السبت 11/مايو/2024

مرة أخرى: الشرق الأوسط مشروع للهيمنة أم للانعتاق؟

مرة أخرى: الشرق الأوسط مشروع للهيمنة أم للانعتاق؟

صحيفة الوطن السعودية

في الحديث السابق، لخصنا بشكل مركز ما جاء في مقالتين نشرتا في أوقات متقاربة بصحيفتين محليتين، نظرتا لمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، باعتباره معبراً لتحقيق التمدين والديموقراطية، والحكم الصالح وبناء مجتمع معرفي وتوسيع الفرص الاقتصادية، وتحديد آليات تطبيقها، وأكدتا على مشروعية التدخلات الخارجية في بلدان العالم الثالث، حتى وإن كان ذلك بصيغ الاحتلال، كما حدث للعراق وأفغانستان. إن هذه التدخلات من وجهة نظر الكاتبين، تعبير عن المصالح والأهداف والقيم الإنسانية الكونية المشتركة في عدم إفساح المجال لأي طاغية في التلاعب بمصائر شعبه ومواطنيه. وقد وعدنا القارئ الكريم بمتابعة وتناول أهم المحاور التي سردت في المقالتين المشار إليهما، بالتفكيك والتحليل. وذلك ما سوف نحاول التركيز عليه في هذه المقالة.

ابتداء، يمكننا القول إن ما ورد في المقالتين المشار إليهما يمكن اختزاله في ثلاثة محاور: الترويج لمشروع الشرق الأوسط الجديد، وتبرير التدخلات الخارجية في شؤون البلدان الأخرى، والتبشير بالقيم الليبرالية الغربية. إن ما عدا ذلك من حشو ورد في المقالتين جاء في شكل أقنعة يجري التلفع بها من أجل تحقيق توريات بدت مفضوحة منذ البداية، وحتى النهاية. ولذلك فإننا لن نستغرق كثيراً في ملاحقة ومحاكمة الألفاظ والتعابير، خاصة وأن الافصاحات اللاحقة عن المقاصد المكبوتة قد كفتنا مؤونة الرحلة.

المحور الأول، مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، فسوف نحاول تناوله منهجياً، لنكشف تهافت أطروحاته. التعابير الجغرافية تكتسب صفة الثبات النسبي، فهي ليست خاضعة في توصيفاتها وتحديد مفاهيمها للمتغيرات في السياسة الدولية واختلال توازن القوى، صحيح أن السياسات والاستراتيجيات العسكرية تتغير، وتتحرك بسرعة تبعاً لتغير المواسم.. وكنتيجة طبيعية للتخلخلات في ميزان القوى العالمي، ولكن الجغرافيا: بحاراً وأنهاراً ومضائق وجبالاً وودياناً ومناخاً، وثروات وبشراً وثقافات ومواريث خاصيتها الثبات النسبي، التحولات فيها بطيئة جداً، غير مدركة في الغالب إلا بالتشريح والتبضيع، وتكاد تكون غير مرئية، يمنحها التقادم والمعايشة قدسية وهوية وانتماء، وتعابير وطنية، يصل الالتزام بها حد التضحية بالنفس.

الشرق الأوسط الجديد، وفقاً لهذا التوصيف، وأيضاً لأسباب أخرى سنأتي حالاً على ذكرها، ليس توصيفاً جغرافيا، وإنما هو توصيف لاستراتيجيات عسكرية، دخلت قاموسنا السياسي، بقوة منذ مطلع الخمسينيات. وكان قد ورد في المعجم السياسي للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. حاله حال مفردات أخرى، أريد لها من قبل المستعمر أن تشكل جغرافيا جديدة لمنطقتنا، كشرق السويس، ودرة التاج البريطاني، والساحل المتصالح..

ولأن الأرض كروية، وقد شاءت حقائق الصراع الدولي، في مرحلة تاريخية محددة، أن تكون لندن عاصمة بريطانيا هي العاصمة للكرة الأرضية، وأن يكون توقيت ساعتها “غرينتش” المنصوبة في قلب المدينة، هي التوقيت الدولي لعموم البشرية، فإن موقعي الشرق والغرب يتحددان على ضوء موقع عاصمة العواصم. وهكذا تحدد الشرق الأدنى والأوسط والأقصى تبعا لموقعه من مدينة المدن. إذن فالتعبير عنصري ومتحيز ابتداء، لأنه يعتبرنا مجرد أطراف نائية في معادلة الهيمنة والقوة. ورفض الاستعمار وملحقاته، من قبلنا، يعني في أبسط أبجدياته رفضاً لكل تركته.. بما في ذلك رفض سياسة التجهيل والترويع والتضليل والخداع.

الشرق الأوسط، إذن ليس جغرافيا، ولكنه أحد المسميات لاستراتيجية الهيمنة على منطقتنا. وهو كما تم استخدامه من قبل مروجيه، يتضمن حدوداً فضفاضة، قابلة للانكماش والتمدد، وينضح توصيفه بعدم دقته. فالإشارة إلى الشرق الأوسط الكبير بحد ذاتها تحمل بديهية أن هناك أكثر من شرق أوسط، وإلا لما كانت هناك حاجة لتحديد صفة “الكبير”، إنها تعني أن هناك شرق أوسط من نوع صغير الحجم، وآخر ربما من نوع متوسط الحجم، وآخر أراده صناع السياسة الأمريكية أو الغربية أن يكون كبيراً. وتوصيف الجديد، يتضمن معنى بوجود شرق أوسط قديم، تماما كما قال رامسفيلد بوجود أوروبا قديمة وأخرى جديدة.

إن الذي يمنح المفهوم الجغرافي مشروعيته، من وجهة نظر صناع السياسة الدولية، هو مدى مواءمته لاستراتيجية الهيمنة، وتبعاً لهذه الاستراتيجية يتمدد وينكمش. إنه إذن، بمنطق الأشياء، حزام استراتيجي وعسكري أمريكي جديد يضيق ويتسع تبعاً لإرادة وقدرة صانعي سياسات الهيمنة.

وإذا كان علينا أن نتعلم من الذاكرة التاريخية، باعتبارها معلماً أكبر، فقد كان هناك مشروع آخر، مماثل قاده رئيس أمريكي آخر في بداية الخمسينيات، هو أيدوايت أيزنهاور حمل ذات الاسم.. مشروع الشرق الأوسط. وهو مشروع شاء صانعوه أن يكون برنامجاً لملء الفراغ الناتج عن هزيمة الاستعمار التقليدي نتيجة للضربات المتلاحقة الماحقة التي أوقعتها الحركات الوطنية في آسيا وإفريقيا، وبضمنها وطننا العربي بالاستعمار التقليدي. وكان سقوط حكومة عدنان مندريس في تركيا، وموقف عدد من القيادات العربية المناوئ لسياسة الأحلاف والقواعد العسكرية قد أودى بمشروع أيزنهاور للشرق الأوسط وملأ الفراغ وعلى أنقاض ذلك المشروع، جرت محاولة صياغة حلف جديد عرف بحلف بغداد، وقفت في وجهه عواصم عربية رئيسية في الرياض والقاهرة ودمشق، وقبر في صبيحة 14 يوليو عام 1959، عندما قام انقلاب عسكري أعلن خروج العراق من الحلف، وطرد البريطانيين من قاعدتي الحبانية غرب بغداد والشعيبة في مدينة البصرة.

إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، اجتمع زعماء عرب في أنشاص وقرروا تأسيس جامعة للدول العربية، عبرت عن انتماء العرب إلى أمة وتاريخ وجغرافيا ولغة وآمال مشتركة. وكانت المشاريع الاستعمارية في جملتها تحاول الحد من تحقيق أي تضامن عربي يؤدي إلى خروج أبناء هذه المنطقة من نفق التجزئة إلى مشاريع نهضوية ووحدوية أرحب. وكانت مواجهة المشروع القومي المعضد بحقائق الجغرافيا والتاريخ، تتم بمشاريع واستراتيجيات أخرى، تتم أحياناً تحت شعار مواجهة الخطر الشيوعي، وأحياناً الخطر الشمولي أو المحافظ. وفي زحمة الضعف و”الحوصان”، أقيم كيان عنصري غريب ومشوه في القلب من الأرض العربية، وفرض على الأمة أن تخوض حرباً غير متكافئة انتهت بنكبة فلسطين عام 1948.

وكانت شروط التوقيع على الاستسلام واضحة وجلية… استبدال المشروع الوطني القومي الذي تبناه القادة العرب في مؤتمر أنشاص، بمعاهدات وأحلاف عسكرية مشبوهة مع القوى التي كان لها الدور الأساس في قيام الكيان الغاصب، وتشريد شعب فلسطين. وكانت تلك المشاريع، وما زالت حتى هذه اللحظة في جملتها تواطؤاً استعمارياً في الغالب، ومحلياً في بعض الأحيان على التاريخ والجغرافيا، وعلى جملة المنجزات القومية التي تحققت خلال الستين عاماً المنصرمة، والتي مثلها نشوء جامعة الدول العربية، وميثاقها، وبرتوكولاتها، بما في ذلك اتفاقيات التكامل الاقتصادي، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك.

سرعت حوادث 11 سبتمبر عام 2001م، في نيويورك وواشنطن من الهجمة الغربية على المشروع الوطني القومي، تحت يافطة مكافحة الإرهاب، وفرض الديموقراطية والتمدين على أبناء هذه المنطقة.. وكانت الشعارات الجديدة مقدمة لمقايضات بدأت منذ منتصف السبعينيات حين دخلنا في نفق التسوية، وجرى التوقيع على معاهدات مهينة في كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، تنكرت للدماء الزكية التي سالت دفاعاً عن الحقوق العربية، كما تنكرت لحقوق أربعة ملايين لاجئ فلسطيني لا يزالون يعيشون في الشتات، وتنكرت أيضاً لحق جميع المسلمين والمسيحيين في قدس الأقداس. والمطلوب الآن بوضوح ودون مواربة هو استبدال المشروع الوطني القومي، وجامعة الدول العربية بمشروع إقليمي آخر، قوته الضاربة وعماده الكيان الغاصب “إسرائيل”، وعلى أولئك الذين يطمحون إلى التمدين والديموقراطية أن يراجعوا قدراتهم العقلية، فالمقايضة لن تكون على حساب المشروع الوطني والقومي، فحسب بل ستكون أيضاً على حساب التمدين والديموقراطية، والتطلعات الإنسانية المشروعة في الحرية وحق تقرير المصير..

وسوف تكون لنا محطات أخرى مع هذا المحور وبقية المحاور، بإذن الله.

* كاتب أكاديمي سعودي متخصص في السياسة المقارنة

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات