السبت 01/يونيو/2024

نساء فلسطينيات في الانتفاضة (5)

نساء فلسطينيات في الانتفاضة (5)
قاموا بتأدية واجبهم واصطفاهم الله شهداء

مثال آخر عن دور ام نضال، وذلك إبان الانتفاضة المباركة الأولي، فقد ترعرع عماد ـ رحمه الله ـ في بيت أم نضال حيناً من الدهر، متخفياً. يعيش وسط الأسرة كأحد أبنائها، حتي أدركته الشهادة عقب مسيرة جهادية طويلة ومريرة. فآنذاك وجد الشهيد عقل في أم نضال أمه الثانية، وفي عائلة أم نضال عائلته التي لم تتمايز عن عائلته الأصلية، فكان فرداً من أفراد الأسرة، يعيش عيشها، ويحيا حياتها، يسعد لسعادتها، ويتألم لألمها، وكانت بالنسبة له الضالة المنشودة التي احتاجها بشدة فترة المطاردة والملاحقة الصهيونية، والملجأ الحصين الذي قضي فيه جزءاً عزيزاً من حياته مغموراً بالحماية والتغطية والإسناد، والمحضن الوفي الكريم الذي أفاض عليه من العطف والرعاية والحنان الشيء الكثير.

وكما كانت أم نضال وعائلتها للشهيد عماد عقل مثالاً ناصعاً للوفاء اللا متناهي، والتضحية الواسعة والعطاء غير المحدود، فإن الشهيد عماد عقل ـ رحمه الله ـ قد ترك بصمات عميقة وآثاراً غائرة في صميم أسرة أم نضال وبنيانها النفسي والمعنوي.

فقوة الإرادة، وصلابة الشخصية، وثبات الموقف، وعمق التضحية، والإيغال في الجرأة والشجاعة، والانتصار للحق في مختلف الظروف مهما كان الثمن ومهما بلغت التحديات، كلها صفات ومزايا وشمائل تحلي بها الشهيد عماد، وانتقلت ـ توريثاً وتعليماً ـ إلي أسرة أم نضال التي ملكت أسس وبذور التدين والإباء منذ نشأتها، فكانت صفات الشهيد عماد عقل عنصر تعزيز لقيمها ومفاهيمها، وعامل إسناد لمبادئها وأفكارها.

وما أن استشهد عماد في قلب دارها، حتي بدأت مرحلة جديدة في حياتها! فلم تكتف أم نضال بما قدمته للشهيد عماد، ولم تأنس بما بذلته من جهد وتضحية خدمة له ولحركته وجهاده، بل أرست نواة همة جديدة وعزم جديد، عاهدت الله من خلالها علي الثبات علي طريق الحق، والسير علي درب الشهيد عماد وكافة إخوانه الشهداء المجاهدين، مهما كلفها الأمر من عطاء وصبر وتضحيات.

وهكذا، وجدت أم نضال في أبنائها خير من يفي بالوعد ويبر بالقسم ويشفي الغليل ويمضي علي الطريق، فنذرت نفسها وأبناءها لله تعالي، وشرعت في تعميق انتماءاتهم الدينية، وترسيخ صلاتهم بالله، وتعظيم حبهم للوطن وضرورة الجهاد والتضحية في سبيل الله. وكان السجن والاعتقال بداية سلسلة التضحيات التي دفع فاتورتها أبناء أم نضال، فقد ضمت غياهب السجون اثنين من أبنائها لعدة سنوات.

فتحي فرحات

فصول القصة البطولية لأسرة فتحي فرحات، لم تبدأ بشهادة أبنائها خلال انتفاضة الأقصي، بل تعود إلي بداية الانتفاضة الفلسطينية الكبري عام 1987، فور عودتهم من الجماهيرية الليبية، حيث كانت بداية حياتهم هناك، استقروا في منزل متواضع بحي الشجاعية، أحد الأحياء الشرقية لمدينة غزة، وبعدها انخرطوا في الانتفاضة المباركة وشاركوا بقوة في فعالياتها الجهادية.

التحول الأبرز في حياة أسرة خنساء فلسطين كان عام 1991، حين أصبح بيتهم مأوي آمناً لأبرز قادة ونشطاء كتائب الشهيد عز الدين القسام، أمثال: محمد الضيف وياسر النمروطي وعماد عقل وغيرهم الكثير احتضنتهم وأخفتهم من مطاردة وملاحقة سلطات الاحتلال الصهيوني، وانتهت هذه المرحلة باستشهاد القائد عماد عقل في بيت العائلة في 24/11/1993.

بعد استشهاد القائد عماد عقل، اعتقل الشقيقان نضال وحسام، وأمضيا في سجون الاحتلال ثلاث سنوات. وبتاريخ 20 آذار (مارس) 1995 تم اعتقال الشقيق الثالث وسام في مدينة بئر السبع، بعد أن نجح في إدخال شاحنة مفخخة من قطاع غزة إلي الدولة العبرية، وحكم عليه بالسجن لمدة 11 عاماً قضاها في عدة سجون، أبرزها سجن هداريم الصهيوني.

أمّا خلال سنوات انتفاضة الأقصي المباركة فكانت أسرة فتحي فرحات من أبرز العائلات تقديماً للتضحيات، وكانت أمّ نضال فرحات هي الأم الأولي التي قدّمت فلذة كبدها محمداً ليكون شهيداً، عانقته قبل الذهاب إلي تنفيذ العملية، وودّعته في شريط فيديو وزع بعد استشهاده.

غير أن الحدث الأبرز في تاريخ العائلة وفلسطين بأسرها، حينما ودّعت أم نضال ابنها محمداً قبل خروجه لتنفيذ عمليته الاستشهادية في مستوطنة ( عتصمونا) في السابع من آذار (مارس) 2002 حيث قتل سبعة صهاينة وأصاب 28 آخرين، وهو ما دفع الصهاينة للانتقام من العائلة بالتركيز علي اغتيال الابن الأكبر نضال. وبالفعل نجح الصهاينة بتاريخ 17/2/2003م في اغتيال نضال بعد تفجير طائرة مفخخة صغيرة وصلت إليه عن طريق أحد العملاء.

لم تمض شهور قليلة علي استشهاد نضال، حتي أصيب مؤمن برصاصة في حوضه أثناء تصديه للاجتياح الصهيوني لحي الشجاعية في 1/5/2003، وأما حسام فقد بترت ثلاثة من أصابع يده بعد انفجار قنبلة يدوية كانت معه. كما أن أبا نضال فرحات لم يمهله الأجل كثيراً بعد استشهاد نجليه نضال ومحمد، وتوفي قبل أن تتكحل عيناه برؤية نجله وسام الذي منع من زيارته في سجنه.

تتحدث خنساء فلسطين عن صغيرها رواد الذي خرج إلي هذه الحياة صباح يوم 4/4/1988، وتقول: إنها حين كانت حاملاً به أرادت أن تسميه شهيد لو وضعته صبياً، ولكنها رأت مناماً يخبرها أن ما في بطنها ولد واسمه رواد ، ونفذت الأم ما رأته بالرؤيا. وعن حياته تقول: نشأ في أحضان بيت يعشق المقاومة والجهاد في سبيل الله فكيف سيكون؟ ، وأضافت بعد أن استقبلت خبر استشهاده بكل رضا: رواد كان ليل نهار يسعي لنيل الشهادة والحمد لله وبكل فخر لقد نالها .

إنعام فتحي فرحات، هي ابنة أم نضال فرحات، وشقيقة الشهداء محمد ونضال ورواد، وزوجة الشهيد عماد عباس أحد قادة كتائب الشهيد عز الدين القسام الأوائل، ورفيق درب الشهيد القائد عدنان الغول، كبير مهندسي التشكيلات العسكرية الفلسطينية في انتفاضة الأقصي المبارك، لما جاء خبر استشهاد الزوج ما كان من الزوجة، التي تربت علي موائد الجهاد في أسرتها، إلا أن عملت بوصية أمها، فلم تصرخ أو تبكِ، بل قامت بالصلاة والسجود؛ حمدًا لله عز وجل. بل إنها قالت بصوتٍ يحترف الصبر: نال ما يتمني، فقد كنت أخشي أن يموت بسبب مرض يصيبه؛ نتيجة استنشاقه للمواد الكيماوية الخطرة التي يستخدمها بالتصنيع؛ حيث ان المرض أصاب أنحاء جسمه، ولكن الحمد لله الذي منحه الشهادة، وأدعو الله أن يُعينني علي تربية أولادي، وأن أجعلهم يسيرون علي نفس درب أبيهم .

وأما أم نضال فرحات ـ حماة الشهيد ـ فقالت: نعم الابن، ونعم الزوج لابنتي، ونعم القائد عماد عباس . وربما لن تصدقوا أن دموع خنساء فلسطين بدأت في ذرف العبرات، وعندما تبكي أم نضال فبالتأكيد لن تكون الشخصية التي تبكي عليها بالعادية، إذ أضافت تقول: كان عماد مميزًا قائدًا فذًّا، ولما استُشهد شعرت بشيء انتُزع من ضلوعي، كان يخبرني بأعماله ويحدثني عن انتصاراته، عائلتي وعائلته لم تتشارك بالنسب فحسب، بل شاركنا بعضنا بالجهاد والمقاومة، عماد كان خجولاً متواضعًا، طيبًا وحنونًا.. رحمه الله.. وعزاؤنا في التلاميذ والأجيال التي تركها .

أوجع العدو وألهب مشاعر شباب فلسطين:

مجاهدة من نوع خاص، حديثها القرآن والشهادة والدعاء للمجاهدين، تتذكر وصيتها لابنها الشهيد إذ قالت: اضرب علي رؤوس الأعداء واقتلهم واطردهم من بلادنا .

تلك هي خنساء فلسطين، حين جهزت ابنها وودعته للشهادة، وتقول متذكرة الشهيد محمد فتحي فرحات الذي اقتحم مستوطنة عتصمونا ، كبري مستوطنات مجمّع غوش قطيف الاستيطاني، حيث خاض الشهيد معركة شرسةً بسلاحه الآلي وقنابله مع جنود الاحتلال في الأكاديمية العسكرية التابعة للمستوطنة استمرّت زهاء ساعة، تمكّن خلالها من اقتحام مقرّ الأكاديمية العسكرية، وأطلق النار من رشاشه باتجاه مجموعةٍ من العسكريين كانوا يتلقّون تدريبات عسكرية تمهيداً لدخولهم في صفوف الجيش الإرهابيّ الصهيونيّ، وتمكّن الشهيد من إفراغ تسعة مخازن من الذخيرة، إضافةً إلي إلقاء ست قنابل يدوية كانت بحوزته داخل غرف الأكاديمية مما أسفر عن مقتل سبعة صهاينة وإصابة 22 آخرين بجروحٍ قبل أن يروي بدمائه الطاهرة تراب هذه الأرض.

احتضنته خنساء فلسطين طويلاً، وطبعت علي وجنته القبلة الأخيرة قبل لحظة الفراق الأخير بينهما، ثم أخذت توصيه بأن لا يعود إليها إلا شهيداً يرفع رؤوس جميع من خلفه ويشار إليه بالبنان، ويقدم نموذجاً فريداً في التضحية والجرأة. وما هي إلا لحظات حتي عاد محمد فرحات إلي أمه مسجي في نعشه، بعد أن تمكن من تلقين العدو درساً قاسياً في القدرة علي اختراق الحواجز والإجراءات الأمنية، بشكل اضطر رئيس أركان الجيش الصهيوني شاؤول موفاز للخروج عن صمته ليصف الوضع بأنه حرب حقيقية جعلت قادة الجيش مذهولين وفي حيرة من أمرهم في كيفية اختراق هذا الشبل كافة الإجراءات الأمنية والحواجز والأسلاك الإلكترونية وينفذ عمليته بكل هذه الجرأة.

نعم، إنها الأم التي أنجبت الأبطال، تقول مفتخرة: نذرت أولادي الستة لله، ودفعت بابني الشهيد محمد لسباق زميله في نيل شرف مقاومة قوات الاحتلال، وقلدت ابني السلاح، وودعته الوداع الأخير، قبلني لآخر مرة، وأوصيته بالثبات حتي يلقي ربه شهيداً، وجلست تلك الليلة منتظرة استشهاده. ولا أنكر أني جزعت في البداية، لأني أيقنت أني أعد الأيام الأخيرة لولدي الخامس، وبأني أخوض الامتحان الحقيقي، صراعاً بين المباديء وعاطفة الأمومة، ولكن ما كان يعطيني الصبر هو إيماني ودعائي لله أن يقبله عنده شهيداً، فهذا ما ربيت عليه أبنائي: حب الله، وحب الوطن، وأن يطلبوا الشهادة في كل وقت، لأن الموت هو نهاية كل إنسان، فلماذا لا ندعو الله أن نموت شهداء؟ وما دمنا نعيش في ظل الاحتلال، ونقاوم ونناضل كل يوم من أجل نصرة قضيتنا، فما الغريب في أن نطلب الشهادة من الله؟ هذا الشيء لا يعرف قيمته إلا من يجـــمع قلبه بين حب الله وحب الوطن .

إنها أم نضال، كانت تضع إلي جانبها بندقية ابنها، وما أن سمعت بنبأ استشهاده وتنفيذه للعملية حتي أطلقت منها زخات من الرصاص في الهواء، وفي صباح اليوم التالي كانت تجلس بكل شموخ وكبرياء في حفل عرس ابنها، معصبة رأسها بعصابة خضراء مزينة بشعار التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله ، لتستقبل المهنئين والمهنئات باستشهاد نجلها، وتخاطب الجميع بكلماتها الصادقة المخلصة: عشت أنا وولدي أياماً جميلة قبل استشهاده .

وتتذكر خنساء فلسطين الأيام الجميلة التي عاشتها مع ثمرة فؤادها، وتقول: استشارني قبل ذهابه إلي العملية التي كان موعدها بين مد وجزر بسبب بعض الظروف، وحينما اكتمل التخطيط شعرت بسعادة كبيرة، لأن ابني سيكون من بين الشهداء المدافعين عن أرضنا ومقدساتنا، أما محمد فقد سيطرت عليه حالة من الفرح لم أعهدها فيه من قبل. أوصيته أن يستعين بالله، ويجعل الله عز وجل في قلبه، وأن يذكر اسم الله علي كل شيء، ويركز في مقاومته للصهاينة، وأن يلتزم بتعليمات إخوانه المجاهدين وينفذها بحذافيرها، وأن يجعل عمله خالصاً لوجه الله وعدم التسرع بإطلاق النار. وإن أراد القيام بالعملية من أجل أن يقال عنه كذا وكذا فلا يذهب!! طلبت منه أن يطلق الرصاص علي رؤوس الجنود والمستوطنين الصهاينة حتي يوقع أكبر عدد ممكن من القتلي .

الله أكبر… الله أكبر والعزة للإسلام بهذه الكلمات استقبلت خنساء فلسطين خبر العملية وسجدت لله تعالي علي نعمته، وقامـــــت بتـــوزيع الحلوي التي اشترتها قبل العملية خصيصاً لهذا الغرض، وأخذت تسلم علي أبنائها وأهل بيتها، وتقول لهم: مبروك أخوكم الآن في الجنة .

يا بني اذهب على بركة الله

لم تنقطع جموع الصحافيين والصحافيات عن ارتياد منزل أم نضال عقب العملية، مذهولين لجسارتها، مندهشين لقوة إرادتها وثبات فؤادها، مستغربين عملها وصنيعها الذي يبدو كالعملة نادرة الوجود هذه الأيام، إلا أنها كانت تواجههم بلطف، وتستقبل أسئلتهم بثقة وهد

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات