السبت 01/يونيو/2024

نساء فلسطينيات في الانتفاضة (4)

نساء فلسطينيات في الانتفاضة (4)
الحاجة فرحة

أدخلت الحاجة فرحة البرغوثي (74 عاما)، من قرية كوبر شمال رام الله، إلي قسم العناية المركّزة في مستشفي الشيخ زايد برام الله في بداية نيسان (إبريل) 2005م، وبعد جملة من الفحوصات والتحاليل، أخبر الأطباء عائلتها أن كل شيء بيد الله، فلم يعد أمام الحاجة سوي أيام، واختصر الأطباء الأسباب في أن كبيرة عائلة البرغوثي في كوبر وأم كل الأسري كما يسميها البعض، تعاني من مشاكل صحية عديدة، أخطرها وجود مياه علي الرئة، وهبوط في دقات القلب، إضافة إلي تدهور في وظائف الكبد أدي إلي حدوث تشمع كبدي، وانتفاخ في البطن.

معاناة الحاجة فرحة كان من الممكن أن يطويها النسيان لولا وجهان من وراء القضبان ظلا يلوحان أمامها بين صحوتها وغيبوبتها، نائل وعمر.. بدي أشوفهم قبل ما أموت ، ظلت تلح بالقول، فقد اعتقل ولدها الأصغر نائل في الرابع من نيسان (أبريل) عام 1978م، برفقة شقيقه الأكبر عمر وابن عمه فخري بعد أن اتهموا بالقيام بعملية فدائية في منطقة النبي صالح شمال رام الله أدت إلي مقتل طيار صهيوني، وحكم عليهم جميعا بالسجن مدي الحياة.

وفور إطلاق الحكم بالسجن مدي الحياة أطلقت الحاجة أم عمر الزغاريد، وعندما سألها جنود الاحتلال عن سبب الزغاريد وقد حكم علي ولدها بالسجن مدي الحياة؟ ردت عليهم قائلة: إنه قد نجح في حرق قلوب الأعداء ويستحق ذلك الفرح.

ومنذ سبعة وعشرين عاما فشلت كل اتفاقيات الهدنة والمفاوضات وصفقات التبادل في أن تعيد الأسيرين إلي أحضان أمهما أو فخري الذي لا يناديها سوي أمي الحاجة فرحة بعد أن فقد أمه بينما كان صغيرا، وفي كل مرة تعود من استقبال المحررين من الأسري بخفين من دمع وألم.

وكان عمر أبو عاصف ابنها الأكبر قد أطلق سراحه عام 1985م بعد ثماني سنوات قضاها في الأسر، ولكن أعيد اعتقاله لاحقا لمدة 40 شهرا تحت الاعتقال الإداري، ومن ثم لثلاث سنوات ونصف أخري. وقبل أقل من عام ونصف التحق عمر مرة أخري بركب أخيه في سجن عسقلان ، وما زال حتي الآن ينتظر حكما لا يبدو أنه سيكون قصير الأمد.

تقول الحاجة فرحة: في العام 1978 اعتقلوا نائل لأول مرة عشرين يوما لأنه سرق عصا لأحد الجنود، وعندما خرج من المعتقل قال لي: يا أمي، رأيت نفسي بين المعتقلين مثل الدجاجة الصغيرة…عرفت أن نائل يسعي إلي عمل أكبر. وبعد ذلك بشهر تقريبا، جاء الجنود وطرقوا الباب بشدة، فقام زوجي وفتح الباب لهم، فقالوا نريد نائل، وقاموا باعتقاله، وبالطبع كسَروا الأثاث والبيت. وبعد أيام جاؤوا مرة أخري واعتقلوا عمر حيث كان يقودهم ضابط مخابرات اسمه أبوطارق قلت له: زي ما أخذت أولادي من الفراش الله يبعث أولاد حلال يأخذوك من أبنائك. وبعد سنوات، وعندما دخل الاحتلال إلي جنوب لبنان قتل أبوطارق في عملية تفجيرية حدثت في منطقة صور .

وتضيف أم المعتقلين: بعد اعتقال نائل وعمر لم أعرف ما تهمتهما إلا من التلفزيون الذي بث محاكمتهما، وتفاجأنا أن تهمتهما قتل مهندس الطيران الإسرائيلي. وعند أول زيارة لنائل قال: يا أمي يريدون أن ينقلوني إلي سجن السبع، فقلت له: سجن السبع للسبع، ونقلوه إلي هناك. ومنذ ذلك التاريخ لم يبق معتقل من المعتقلات إلا زرته، وكان لي حكاية فيه، سواء مع الشبان أو الجنود الذين كانوا يحاولون أن يضيقوا علينا وعلي المعتقلين. فكنت دائما علي عراك معهم، ودائما يقول لي نائل: يا أمي، كل الشبان هنا وأهلهم يعرفونني ويعرفونك، فأقول له: يا بني أنا لست أمك وحدك أنا أمهم جميعا. وكثيرا ما كنت أزور معتقلي الدوريات ـ معتقلي الدول العربية ـ فكثير منهم ليس لهم أهل ويعتبرونني أما لهم، وكلهم عزيزون علي قلبي ولا أفرق بينهم وبين نائل أو عمر .

توالت المحن بعد ذلك علي الحاجة فرحة، فقد قدر لها أن تكون هناك في حافلات الصليب الأحمر مع كل فجر يوم لتزور ابنيها الاثنين وزوجها. فمن سجن السبع إلي عسقلان إلي مجدو والظاهرية إلي جنيد ونفحة والنقب، كل هذه الأسماء كانت محلا لزيارات الحاجة فرحة. فعمر كان في الجنيد، ونائل في عسقلان، وزوجها يتنقل من معتقل إلي آخر، وكان لا بد لها أن توفي إلي أبنائها وزوجها الذين تخيروا فاختاروا طريق الجهاد.

الحاجة فرحة بعد هذا العمر عاشت علي أمل واحد فقط هو أن يأتي اليوم الذي تضم بين ذراعيها ابنها نائل الذي دخل السجن في الثامنة عشرة من عمره وهو اليوم فوق الأربعين. وأكبر أمنياتها أن تفرح به قبل أن تموت، وتكشف أم المعتقلين: قال لي نائل أن أسجل شريط فيديو حتي يبقي يراني إذا لم يخرج من السجن وأنا علي قيد الحياة .
الحاجة فرحة البرغوثي، والدة ثاني أقدم أسير في سجون الاحتلال، توفيت بعد أن رفضت إدارة السجون الإسرائيلية السماح لها مرة أخري برؤية ولديها اللذين انتظرتهما طويلا دون جدوي.

كلهم فداء للوطن

قال لها قاضي المحكمة الذي نطق بالحكم الجائر علي ابنها الضرير عبادة: لا يحق لأم مثلك أن يكون لديها أبناء يكفنونها عند الموت، لأنك أنجبت خمسة إرهابيين، ودولة إسرائيل ستحرص علي حرمانك من رؤيتهم لآخر لحظة في حياتك . ولم يسمح لها بزيارة أبنائها، حتي الاتصالات شبه معدومة بسبب الحجز الانفرادي لمعظمهم إن لم يكن لجميعهم، حيث تقول الحاجة أم بكر والدة عضويين في كتائب القسام: إن أبنائي معتقلون في سجون مختلفة وبعيدة عن بعضها، ومرات كثيرة تتصادف مواعيد الزيارات في ذات اليوم مما يزيد من حيرتي، ولا أستطيع أن أزور اثنين معا؛ فالإجراءات التي تتخذها مصلحة السجون بحقهم تأخذ وقتا طويلا تستنفد ساعات النهار بكامله، كما أنهم لا يصدرون لي إلا تصريحا واحدا للزيارة .

أم بكر حاولت أن تحبس دمعتها وهي تجلس في البيت الذي أعتم بسبب غيابهم، ومن يستطيع أن يمنع نزول دمع من عين افتقدت خلف قضبان السجن خمسة كزهور الربيع؟ هل تكفي كل كلمات المواساة المخطوطة في القواميس للتخفيف عنها؟ أم هل تستطيع الصور الحد من حرقة الشوق إليهم؟

توقعت أن يسرق مني الاحتلال ككل الفلسطينيات أحد أبنائي لكن ليس الخمسة! كان المنزل يضج بالحياة والحيوية، لكنه اليوم يشتاق لهم، وجدرانه تفتقدهم ، هكذا تتحدث أم بكر وهي تشحذ نفسها بالصبر والإيمان بجسدها النحيل الذي هده البعد والجوي، فهم خمسة شباب تتكحل العين برؤيتهم: هذا يداعبها وذاك يقبل جبينها، والآخر يأخذ يدها ويطلب الدعاء، ولم تتوقع أم بكر أن هذا البيت سيفتقد يوما تلك الشقاوات أو تلك الضحكات، فهم خمسة من المستحيل أن يرحلوا مرة واحدة، لكن الاحتلال لم يجعل علي الأرض شيئا مستحيلا، وحكم القاضي بـ 700 عام من السجن، هي مجموع ما سيقضيه أبناؤها الخمسة خلف الأسوار الصهيونية.

والسؤال الأول الذي يراود أيا منا: ما هو شعور والدين في غياب جميع أبنائهم خصوصا وأنهم يقبعون في سجون الاحتلال؟ بكر، عمر، معاذ، عثمان، وعلي، خمسة أشقاء أبوا العيش الذليل الذي يحاول المحتل فرضه علي شعبهم ومستقبل حياتهم.

بدأت حكاية أم بكر مع الاعتقالات يوم أن وقع ابنها معاذ أسيرا في سجون الاحتلال؛ حيث يقضي الآن حكما بالسجن المؤبد 26 مرة بالإضافة إلي 25 عاما و24 شهرا، ويتهم الصهاينة معاذا بأنه أحد العاملين مع قادة كتائب الشهيد عز الدين القسام، وهو معتقل منذ العام 1997م في سجن نفحة الصحراوي، في حين يمكث الابن الثاني عثمان في سجن عسقلان بعد أن حكم عليه بالسجن المؤبد خمس مرات منذ عام 1995م. وعثمان كان يعمل ضمن خلية ما يعرف بتلاميذ المهندس يحيي عياش والتي نفذت عمليتي رامات غان في تل أبيب ورامات أشكول في القدس، أي أن معاذ وعثمان لا يمكن أن يلتقيا بالوالدين إلا بقدرة ربانية.

عبادة الكفيف صانع متفجرات

ولم تكتمل حكاية أسرة أم بكر بعد؛ فـعبادة، الابن الأصغر، له حكاية أخري، إذ لم يشفع له فقدانه للبصر وكونه كفيفا ليعتقله الجنود الصهاينة، وتُصدر عليه إحدي المحاكم العسكرية حكما بالسجن إحدي عشرة سنة. والتهمة الموجهة إليه أنه أحد صانعي المتفجرات، والمشرف علي إنتاج وتطوير صاروخ القسام في الضفة الغربية، حيث اعتقل خلال ما سمي بعملية السور الواقي عام 2002في وادي الفارعة، وكان اسمه مدرجا علي قوائم الاغتيال بتهمة محاولة تصنيع صواريخ القسام في شمال الضفة الغربية، وحين اعتقاله لم يكن قد مضي سوي شهر واحد علي زواجه.

وأما بكر، الابن الأكبر، وهو متزوج وله أربعة أطفال ينتظرونه علي أحر من الجمر، فهو قيد الاعتقال الإداري، حيث يتم التجديد التلقائي له كلما انتهي حكمه وقضي حتي الآن أربع سنوات في السجن، وليس هناك أفق من أجل الإفراج عنه، والتهمة وفق لوائح الاتهام الصهيونية أنه ناشط في حماس .

وبعد أن قضي الابن الخامس عمر محكوميته البالغة عاما ونصفا بتهمة تقديم المساعدة لشقيقه المطلوب تم تحويله إلي الاعتقال الإداري ليتم التجديد له ثلاث مرات، ولم يفرج عنه إلا في كانون الأول (ديسمبر) 2004، والتهمة كانت مفصلة كأخيه، واعتقل في نفس اليوم الذي اعتقل فيه شقيقه الأكبر بكر.

وأما علي الشقيق الأصغر، الذي كان طالبا في السنة الأولي في قسم الصحافة في جامعة النجاح الوطنية، فقد اعتقل كما تقول أمه في الاجتياح الأول لمدينة نابلس في 16/4/2002، وترك زوجته وراءه. وفي المحكمة أبلغ القاضي أم بكر مرة أخري: يجب إحراق دمك علي أبنائك، فهم مخربون ، فقابلته بابتسامة وقالت: هم فداء للوطن .

ولكن دعوات أم بكر لأبنائها متصلة لا تنقطع، ورجاؤها برب العالمين كما تقول كبير: الإيمان بالله، وبقضائه وقدره، الوصفة السحرية لتجاوز أي محنة، نحن لا نملك شيئا بيدنا، فكله مقدر ومكتوب علينا، هم اختاروا طريقهم وساروا فيه. وإن لم يقدر الله لي رؤيتهم في الدنيا فأنا أدعو الله ليل نهار أن يجمع بيننا في الآخرة، ومهما حاول الاحتلال أن يكون سببا في فصل جسدي عن أجسادهم فأرواحنا متصلة .

تتحدث أم بكر، ولا تفقد الأمل بل تجعلك تستمد قوة من كلماتها وبسماتها، علي الرغم من منعها من زيارتهم داخل السجون بعد عزلهم في زنازين منفردة.

وتشير الأم الصابرة إلي أنه بعد انتفاضة الأقصي المبارك باتت الزيارات صعبة ومعقدة، وغالبا ما يتم إلغاؤها أو منعها هي شخصيا من الزيارة، فما أن يعرف السجان الإسرائيلي أنها والدة أحد المعتقلين من عائلة سعيد بلال حتي يمنعها من مقابلة ابنها المقصود.

تقول أمّ بكر عن هذا: لم تكتفِ سلطات الاحتلال باعتقالهم، بل تمنعني وزوجي من زيارتهم جميعا، فلم أرَ عثمان منذ محكمته قبل ثماني سنوات، ومعاذ لم أرَهُ أيضا منذ أربع سنوات، وعبادة الصغير رأيته من بعيد يوم المحكمة، وكانت حالته يرثي لها و ملابسه سيئة للغاية، وكذلك بكر أحرم من زيارته بحجّة المنع الأمنيّ.

ولا تنظر أمّ بكر باستهجانٍ للسياسة القمعية الصهيونيّة بحقّ عائلتها، بل تعتقد أنّ اعتقال الاحتلال لأبنائها الأربعة بعد أنْ أُفرِج عن الخامس هي سياسة تفرضها طبيعة المحتلّ الغريب الذي يشعر بالخوف في كلّ لحظة يتباهي فيها بالانتصار. وتختم أمّ بكر كلامها قائلة: ما يصلني عنهم أنّ معنوياتهم عالية، وأملي أنْ يعودوا سالمين، فأنا وهم مؤمنون بالله وكذلك مؤمنون بعدالة قضيّتنا، وأنا علي يقينٍ أنّني سأحتضنهم يوما ما كيقيني أنّ الاحتلال في فلسطين إلي زوال .

تضامنت مع ابنها الأسير فلحقت بابنها الشهيد:

عائشة محمد حماد الزبن أسلمت الروح إلي بارئها مساء الأحد الموافق 30 آب (أغسطس) من عام 2004 عن 55 عاما قضتها أمّا للشهداء والأسري، عاشت علي أمل حريتهم، وماتت من أجلهم. وتربي في بيتها القادة الشهداء أيمن حلاوة ومهند الطاهر، ومن بيتها أيضا خرج الأبطال إلي ساحات القتال. وكانت قد تقدمت لأداء فريضة الحج مرتين، فلم يكتب لها ذلك، وانتقلت إلي جوار ربها قبل أن تنعم بلقاء ابنها أو أداء فريضتها.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

3 إصابات برصاص الاحتلال في مخيم بلاطة

3 إصابات برصاص الاحتلال في مخيم بلاطة

نابلس - المركز الفلسطيني للإعلام أُصيب، اليوم السبت، ثلاثة شبان بالرصاص الحي، خلال اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مخيم بلاطة، شرق نابلس. وأفاد...