الإثنين 20/مايو/2024

نساء فلسطينيات في الانتفاضة (2)

نساء فلسطينيات في الانتفاضة (2)
لقد رفع رأسي إلى السماء:

والدة الشهيد عماد سليمان محمود أبواسنينة، سألتْها إحدي الصحافيات: كيف جاءتك المقدرة لتزغردي عندما رأيت جثمان ابنك الشهيد في المستشفي؟ فقالت بنظرة حزينة: نحن لا نفرح بموت أبنائنا وبعدهم عنا ولا نحب أن يفارقونا، وأنا لم أزغرد لأنني فرحة باستشهاد ابني، بل إنني فخورة به ومعتزة بتاريخه، لقد زغردت لكي أرد كيد العملاء والخائنين .
وتضيف: إن ابني يونس تزوج قبل استشهاد عماد بأربعة أيام فقط، ولم أزغرد للعريس. وقد تممنا زواجه علي عجل، لأني كنت علي يقين بأن عماد سيستشهد، وبررت سبب العجلة بقولي: إن عماد يضع قدمه الأولي في القبر والثانية في الدنيا. فقد كان يشارك بفعاليات الانتفاضة منذ أن كان عمره 9 سنوات، وتدرج بالعمل العسكري، حيث بدأ بإلقاء الحجارة في الانتفاضة الأولي، ثم إشعال إطارات السيارات، ثم إلقاء الزجاجات الحارقة، ثم حمل الرشاش مع بداية انتفاضة الأقصي حيث لم يكن يفارقه أثناء نومه. واستشهد دون أن يملك من حطام الدنيا إلا شيكلاً واحداً، وبندقيته وملابسه التي يرتديها .
الحمد لله، أنا فخورة به، لقد رفع رأسي إلى السماء .

فواز الدهشان

الاستشهادي فؤاد مصطفي الدهشان، الذي استشهد أثناء اقتحام مستوطنة دوغيت بتاريخ 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2001، يكتب في وصيته موجهاً الحديث لوالدته: وأنت يا أماه: أقف صامتاً أمامك، ثم أقول: يا أماه اصبري واحتسبي عند الله شهيداً، وافتخري أن ابنك شهيد، وارفعي رأسك شامخاً لأن الله أخرج من بين يديك مجاهداً مدافعاً عن المسجد الأقصي وفلسطين، ينوب عن المسلمين لرفع الظلم عن المظلومين، ثم إني أوصيك بأن تكثري من الدعاء لي، وادفعي بإخوتي إلي المسجد ليتأدبوا بآداب الإسلام ويتخلقوا بأخلاق القرآن.
لقد قلت لك يا أماه: إنني سأذهب إلي رحلة، نعم أمي، رحلة إلى الجنان لألقى الأحبة: محمداً وصحبة.

وهذا الطريق الذي سار عليه فؤاد وإخوانه الشهداء والاستشهاديون، لا يسير فيه إلا الرجال ذوو الهمم العالية والقدرات والطاقات الإيمانية، طريق الباحثين عن الشهادة وجنة عرضها السماوات والأرض، حري به أن يكون من ورائه أمهات لا يصعقهن خبر استشهاد أبنائهن، لأنهن كن متوقعات استشهادهم في أي لحظة.

فيتقبلن النبأ، مثل والدة الشهيد مروان أحمد حمتو النجار، بالفرح والزغاريد وتوزيع الحلوي وحمد الله، ويحتسبن شهيدهن عند الله علي أن اختار ابنهن شهيداً في سبيله. ومن هنا، لم يكن مستغرباً أن ترفض والدة الشهيد علاء محمود عودة الشكري، الذي استشهد في جريمة اغتيال الدكتور إبراهيم المقادمة، تقبل التعازي، وتقول لمن يسلم عليها: إنها تتلقي التهاني لاستشهاد ابنها وليس التعازي.

وأما في بلدة كفر راعي، مسقط رأس الشهيد القائد إياد أحمد صوالحة، فقد استجابت العائلة أيضاً لوصية الشهيد، ورفضت فتح بيت عزاء، وإنما فتح بيت لاستقبال المهنئين، وصوت أمه يقول: وقفت معه دوماً وقلبي يدعو الله أن يحميه ويحقق أمنيته. وبعد استشهاده، لست نادمة، فقد أنجبت وربيت بطلاً حمل روحه علي عاتقه وهز الكيان اليهودي بكافة أركانه؛ بل إنني فخورة بولدي، وأتمني لو أنجبت عشرة أبطال مثل إياد؛ إياد حي لن يموت، فكلنا إياد وسنمضي علي دربه .

وجسدت والدة الاستشهادي عبد الباسط، صورة الخنساء الفلسطينية، حين وقفت في عرس شهيدها، لتقول: لقد كنت فخورة به وبما عمل، رغم أنني ككل الأمهات فجعت به، لكوني لم أرهُ منذ ثمانية شهور، وكنت أجهز لعرس عبد الباسط الذي كان مزمعاً إجراؤه في شهر تموز (يوليو)، ولكن فازت به الحور العين، فهنيئاً له الجنة، وربنا يجمعني معه يوم القيامة؛ الله يرضي عنه ويجمعني معه يوم القيامة، وأتمنى من كل شاب فلسطيني أن يفعل ما فعله عبد .

ام يوسف تستقبل

في مخيم جباليا، استقبلت أم يوسف جثمان ابنها الشهيد وسام فايز يوسف حسن، الذي استشهد فجر يوم الأحد الموافق 26 كانون الثاني (يناير) 2003م، أثناء تصديه للاجتياح الغاشم علي حي الزيتون بمدينة غزة بكلماتها التي تبث الحماس والقوة في النفوس، حيث قالت: نم قرير العين يا وسام، فبعدك أخوك وسيم سيكمل المشوار، إنني فخورة باستشهاده، وإنني أشد علي يد أخيه التوأم وسيم لسلك درب أخيه في سبيل الله، واحتسب فراقه عند الله سبحانه وتعالي .

وتكاد كلمات أمهات الشهداء محمد زياد الخليلي ورامز جمال أبوغالي وراوي حسن أبوكميل متطابقة رغم اختلاف الأماكن والأزمنة. فقد تحاملت والدة الاستشهادي محمد الخليلي علي أمراضها المزمنة، وقالت للمهنئين باستشهاد ابنها: الحمد لله، نال ما تمناه دائماً، والحمد لله علي الشهادة . وأما والدة الشهيد رامز أبوغالي، فقالت: الحمد لله علي استشهاده، فهو شفيع لي ولأبيه ولأهله يوم القيامة بإذنه؛ ورامز لم يمت، فاز بجنة عرضها السماوات والأرض، والحمد لله .

أتمنى الشهادة لألحق بابني

أم محمد هي أم لثمانية من البنين، الأكبر قضي 13 عاماً في سجون الاحتلال، والثاني كان مطارداً وما زال مطلوباً لسلطات الاحتلال، حيث غادر عن طريق مصر إلي ليبيا ثم السودان. وأما الابن الثالث، ياسر، فقد أصيب في بداية انتفاضة الأقصي المبارك برصاصة اخترقت جدار قلبه، الأمر الذي استدعي أن ينتقل إلي ألمانيا للعلاج. واعتقل عماد لمدة أربع سنوات في سجون الاحتلال الصهيوني.
ويكتمل لقب أم الأبطال كما أطلق عليها أهل مخيم الشاطئ، لأنها أصبحت أم الشهيد والسجين والمطارد والجريح، حين مضي فلذة كبدها حمدي إلى ربه شهيداً.

فالبطل الذي اعتقل عام 1991م لمدة شهرين، وبتر إصبعان من يده اليمني أثناء محاولته إلقاء قنبلة يدوية تجاه دورية عسكرية إسرائيلية، وأصيب برصاصة في فكه أثناء المواجهات، وقاد مجموعة الطيبة التابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام، ولكنها اكتشفت قبل تنفيذ مهمتها، فاستشهد زملاؤه الأربعة في الاشتباك مع جنود العدو، وتمكن حمدي من الإفلات والوصول إلي نابلس، حيث اعتقل هناك من قبل جهاز الأمن الوقائي، ثم نقل إلى السجن في غزة.

ولم يخرج حمدي من السجن إلا في 23 تشرين الأول (أكتوبر) 2000، إثر قصف طائرات الاحتلال لمركز الأمن الفلسطيني، فحاولوا اعتقاله مرة أخري، لكنه تواري عن الأنظار، وكأنما أراد أن يلتحق بإخوانه الذين كانوا معه في الطيبة ولم تكتب له الشهادة معهم.

وكان حمدي علي موعد مع الشهادة في عرض البحر، فبعد أن مكث في المنزل عند تحرره من المعتقل ساعة واحدة، خرج وهو يقبل والدته قائلاً: يا أمي لن أعود إلي السجن، لقد صممت علي الشهادة . ومضي حمدي إلي ربه شهيداً في عملية غير مسبوقة، حيث فجر نفسه في قارب مليء بالمتفجرات، استهدف زورق دورية للبحرية الإسرائيلية قبالة شواطئ رفح يوم الاثنين الموافق 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2000.
تلك حكاية حمدي عرفات خليل أنصيو (29 عاماً). بيد أن لأمه حكايتها أيضاً، فهي مدرسة في ذاتها، رغم أنها لا تعرف القراءة والكتابة ولا تعرف المعاني السياسية، ولكنها تفهم ألف باء المقاومة.

ريح البيارة

ولم يكن هذا الموقف غريباً، فهي التي هُجِرت طفلة مع أهلها من بيارة كانوا يملكونها قرب يافا لتسكن خيمة في مخيم الشاطئ، فبيت لا يقي من المطر أو الحر، لتربي أبناءها علي معني واحد، وهو الحياة بكرامة أو الموت بشهادة.
ورغم أنها لم تتمكن من وداعه حياً أو إلقاء نظرة الوداع عليه شهيداً، فإن أم الشهيد تؤكد أن صورة حمدي مرسومة في قلبها، وتسمع صوته كلما تحرك موج البحر الذي لا يبعد عن منزلها سوى أمتار، لأنه يحمل إلى أنفها رائحة ابنها الذي تبعثرت أشلاؤه في المياه اثر العملية الاستشهادية.

وتحدثت أم محمد، وهي تستقبل المهنئات باستشهاد حمدي قائلة: سأنظر إلي البحر كلما اشتقت إليه وأدعو له، إني سامحته رحمه الله؛ لقد تمني الشهادة فنالها، ابني مثل كل الشهداء يرفع رأسي في السماء، وما يصبرني أنه حبيب ربه والحمد لله، شهادته في البحر، وشهادة البحر بشهادتين .
لحمدي أن يكون شهيد البحر الأول في انتفاضة الأقصي المبارك، وله أن يهدي لأمه شفاعات كثيرة، لا شفاعة واحدة، يوم ينادي علي الشهداء جنباً إلي جنب مع الأنبياء والصديقين. وأم الشهيد ليست وحيدة، فهي نموذج آخر من نماذج الصبر والعطاء.

زفة الشهيد للحور العين

قبل أيام من زفافه، يأبي إلا أن يزف إلي الجنان حيث تنتظره هناك الحور العين، ذلك أن الشهداء ينظرون بمنظار غير الذي ينظر به بقية البشر، فهم ينتقلون من عالم الأموات إلي عالم الأحياء. ولئن كان مثل هذا العريس الشهيد حالة جهادية قائمة بذاتها، فإن والدته أيضاً تمثل حالة مماثلة بعد انضمامها لقافلة خنساوات فلسطين.

وبكل قوة وإيمان، تجدد والدة الشهيد محمود العمواسي، الذي استشهد في اشتباك مسلح في بلدة بيتونيا القريبة من مدينة رام الله، مشهد خنساء العرب، فقد فاجأت السيدة مريم إسماعيل خليل الجميع، حين رقصت يوم سمعت بخبر استشهاد ابنها، وكانت تقول وهي تستقبل المهنئين بالشهيد: لم أرقص في زفة عرسه، ولكنني رقصت في زفة استشهاده؛ كان عريساً جديداً، استشهد في اليوم الرابع من زفافه . واستأنفت أم إسماعيل حديثها قائلة: إحساسي كأم كان صادقاً، لأن إحساس الأم لا يخيب، فقد كنت أحس بأنه سوف يستشهد. وقلبي كان مقبوضاً، فلم أسعد كأي أم عريس، ولقد حاولت جارتي أن تلبسني الفستان الذي كنت قد خيطته وجهزته لعرس ابني رغماً عني. وحين أصرت علي ذلك، مزقت الفستان دون وعي، ولم أكن أشعر بأية سعادة يوم عرسه، فلم أرقص ولم آخذ الصور التذكارية، وكنت فقط أشعر بحزن وانقباض عميقين .

خالد محمود الزهار

خالد محمود الزهار، شاب يبلغ من العمر 23 عاماً، يحمل شهادة الماجستير في تمويل الشركات الكبري من بريطانيا. وقد عاد في شهر رمضان المبارك إلي قطاع غزة ليعمل محاضراً في الجامعة الإسلامية، وكان علي وشك الزواج، حيث تقدم لخطبة فتاة وتمت الموافقة وتحديد موعد العرس في يوم الجمعة الموافق 12 أيلول (سبتمبر) 2003. ولكن، في صبيحة يوم الأربعاء 10 أيلول (سبتمبر) 2003، بينما كانت السيدة سمية الآغا (أم خالد) وابنتها ريم في المطبخ تعدان الإفطار للعريس الذي كان قد حضر لتوه من الجامعة بعد إلقائه محاضرته، وجلس هو وأبوه القائد الدكتور محمود الزهار يناقشان أمور الخطبة والتجهيزات لها، ألقت طائرة (أف ـ 16) صهيونية قنبلة بزنة 650 كيلو غراماً، لتحول فرحة العائلة بخطبة ابنها إلي مأساة، وضاعت الأحلام تحت الركام، فقد استشهد الابن العريس، وأصيب الوالد والابنة بكسور، وكانت اصابة أم خالد خطيرة في العمود الفقري، ودمر البيت وأصبح أثراً بعد عين.

وفي مستشفي الشفاء في غزة، رقدت الأم الصابرة هي وابنتها علي سريرين متجاورين. ولم تتأكد الأم من استشهاد ابنها إلا في اليوم الرابع من الحادث، عندما حضر الطبيب إليها وأخبرها، وتصف أم خالد تلك اللحظة قائلة: حينها فقدت أعصابي، ولم أعلم بحالي ولم أستطع التحمل، ولكنني صبرت بعد ذلك؛ كنت سعيدة بأن خالد سيتزوج ويصبح لديه عائلة وأنا سأصبح جدة، وكان في غاية من الفرح لأنه سيتم دينه بالزواج. ومثل كل أم هنا في فلسطين، قمت باختيار العروس له، كانت العائلة سعيدة. وكم كنت أتمني أن أزف ابني إلي عروسه بيدي، لكن حور الجنة سبقتني بلقائه وأخذته إلي الجنة التي ستكون من نصيبه إن شاء تعالى.

وبإيمانها الشديد بقدر الله تعالي، وجهت أم خالد خطابها إلي الأم الفلسطينية أن عليها أن تربي أبناءها تربية حسنة تدفعهم إلي عمل الخير، وأن تكون مثل الخنساء تقدم أبناءها للشهادة من أجل الوطن، فتقول: إن الأم الف

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات