد، ثم انطلقت الجنازة، وأطلق بعض المسلحين النار في الهواء تكريماً لروح الشهيد، في حين قامت عناصر من الجناح العسكري لحماس بحمل الجثمان وسط هتافات غاضبة متوعدة ومطالبة بالثأر ومواصلة طريق المقاومة والانتفاضة.

والدة الاستشهادي محمد حلس

الكثيرون ممن لا يفهمون فلسفة الموت والحياة في الإسلام، ولم يتعرفوا إلي المجاهدة أم نبيل، والدة الاستشهادي محمد أحمد حلس، وجد صعوبة كبيرة في استيعاب معني وداع الأم الفلسطينية لابنها وإعداده للجهاد، مع أن حال أم نبيل المكلل بالأنفة والثبات والاحتساب لم يكن طارئاً أو معزولاً، فقد جاء في سياق عزيز وأصيل، فهي الخنساء الثالثة في فلسطين بعد الخنساء الأولي والدة الشهيد إبراهيم نزار ريان التي ودعت ابنها قبل اقتحامه مستوطنة ايلي سيناي شمال قطاع غزة، والخنساء الثانية أم نضال فرحات التي ودعت ابنها بحرارة قبل مهاجمته لمستوطنة عتصمونا ليوقع فيهم القتل والتدمير.

بيد أن عمق التربية التي تشربها محمد لم تقنعه بالمشاركة التقليدية في أعمال وفعاليات المقاومة كما هو حال عدد كبير من المجاهدين، بل أراد أن يكون متميزاً في كل شيء، وأن يرتقي مرتقيً نوعياً في مساره المقاوم، يحقق له أمانيه، ويشبع له رغباته، ويقرب بينه وبين أغلي طموحاته: الشهادة، التي وضعها نصب عينيه هدفاً أولاً وأخيراً، ولم يقبل لها تحويلاً، أو يرضي سواها بديلاً.

وما أن اتخذ قراره، وحسم شأنه وخياره، حتي بادر بالتخاطب مع المسؤولين لم يكن محمد بحاجة إلي جهد كبير وعناء لإقناع مسؤوليه، فسيرته المشرفة، وجهوده الدؤوبة، وعطاؤه الفياض، كانت كلها كافية لاحتلال موقع متقدم في أجندة التخطيط والإعداد للعمليات الجهادية القادمة.

وكان لمحمد ما أراد وتمني، إذ لم يمض وقت طويل حتي رشح لتنفيذ عملية عسكرية ذات صبغة استشهادية داخل إحدي مستوطنات غوش قطيف، ليبدأ رحلة الإعداد والتجهيز لميقات التنفيذ، ويبدأ يعدّ الأيام والليالي المتبقية التي تفصله عن موعده مع الشهادة، وموعده مع لقاء الله تعالي، ولقاء الأحبة الكرام من النبيين والشهداء والصالحين والأخيار وحسن أولئك رفيقاً.

الشهيد محمد فتحي فرحات هو الصديق الحميم للشهيد محمد أحمد حلس، حيث تربي الاثنان في مسجد الإصلاح وكانا من أشباله، يشاركان في نشاطات المسجد مع بعضهما، بل ويجلسان في المسجد بجانب بعضهما. وبعد استشهاد محمد فرحات أبي محمد حلس إلا أن يلحق به، حيث أقسم محمد حلس في جنازة محمد فرحات أن يلحق به قائلاً: والله لألحقنك يا محمد . وبالفعل، ابر محمد حلس بقسمه ونفذ عمليته ليلتقي مع حبيبه في جنات النعيم.

وحول واقعة استبداله تقول والدته: لم أرَ محمداً حزيناً بهذا الشكل طيلة حياتي، جاءني وقلبه مملوء بالحزن والحسرة، إذ انه كان يتمني أن يكون هو المنفذ وقلت له: سيأتي عليك يوم قريب وتنفذ عملية أخري في قلب الأعداء، و ها هي جاءته الفرصة وقام بتنفيذ العملية في مستوطنة نتساريم ونال الشهادة التي أحبها وتمناها .

وتضيف أم نبيل: الشهيدان تنافسا علي تنفيذ العملية في مستوطنة عتصمونا، وأصر كل منهما علي أن ينفذها هو ويفوز بشرف الشهادة ورفض كل منهما التنازل للآخر، حينها قرر الإخوة القائمون علي العملية ترك الأمر للشهيدين لتسويته بينهما. واتفق الشهيدان علي أن يصلي كل منهما صلاة الاستخارة وينتظرا ماذا يقرره الله سبحانه وتعالي. وبالفعل، فقد صلي الشهيد محمد فرحات صلاة الاستخارة وتوجه بعدها إلي بيته ونام. وبعد فترة رن جرس هاتفه النقال ليخبره الإخوة أنه قد وقع عليه الاختيار لتنفيذ العملية، حينها أخبر محمد فرحات أمه أنه في اللحظة التي رن فيها الجوال كان هو يحلم أنه هو من سينفذ العملية في مستوطنة عتصمونا. وحينها اقتنع الشهيد محمد حلس بهذا الاختيار، وودع رفيقه وأخاه المجاهد علي أمل أن يلتقيا في جنان النعيم. وما هي إلا أيام قليلة حتي أوفي محمد حلس بقسمه ولحق بأخيه المجاهد محمد فرحات ليسطرا معاً صور الأخوة والإقدام، تنافسا في الدنيا والتقيا في الآخرة .

وجّه سلاحك بدقة في وجه الأعداء

في ثنايا هذه التطورات كان محمد يطلع والدته علي كافة التفاصيل، ويضعها في صورة المستجدات الحاصلة، فكانت تشجعه وتأخذ بيده، وتشحذ همته، وتعلي من عزمه، وتشد من أزره، وتبقي علي درجة حماسته وتفاعله وثباته عالية دون نقصان. وما هي إلا أيام قليلات حتي كان التخطيط للعملية الجديدة قد استكمل مداه، واستجمع تفاصيله، ليبدأ العد التنازلي للتنفيذ، ويبدأ محمد مرحلة جديدة في حياته، مرحلة ملؤها الفرح والسرور، ملؤها الشوق للشهادة واستقبال الآخرة، بروح شفافة، ونفس مطمئنة، وقلب عامر بالإيمان، والثقة بنصر الله.

وكما بدأ محمد مرحلته الجديدة، بدأت أم نبيل مرحلة جديدة في حياتها أيضاً، إذ لم يعد يفصلها عن استشهاد ابنها ومحبوبها وفلذة كبدها، ومفارقته، سوي أيام بل ساعات معدودات، مع ما يعنيه كل ذلك للأم وما تختزنه في قلبها من حب وحنان، وما تملكه بين جوانحها من عاطفة أمومة جامحة لا تضاهيها أية عاطفة إنسانية علي الإطلاق. ومع ذلك، عضت أم نبيل علي آلامها وأحزانها، وتجاسرت علي مشاعرها وعواطفها، موكلة أمرها إلي الله تعالي، محتسبة كل ما قد يصيبها عنده سبحانه، موقنة أن حب الله يجب أن يعلو أي حب آخر، وأن التضحية في سبيل الله تقتضي بذل الأغلي، وتقديم الأحب، وعدم البخل علي الله بأي شيء كان، مهما كان جليلاً، أو بلغت درجة كبره وعظمته، ومستوي أهمي

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات