عاجل

الأحد 12/مايو/2024

الخطوة الفلسطينية التالية

الخطوة الفلسطينية التالية

صحيفة الاتحاد الإماراتية

“كل تأخيرة وفيها خيرة”. هذا ما يقوله المثل المصري عندما يتأخر حدث منتظر. وقد تأخر تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في فلسطين المحتلة. وكالعادة يبدو أن الخلافات حول توزيع المقاعد الوزارية وأسماء الوزراء، هو سبب التأخير. وربما يكون في الأمر نزاع جديد كبير أو صغير حول المعنى المحدد لخطاب التكليف، حيث يريد الرئيس أبومازن حكومة لا تقف حجر عثرة أمام فك الحصار الاقتصادي المفروض أميركياً، وتشارك فيه قوى عربية ودولية كثيرة. وهو كذلك يريد حكومة تمنحه ترخيصاً بالتفاوض حول قضايا الوضع النهائي مع “إسرائيل” وأميركا.

ولكن حتى لو أمكن تشكيل الحكومة بهذه الطريقة، وأمكن أيضاً فك الحصار الاقتصادي والمالي، فالموقف الفلسطيني قد لا يتحسن كثيراً في الجوهر. فالحكومة الإسرائيلية ليست مؤهلة لتفاوض جاد وخاصة حول الوضع النهائي. والمجتمع الإسرائيلي لا يبدو مستعداً للسلام العادل ولا يواجه ضغطاً جدياً لإجباره على ذلك. والأرجح أن تبقى القضية الفلسطينية معلقة حتى نهاية إدارة بوش، والذي هو أشد تعصباً ضد الحقوق العربية من “إسرائيل” ذاتها.

أما على المستوى الاقتصادي فإن سياسة انتظار فك الحصار المالي تبدو في حد ذاتها أكبر دليل على افتقار المجتمع السياسي الفلسطيني للبوصلة. فالواقع أن فك الحصار المالي في غياب رؤية لمستقبل الاقتصاد والمجتمع الفلسطينيين، قد تنتج عنها مشكلة كبيرة أخرى تصعب تسميتها بمصطلح بسيط، وإن كان الذين تابعوا مسار اتفاقية كامب ديفيد والاتفاقية المصرية الإسرائيلية ومجمل منهج الرئيس الراحل أنور السادات يعرفونها ولو عبر انطباعات عامة. كان السادات يعد المصريين بالرخاء بعد “السلام”. وكلمة “الرخاء” تفيض بإيحاءات غامضة؛ إذ يمكن أن يتحقق الرخاء عبر بناء اقتصاد حقيقي تدار فيه الموارد مهما كانت محدودة بفعالية وكفاءة وعدالة. ويمكن أيضاً تحقيق شعور وهمي بالرخاء بإغراق الاقتصاد بالمال من خارجه.

لم يكن السادات مستعداً لانتظار طويل حتى يأتي الرخاء عبر جهد صبور وعقل متقد وإدارة حكيمة وتعبئة قوية للموارد المتاحة واستحداث الإصلاحات الهيكلية الضرورية لإطلاق النمو المدعم ذاتياً… كان يريد فقاعة مالية كبيرة تشعر الناس بما أسمي وقتها “عائد السلام” لكي ينجح في تعويم كامب ديفيد ومجمل أسلوبه في تسوية الصراع مع “إسرائيل” شعبياً. وهذا ما تم فعلاً لسنوات طويلة. إذ غرق الاقتصاد المصري في فيض من المال: أي أوراق “البنكنوت” التي جاءت بالقروض والمعونات، وعشرات المشروعات المتعجلة والفاسدة اقتصادياً.

لن يختلف الأثر كثيراً في فلسطين إن “دهم” الرخاء الفلسطينيين بهذه الطريقة، مع اختلاف كبير هو أن المصريين كانوا استعادوا أرضهم المحتلة، بينما المطلوب أن يقع “الاسترخاء” الفلسطيني حتى قبل التفاوض الجاد لاستعادة الأرض والحقوق التاريخية المسلوبة. بل قد يكون “الرخاء” بهذا المعنى وسيلة لتوقيف الفلسطينيين عن النضال من أجل هذه الحقوق إلا في الحدود المسموح بها أميركياً وأوروبياًَ.

لكن هل هناك بديل في فلسطين؟

طالما أن طريق التسوية السياسية شبه العادلة، سيستمر مغلقاً لفترة غير محددة، فليس هناك ما يدعو الفلسطينيين لأي تنازل مجاني إضافي. وما جاء في “اتفاق مكة” كاف تماماً لفك ولو جزئي للحصار. والواقع أن ذلك حدث بالفعل ولكن على خلفية اقتصاد محلي متعطل وموقوف. ولهذا السبب فالمهمة الوحيدة التي يمكن للفلسطينيين أن يسيطروا عليها جزئياً وأن ينفذوها بكفاءة وفعالية، من الناحية النظرية، هي إعادة بناء مجتمعهم السياسي واقتصادهم الوطني.

والأداة الرئيسية التي يمكن أن تنجز مهمة إعادة بناء الاقتصاد هي جهاز حكومي كفؤ. وهنا بيت القصيد. فالإدارة الفلسطينية التي أسسها الرئيس الراحل أبو عمار كانت “حكومة محاسيب” وظيفتها توزيع المناصب والدخول على الموالين. وقد وظفت الفقاعة المالية التي تدفقت على الأرض المحتلة خلال الفترة 1996-2000 بنفس الطريقة التي وظفت بها الفقاعة المالية التي تدفقت على مصر خلال الفترة 1987- 1997. وانتهت في الحالتين إلى نفس النتيجة: تدمير القدرة الحقيقية على الإنتاج وإقامة اقتصاد يدمن الأموال السائلة ولا ينتفع بها في تنمية قدراته التنافسية وتحسين إدارة الموارد وخاصة الموارد البشرية. ولذلك عندما انتهت الفقاعة المالية في فلسطين بانبثاق الانتفاضة ثم بفرض الحصار المالي على الشعب الفلسطيني بعد انتخاب حكومة “حماس”، تعطلت آلة الاقتصاد المحلي تماماً ودفع الناس إلى البطالة بل وتوقف دفع المرتبات.

ويمكن لاتفاق مكة أن يبعث للحياة نفس نوع الإدارة أو الحكومة التي أسسها الرئيس الراحل أبو عمار مع فارق وحيد وهو إعادة توزيع المناصب الحكومية بين أنصار ومحاسيب الفصيلين الرئيسيين أي “فتح” و”حماس”. وفي أفضل الأحوال يترجم هذا التوزيع مفهوماً للحكومة بوصفها مجالاً للتوزيع “العادل” للوظائف والدخول. وفضلاً عن أن هذا المفهوم يؤسس للاسترخاء وليس للرخاء الحقيقي، بغض النظر عن حجم الأموال المتدفقة، فإنه قد يقود في النهاية إلى تدمير بنية المجتمع الفلسطيني وربما دفعه للتحلل الاجتماعي والسياسي أو صوملته.

والواقع أن الفلسطينيين يحتاجون أشد الحاجة إلى مفهوم بديل تماماً للحكومة: أي لمفهوم ينظر للحكومة باعتبارها القاطرة التي تشد الاقتصاد إلى التقدم بالإمكانيات والقدرات الذاتية والتي تستكمل بناء الأمة بتزويدها بمنظومة مؤسسات نزيهة ومقتدرة. يكفي هذه الحكومة أن تنهض بالأمة كلها بتوظيف طاقاتها وتنمية إبداعاتها ومن ثم تعظيم قدرتها على الصمود وإنتاج نموذج للمقاومة يبهر العالم ويترجم في نهاية المطاف إلى عائد سياسي كبير فيما يتعلق بقضايا الحل النهائي، حتى لو لم يستخدم صاروخ واحد أو يقوم بعملية استشهادية واحدة.

والواقع أنه يمكن لهذه الحكومة أن تفعل الكثير للقيام بهذه المهمة. فالشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، يملك خبرات وموارد بشرية ومعرفية وعلمية وتكنولوجية ومالية لا حدود لها. ووظيفة هذه الحكومة هي أن تستوعب هذه الخبرات وأن توظفها وتمكنها من الانطلاق بالاقتصاد إلى الأمام عن طريق الاستثمار في الفروع عالية الإنتاجية لخلق اقتصاد ديناميكي وقادر على تنمية ذاته بذاته. وبمجرد أن تدعو هذه الحكومة الخبرات الهائلة من رجال الأعمال والخبراء الفلسطينيين في الخارج لانتشال اقتصاد بلادهم من الإملاق والإفقار والطفيلية وأن توفر لهم أجواء عمل معقولة وخلاقة، يمكن لهؤلاء أن يجروا معهم آلافاً من الخبرات الأجنبية المتعاطفة مع الشعب الفلسطيني والقادرة على إسناده ودعم صموده الاقتصادي والسياسي.

والحقيقة أن طرح هذا المفهوم للحكومة يمكن أن يصبح قاعدة لاستراتيجية وطنية فلسطينية جديدة إذا استكملت من الناحية السياسية بإنشاء تحالف عالمي من أجل العدالة للشعب الفلسطيني ومكنت المجتمع المدني العالمي من العمل المباشر من داخل وخارج الأرض المحتلة لدعم كفاح هذا الشعب. كما يمكن لهذه الاستراتيجية أن تستكمل عبر سياسات ثقافية خلاقة وجديدة.

وبإيجاز فالخطوة التالية بالنسبة للشعب الفلسطيني هي وقف النزاع على توزيع المناصب والبدء بتطبيق مفهوم جديد للحكومة ينزع طابعها الفصائلي والولائي ويمكنها من إعادة بناء الاقتصاد ومؤسسات الدولة.

سيكون هذا التطبيق هو الانتفاضة الثالثة للشعب الفلسطيني وطريقه الصحيح للنصر.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات